منظمة الصحة العالمية

ــــــــــ

في السابع من نيسان / إبريل من كل عام يجري الاحتفال بيوم الصحة العالمي والذي اختير ليكون متوافقا مع يوم تأسيس المنظمة العالمية للصحة عام ١٩٤٨م، وقد أصبحت المنظمة موضع المتابعة والجدل الحاد طوال فترة انتشار وباء كورونا / كوفيد -١٩، فهل تملك المنظمة من الصلاحيات والإمكانات ما يسوّغ توجيه أصابع الاتهام إليها في سعة انتشار الوباء وارتفاع أعداد المصابين به وأعداد المتوفين نتيجة القصور في الاستعدادات الطبية العامة وفي التعامل معه؟
ثم بعد أن أصبح الأمل الأكبر معقودا على اللقاحات لوضع حد لانتشار الوباء وتفاقم أخطاره، أصبح السؤال الأهم هو عدم توزيع اللقاحات بين البشر بصورة تعبر عن المساواة بينهم، فهل تعتبر المنظمة مسؤولة أكثر من سواها عن ذلك؟

الواقع أن المشكلات ذات العلاقة بالصحة والمرض على المستوى العالمي لم تنقطع من قبل هذا الوباء، وربما ساهم وجود المنظمة وعملها في التخفيف من وطأتها فحسب، إذ كانت البشرية تشهد ارتفاعا مطردا في إصابات مرضية لا تجد وقاية ولا علاجا، وكانت العواقب من نصيب “الفئات الأفقر” عالميا، أي الطبقات الفقيرة في الدول المتقدمة نفسها وغالبية السكان في البلدان النامية، هذا علاوة على ما يسببه انخفاض مخصصات الرعاية الصحية والاجتماعية في الدول الثرية نتيجة السياسات الحكومية المباشرة، وما هو أشد من ذلك في الدول الفقيرة نتيجة أسباب عديدة من بينها ضغوط المصرف المالي العالمي وصندوق النقد الدولي عليها، ناهيك عن الحلف الواقعي الخطير بين أنظمة الاستبداد المحلية وشبكة الاستبداد والفساد على مستوى العلاقات الدولية، وجميع ذلك يؤثر سلبا على الأوضاع المعيشية، ومن خلال ذلك انتشار الجوع والفقر والبؤس، وهي في مقدمة الأسباب الإضافية للإصابات المرضية.

وكان اتخاذ القرار بتأسيس المنظمة العالمية للصحة في الثاني والعشرين من تموز/ يوليو عام 1946م، في إطار عدة قرارات لتشكيل مجموعة المنظمات الناشئة مع قيام هيئة الأمم المتحدة، وتزامن ذلك القرار مع تفشي الأمراض وانتشارها انتشارا واسعا – مثل الكوليرا – في الدول الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، دون وجود جهة دولية مستقلة تساهم في عملية التوعية والتنسيق وتجد الاستعداد للقبول بها على مستوى الحكومات الوطنية.
وسبقت محاولةٌ أخرى للتنسيق على المستوى العالمي بتأسيس “مكتب دولي للصحة العامة” عام 1907م، ولكن لم يبلغ ذلك مستوى تثبيت مهام واضحة، كما كان بعد الحرب العالمية الثانية، أي في إطار التوجه العام نحو تعاون دولي في إطار منظمات ومؤسسات عالمية جديدة.
في هذه الأثناء ارتفع عدد الدول الأعضاء في منظمة الصحة العالمية من 61 عند تأسيسها إلى زهاء مائتي دولة عضو، ولكن هذا النمو العددي واجهه تزايد ضعف مفعول المنظمة، حتى أن عددا من الدول الأثرى من سواها، مثل الولايات المتحدة الأمريكية – قبل وباء كورونا – وكذلك السويد والدانمارك وغيرها، خفضت إسهامها بتمويل المنظمة عن طريق المخصصات السنوية، علاوة على أن عددا كبيرا من الدول الأعضاء لا يسدد المستحقات المالية في موعدها، مقابل ذلك تطالب جهات عديدة المنظمة الدولية بالتوفير في نفقاتها، لا سيما على الصعيد الإداري والتنظيمي.

ربما تجاهل بعض هذه الدول إسهام المنظمة في تحقيق إنجازات كبيرة خلال العقود الماضية، كالقضاء على مرض الجدري، والحد من انتشار أوبئة أخرى كشلل الأطفال والجذام، وكانت هذه الأوبئة سبب كوارث بشرية عديدة ، أسفرت عن إصابة أعداد ضخمة بعاهات دائمة، ولكن لا يمكن القول إن المنظمة أدت بذلك ما يكفي من الأغراض المأمولة منها، فأمامها تحديات أخرى، بعد تجدد ظهور أمراض معدية كان يُعتقد باختفائها نهائيا، إضافة إلى ظهور مزيد من الأوبئة الخطيرة، مثل نقص المناعة / الإيدز، فضلا عن صعوبة مواجهة ظهور مناعةِ مسبباتِ الأوبئة الجديدة تجاه أدوية علاج سابقة، وهو ما يفرض تطويرها باستمرار أو ابتكار الجديد منها، وقد بلغ الأمر مداه في التفاعل مع جائحة كورونا، إذ ظهر للعيان أكثر مما مضى كيف يعبث الفيروس بتبدل خصائصه وتحوّره بالجهود الطبية بينما تعبث السياسات العالمية لا سيما من جانب القوى الدولية الرئيسية، بالمنظمات الدولية مثل منظمة الصحة لتحقيق مكاسب ذاتية وليس لتحقيق الغرض المعلن عند تأسيسها.
وقد ساهمت المنظمة بالتعاون مع منظمات دولية أخرى في تخفيض نسبة انتشـار نقص التغذية بمعدل الثلث تقريبا، وفي ارتفاع متوسط عمر الإنسان في أنحاء العالم، ومن المنتظر لعام ٢٠٣٠م أن يكون عدد من تجاوزوا الخامسة والستين من العمر في حدود سبعمائة مليون نسمة، أي ضعف عددهم في مطالع القرن الميلادي الحادي والعشرين، وهو رقم عام يصب في صالح من يتحدث عن إنجازات المنظمة، ولكن يعيبه التفاوت الكبير إلى درجة التناقض المباشر بين الأوضاع في الشمال والجنوب، أو بين دول ثرية وأخرى فقيرة.

وستبقى التحديات المستقبلية الأكبر أمام المنظمة كامنة في كيفية مواجهة التحالف بين انتشار الجوع والفقر وبين نقص الرعاية الصحية، فأكثر من مليار نسمة – أي سدس البشرية – معرضون بسبب الفقر للإصابة بأمراض معدية أو للوفاة في سن الطفولة، وهو رقم يبلغ أكثر من سبعة أضعاف ما كان عليه الوضع عند تأسيس المنظمة، كما أنه في ازدياد مستمر، والأسباب معروفة، كسوء التغذية، ونقص المياه النقية، وافتقاد الرعاية الصحية.
ومن الأوبئة – مثل الكوليرا- ما تجدد انتشاره ليصيب الملايين سنويا، فهو يعيد إلى الأذهان ما كان عليه الوضع قبل عقود، كما يذكر بانتشار الوباء في أوروبا عبر القرن الميلادي التاسع عشر، فآنذاك قضى على أعداد ضخمة عام 1830م، ولم ينعقد مؤتمر دولي حوله إلا عام 1851م، كما لم يمكن التوصل إلى اتفاق عالمي لمكافحته إلا عام 1897م، وهي فترات زمنية مطولة يمكن أن نقارنها بأسلوب التعامل مع انتشار الأمراض ومواجهتها في الدول النامية، لا سيما الإفريقية، في الوقت الحاضر.

أمام هذه الصورة السلبية يصعب القبول بواقعية ما تتحدث منظمة الصحة العالمية عنه من أهداف سبق أن أعلنت عنها مع مرور خمسين سنة على تأسيسها أي قبيل نهاية القرن الميلادي العشرين، وفي مقدمتها تحسين الأوضاع الصحية في العالم عموما، لا سيما في إفريقية جنوب الصحراء الكبرى، بحيث يرتفع وسطي أعمار النساء خلال 25 عاما تالية، بما يعادل 13 عاما، وبحيث تنخفض معدلات وفيات الأطفال والأجنّة من 34 في المائة آنذاك إلى 15 في المائة خلال الفترة نفسها، والواقع أنه قد مضت تلك الفترة تماما أو تكاد، والحصيلة سلبية للغاية، ولعل أقرب الشواهد على ذلك ما عايشته البشرية من قصور خطير في مكافحة جائحة كورونا.

نبيل شبيب

اليوم العالمي للصحةكورونامنظمة الصحة العالمية