ــــــــــ
تأسس الجهاز الاستخباراتي الأمريكي الأكبر “وكالة الأمن القومي NSA ” يوم ٤ / ١١ / ١٩٥٢م، وعندما يدور الحديث عن المخابرات الأمريكية غالبا ما تُذكر وكالة المخابرات المركزية (CIA) أو هيئة التحقيقات الاتحادية (FBI)، وهما الجهتان اللتان تنفذان معظم العمليات الاستخباراتية والتحقيقات الجنائية، المعروفة نسبيا، هذا مع أن جهاز الاستخبارات الأمريكي الأخطر شأنا، والأكبر عددا، والأعلى ميزانية، والأوسع صلاحية، والمرشح أن يكون له الدور الأنشط في المستقبل (هذه الكلمات من عام ٢٠٠١م وظهرت شواهد عديدة لاحقا على صحتها) هو جهاز آخر، قلّ ما دار الحديث عنه، ويحمل اسم وكالة الأمن القومي (NSA). ويشير إلى أهمية الموقع المتميّز لهذه الوكالة في شبكات الاستخبارات الأمريكية ما تناقلته وسائل الإعلام، وأثاره المسؤولون السياسيون لا سيما الأوروبيون، بشأن “برنامج إيشلون” الإلكتروني التجسسي، والذي سبب توترا شديدا على جانبي المحيط الأطلسي، وقد ظهر أنه – على النقيض مما تردد أحيانا – لا يتبع للمخابرات المركزية، أي التي تُعتبر مسؤولة عن العمليات الاستخباراتية خارج الحدود الأمريكية، بل يتبع لوكالة الأمن القومي، العاملة خارج الحدود وداخلها.
سرّ الأسرار لثلاثة عقود
من بين سائر مؤسسات الدولة الأمريكية ودوائرها السياسية والعسكرية، وكذلك الشركات الخاصة المحلية والعالمية، تحتل وكالة الأمن القومي هذه مكانة الصدارة من حيث مستوى التخصص التقني المتقدم، فهي في المقدمة من حيث عدد من يشتغل لحسابها من المتخصصين على أعلى المستويات العلمية والتقنية، وعلى وجه التخصيص في قطاعات العلوم المستقبلية، بدءا بالرياضيات وتقنيات الحاسوب، مرورا بالتقنيات الشبكية والإلكترونية، وانتهاء بتقنيات الليزر والرادار. ويعتبر مركزها الرئيسي في “فورت ميدي” في ولاية ميريلاند، مجمعا ضخما، يلتقي فيه العاملون على سائر الأصعدة الأخرى علاوة على التقنيات العالية المشار إليها، من مهندسين وفيزيائيين ومحللين وخبراء في شؤون التنظيم وفي إدارة الأعمال، فتتشابك جهود هؤلاء جميعا وبحوثهم لأداء مهمة مزدوجة عبر وكالة الأمن القومي، إذ تقول عن نفسها بهذا الصدد، إنها تتولى “حماية أنظمة المعلومات الأمريكية، وكشف نقاط الضعف في أنظمة الآخرين”!
هذه العبارة الموجزة عن المهمة الموكولة إلى هذا الجهاز، تواري وراءها ما يتطلب إنفاق عشرات المليارات وتشغيل عشرات الألوف من المتخصصين ولم يُكشف عن العدد الحقيقي بصورة رسمية ولا تشمله الإحصاءات والنشرات العادية، ولكن سبق أن كُشف أمره إعلاميا، ويتأرجح من عام إلى آخر، صعودا على الغالب، ولعل ذروة ما وصل إليه فعلا كان ٩٥ ألف شخص.
إلى وقت قريب نسبيا كان يُسأل عن “وكالة الأمن القومي” فيأتي الجواب بالإنكار الرسمي المطلق لوجودها وبقي ذلك منهجا متبعا ومثيرا للسخرية والغضب الإعلامي المكبوت في كثير من الأحيان، على مدى ثلاثة عقود متوالية، فقد كان الرئيس الأمريكي الأسبق هاري ترومان صاحب القرار بتشكيل وكالة الأمن القومي، ونفذ القرار عام ١٩٥٢م، واستهدف القرار في حينه الأخذَ بما ورد في دراسة عُرفت باسم “تقرير براونيل”، أكدت ضرورة توسيع نطاق التنسيق الأمني ليشمل القطاعات غير العسكرية، وعدم الاكتفاء بما كان يتم إلى ذلك الحين عن طريق “وكالة القوات المسلحة” التي سبق إنشاؤها عام ١٩٤٩م.
على أن الجهاز الجديد البديل الذي تقرر تشكيله من جانب رئيس الدولة مباشرة، والشامل للقطاعات العسكرية والمدنية، بقي سرا من أسرار الدولة على أعلى المستويات، لا يعرف بوجوده إلا عدد محدود من المسؤولين السياسيين والعسكريين، ولا يجد ذكره أصلا الطريق إلى تصريح رسمي، أو مقال إعلامي، أو وثيقة رسمية، وهذا على امتداد ٣٠ عاما من وجوده وعمله، أي حتى نُشر عام ١٩٨٢م ولأول مرة كتابٌ يحمل عنوانه اسم الوكالة غير الموجودة رسميا إلى ذلك الحين، وقد وضعه المحرر الإعلامي المعروف آنذاك جيمس بيمفورد، وأورد فيه من المعلومات الموثقة ما لم يعد يمكن معه إنكار وجود الوكالة من حيث الأساس، فبدأ الكشف عن طبيعة عملها، في حدود ما يريد المسؤولون بطبيعة الحال، أو ما لم يعودوا يملكون أمر التمويه عليه لانكشافه.
المهام “الرسمية”
تقول الوكالة عن نفسها إنها هيئة قائمة على “تقنية التشفير المعلوماتية”، وإنها تمثل العمود الفقري لجميع الدوائر الرسمية العليا والقيادات العسكرية الأمريكية الرئيسية، إذ لا يوجد برنامج إلكتروني يتعلق بتسيير العمل في هذه الأجهزة، إلا ويوضع تحت إشرافها، وتحمل مسؤولية تأمينه من أي اختراق خارجي. وقد اتسع نطاق مهامها عندما أضيف إليها عام ١٩٧٢م – أي قبل الكشف عن وجودها بعشرة أعوام – ما يُسمى جهاز الخدمات الأمنية المركزية (CSS)، فأمكن بذلك جمع جهود البحوث العلمية والجهود الاستخباراتية الإلكترونية بين القطاعين المدني والعسكري، إذ كان الجهاز المذكور يعمل على مستوى القوات العسكرية الأمريكية ويعتبر نقطة التقاء الخدمات الأمنية للمشاة والبحرية وسلاح الطيران والآليات، بهدف ضمان تكامل عملياتها العسكرية، وأصبح المدير العام لوكالة الأمن القومي رئيسا للجهاز التوأم أيضا، وهو – ساعة كتابة هذه السطور(٢٠٠١م) مايكل فون هايدن، المعروف بسيرة حياة عسكرية واستخباراتية شاملة ومتنوعة المجالات، ويؤكد أن التفوق الأمريكي عالميا رهنٌ بالتفوق “المعلوماتي” والقدرة على البحث والتحليل وتوظيف النتائج، وهذا بصورة موازية للحيلولة دون تحقيق مثل ذلك من جانب العدو.
وقد ورد في “الصيغة الاستراتيجية القومية” للولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٩٩م، أن “القدرات الأمريكية في ميادين التقنيات الذكية هي الوسائل الأساسية لتوفير طاقة قادرة على تنفيذ الأهداف الاستراتيجية”، وأشارت “اللجنة الأمنية المشتركة” إلى دور الوكالة بهذا الصدد على أساس أن أنظمة المعلومات وشبكاتها هي الساحة الرئيسية لمسائل الأمن خلال العقد الحالي من السنوات وربما لفترة طويلة من القرن الميلادي الجديد، من حيث ضمان الأمن الذاتي والتعرف على الأخطاء المحتملة.
يجري التنسيق المطلوب عبر “مجلس أمن الدولة” اعتمادا على عضوية كبار المسؤولين من مختلف الأجهزة المعنية فيه، ويعتمد على “الإدارة المركزية للتقنيات الذكية”، حيث يتم إعداد الوثائق الأخيرة، التي تُرفع إلى رئيس الدولة والقادة العامين للقطاعات العسكرية الرئيسية، ولهذه الإدارة صلة مباشرة بالأقسام التقنية والمعلوماتية المعنية في مختلف الميادين العسكرية والمدنية ذات الأهمية في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويشمل التنسيق المذكور وكالة الأمن القومي، ومجلس أمن الدولة، والمخابرات المركزية، وهيئة التحقيقات الاتحادية، والوكالة الاتحادية للصور والبيانات، ومخابرات وزارة الدفـاع، ومكتب التحقيقات القومي، وهيئة الطاقة، ومقاسم التقنيات الذكية في قطاعات المشاة والبحرية وسلاح الجو والآليات، وما يسمى “مقسم الواقع الآني”.
وأهداف التنسيق الرسمية المعلنة هي:
١- تأمين المعلومات التقنية والدفاعية لصانعي القرار السياسي القومي والقيادات العسكرية.
٢- التطوير المتواصل لشبكات التشفير المعلوماتي بتقنيات جديدة لحل المشكلات المطروحة وحماية المعلومات الذاتية.
٣- إعداد القوى الاختصاصية اللازمة لتحقيق أهداف الوكالة ومجلس أمن الدولة.
٤- رفع مستوى الوسائل التنفيذية بمضاعفة فعالياتها وتحسين تشفيرها وحمايتها.
عمليات سرية انكشف أمرها
لا تتحدث الأهداف المعلنة المذكورة عن جانب أساسي وواسع النطاق في نشاطات الوكالة منذ نشأتها، وهو ما تقوم به من عمليات خارج حدود الولايات المتحدة الأمريكية، ولا يستهان به، وقد سبقت الإشارة إلى أنه يمثل الشطر الثاني على الدوام من كل “عبارة موجزة” تلخص مهمة الوكالة، كتأكيد مديرها العام أهمية التفوق “المعلوماتي” الذاتي والحيلولة دونه لدى العدو. والنشاطات الخارجية هي التي تفسر ضخامة عدد العاملين في الوكالة وضخامة النفقات المخصصة لها، وإن بقي الجزء الأعظم من تلك النفقات طيّ الكتمان، لا يطلع عليه إلا عدد محدود من المسؤولين، وكان بعض ما كشف عنه لبعض نشاطات الوكالة قد بلغ ٢٦،٦ (ستة وعشرين وستة أعشار) مليار دولار عام ١٩٩٧م وازداد مائة مليون دولار عام ١٩٩٨م ثم عاد الكتمان ليشمل هذه الأرقام أيضا، وهي محجوبة عن معظم الأجهزة الرسمية للدولة، وليس عن الرأي العام فقط، فلا تخضع من حيث تقريرها أو مراقبة صرفها إلا للجنتين تابعتين لمجلس الشيوخ، تحملان اسم “لجنة التقنيات الذكية”، إحداهما دائمة التشكيل، وتعملان مباشرة مع مجلس شؤون الدفاع ولجنة إقرار الميزانيات فيه.
وقد ازداد تواتر الشكاوى التي تطالب بتطوير وكالة الأمن القومي، وتوسيع نطاق عملها، وتشير إلى عدم مواكبتها للمتغيرات الدولية بما يشمل قطاع المعلومات أيضا، فقد كانت تعمل في حقبة الحرب الباردة لتحقيق أهداف معينة في أجواء دولية مختلفة، وتبدلت هذه الأرضية الآن، ومن ذلك شيوع استخدام أنظمة المعلومات وشبكاتها عالميا، مما يستدعي تعديل أساليب التفكير والتنفيذ في مناطق وميادين عديدة، وقد يؤدي استمرار الأخذ بالوسائل المتبعة من قبل إلى ظهور مشكلات وقصور في المستقبل القريب، وبما يعرض الهدف الأمريكي بانتزاع مكان الصدارة عالميا للخطر.
وتكشف هذه الشكاوى عن أهمية النشاطات خارج الحدود في إطار عمل الوكالة بمجموعه، كما تشير بصورة غير مباشرة إلى أكثر من إخفاق أصاب نشاطاتها تلك، وهو ما يسعى المسؤولون إلى تعليله، بتأكيد ضرورة تطوير الوكالة، أي بما يشمل زيادة العاملين لديها ورفع حجم ميزانياتها.
ورغم أنه نُشرت في هذه الأثناء تقارير مفصلة عن الوكالة ونشاطاتها، كانت سرية إلى وقت قريب، وبلغ حجمها الوثائقي ما يزيد عن خمسين ألف صفحة، فإن هذه الوثائق لم تكشف عن نقاط الضعف الأساسية في الوكالة، وإن عرضتها لانتقادات جديدة بسبب تركيز بعض نشاطاتها على كبار المسؤولين في الدولة، وهو ما أثار جدلا شديدا في الكونجرس الأمريكي، لا سيما ما عُرف عن نشاط الوكالة وتقاريرها حول الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر وعائلته وأهم المقربين إليه.
وحديثاً فقط كشف جيمس بيمفورد عن المزيد مجددا في كتاب نشره عام ٢٠٠١م بعنوان (Body of Secrets) بعد كتابه الأول الذي كشف به عن وجود الوكالة عام ١٩٨٢م، فأورد معلومات مفصلة وموثقة في الكتاب الجديد عن عدد من القضايا المثيرة، وفي مطلعها مسؤولية الرئيس الأسبق آيزنهاور عن مقتل أكثر من مائتي طيار وجندي نتيجة إصداره الأوامر باستخدام طائرات مقاتلة بعيدة المدى في عمليات استكشافية لحقيقة القدرة الدفاعية الجوية للاتحاد السوفييتي في حينه، مما أدى إلى إسقاط تلك الطائرات تباعا، ويكشف الكتاب عن إقدام آيزنهاور في أعقاب سقوط طائرة من طراز لوكهيد على إلزام أعضاء حكومته بالكذب أمام الكونجرس مع الحنث باليمين، وهو ما كان كافيا للشروع في عملية خلعه من منصبه لو انكشف الأمر في حينه.
كما يكشف الكتاب النقاب عن عمليات أخرى واسعة النطاق للوكالة أثناء حرب فييتنام، وكيف كانت تحذر من مزيد من التورط العسكري الأمريكي – وكان أول جندي أمريكي يسقط في حرب فييتنام من المخبرين العاملين في الوكالة – بينما كان المسؤولون السياسيون يرفضون الأخذ بالمعلومات التي أوردتها الوكالة عن حقيقة قوة الفييتناميين الشماليين، ويميلون بدلا من ذلك إلى الأخذ بمعلومات أخرى خاطئة، باعتبارها كانت تثير اطمئنانهم لمضاعفة التورط العسكري آنذاك وتتناسب مع قراراتهم المسبقة بمتابعة الأهداف العسكرية الموضوعة، وكانوا يحصلون على تلك المعلومات من تقارير وكالة المخابرات المركزية.
ومن أهم ما يكشفه الكتاب الجديد من أسرار مثيرة السبب الحقيقي للقصف الإسرائيلي عام ١٩٦٧م لباخرة “ليبرتي” التجسسية الأمريكية، فعلى النقيض من الرواية الرسمية أن القصف كان بطريق الخطأ، والروايات الأخرى غير الرسمية بأنّ الحكومة الإسرائيلية لم تكن ترغب بوصول معلومات كافية عن مجرى الحرب للأمريكيين تجنبا لوقف إطلاق النار قبل الموعد المناسب للإسرائيليين وهو أسلوب استهدف إشاعة الاعتقاد بأن الأمريكيين كانوا يضغطون على الإسرائيليين أصلا.. على النقيض من هذا وذاك يوثّق الكاتب الرواية القائلة إن ما جمعته الباخرة من معلومات عن قيام القوات الإسرائيلية في سيناء، بقتل بضع مئات من الأسرى المصريين وهم عزل من السلاح، هو ما أرادت الحكومة الإسرائيلية الحيلولة دون الكشف عنه بأي ثمن، فكان قصف الباخرة متعمدا، وقد أودى في حينه بحياة ٣٤ جنديا أمريكي وإصابة ١٧١ آخرين بجراح.
وسيان ما يتم الكشف عنه من ماضي الوكالة، فإن الخطر الأكبر يكمن فيما قد تقوم به في المستقبل بعد أن تضاعفت أهمية التقنيات المعلوماتية وبدأت توضع مختلف الصيغ لحروب المستقبل بما يعتمد اعتمادا كبيرا على تلك التقنيات، التي لا تقتصر على القطاع العسكري فقط، وهو ما يبرز أهمية الوكالة التي تعمل منذ خمسين عاما على الصعيدين العسكري وغير العسكري في وقت واحد، كما تتبين الأهمية المتزايدة لموقعها من شبكات الاستخبارات الأمريكية، عند الإشارة إلى أنها كانت وما تزال من وراء ما عُرف ببرنامج إيشلون التجسسي، الذي لا يقف فيما يجمع من معلومات عند أي حدود كانت تميز بين أعداء وحلفاء، أو بين عسكري ومدني، أو بين شؤون عامة وأخرى خاصة، أو حتى ما بين ميادين علمية وغير علمية، بل يعتمد التجسس من حيث الأساس على جمع كل ما يمكن جمعه، ثم اعتماد عناصر تصفية محددة، لتصنيف تلك المعلومات من حيث قيمتها الأمنية بمنظور “الأمن” الأمريكي، وهذا المنظور يشمل – كما تؤكد طبيعة وكالة الأمن القومي على وجه التخصيص – سائر المجالات التقنية والاقتصادية والعلمية وحتى الفكرية والثقافية، بما يحقق ما يمكن تحقيقه من هيمنة أمريكية عالمية، ويمنع وجود قوة رادعة غير أمريكية، وهو هدف قد يبدو “منطقيا” عند النظر إليه بعيون أمريكية فقط، ولكن يستحيل تحقيقه، بعد أن تداعت أسباب “القبول” بتلك الهيمنة، وهذا مما يفسر شكاوى الوكالة من ازدياد منسوب إخفاقها في الآونة الأخيرة، ولا تتحقق الهيمنة في الأصل إلا اعتمادا على وجود مَن يتجاوب معها ويعتمد عليها ويربط نفسه بها، كذلك لا يتحقق هدف الحيلولة دون وجود قوة مضادة رادعة عند مَن يرفض تلك الهيمنة، إلا اعتمادا على من يتجاوب مع هذا الهدف الأمريكي ويقبل بالمشاركة في تنفيذه.
نبيل شبيب