من بين 19 دولة (والاتحاد الأوروبي) في مجموعة العشرين نجد ثلاث دول إسلامية، وهي تركيا وإندونيسيا والسعودية، التي أصبحت تشارك في صياغة أرضية مستقبلية للعلاقات الاقتصادية والمالية العالمية، لا سيما من خلال اللقاءات الطارئة الثلاثة، التي عقدتها هذه المجموعة في عام 2009م، واستقطبت الاهتمام العالمي على ضوء الأزمة الرأسمالية العالمية وأزمة المناخ، بينما كانت المجموعة تعقد لقاءاتها الدورية السنوية منذ عام 1999م، دون أصداء تستحق الذكر، رغم أن نشأتها الأولى كانت للمشاركة في مواجهة تداعيات أزمات سابقة، كأزمة جنوب شرق آسيا. ويمكن التساؤل:
ما هو حجم هذه الدول الإسلامية الثلاث (345 مليون نسمة) في مجموعة العشرين التي توصف أيضا بالدول المتقدمة والناهضة؟
هل يمكن أن تلعب دورا مشاركا فاعلا في صياغة مستقبل نظام اقتصادي عالمي جديد، بعد كل ما هو معروف من شكاوى الخلل الكبير في النظام القائم منذ 1945م؟
هل يمكن عقد توقعات أو آمال ما على أن يكون لذلك أثره على مجموعة الدول الإسلامية التي تضم 56 دولة، ويقطن فيها خمس سكان العالم؟
هل يمكن أن تمثل مع دول ناهضة أخرى دور الجسر الضروري لتقليص التفاوت المعيشي الضخم ما بين دول متقدمة يقطنها 15 في المائة من سكان العالم والدول النامية الغائبة عن مختلف التشكيلات الدولية العالمية الفاعلة؟
أسئلة لا تجد الإجابة عليها في مقال، إنما ستأتي الإجابة على أرض الواقع. وتستهدف الفقرات التالية طرح بعض المعطيات المبدئية، الضرورية لرؤية دور الدول الثلاث بحجمه الطبيعي عالميا، ولاستشراف ما قد يظهر منه للعيان في المستقبل المنظور، وكذلك لبيان ما ينبغي صنعه لتكون الحصيلة “إيجابية” بمنظور عالمي مشترك، وبمنظور الدول الإسلامية والنامية.
أرضية العشرين عالميا
لم تعد مجموعة السبعة، التي توصف بالسبعة الكبار، تمثل أكبر الاقتصادات العالمية وفق المعايير التي وضعتها لنفسها بعد نشأتها الأولى عام 1975م، وقد تحولت من نادٍ اقتصادي تشاوري آنذاك، إلى شبه منظمة تحمل وصف “التنسيقية” شكليا، وتضع المعالم العامة للسياسات الدولية واقعيا، فيما لا يقف عند حدود عوالم المال والاقتصاد.
والدول السبع هي الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وكندا، وأضيف الاتحاد الروسي إليها لتحمل اسم مجموعة الثمانية، وإن بقي “مستبعدا” على أرض الواقع عن مناقشة القضايا المالية والاقتصادية الكبرى.
في هذه الأثناء توشك الصين أن تحتل المرتبة الثانية اقتصاديا، كما أصبحت الهند والبرازيل والمكسيك وكوريا الجنوبية وأسبانيا في مراتب متقدمة بالمقارنة مع الدول السبع.
لم تكن اتجاهات هذا التطور مجهولة، وهو ما جعل الدول السبع المهيمنة “تستضيف” – مبكرا نسبيا – ما يوصف بالدول الناهضة، وكانت الانطلاقة الأولى لذلك عام 1997م فيما سمي مجموعة الـ (22) التي عقدت أولى اجتماعاتها عام 1998م، ثم كانت المحطة التالية فيما وصف بمجموعة الـ (33) في عام 1998م نفسه، إلا أن انبثاق مجموعة العشرين عنها قبل نهاية العام التالي، كان واقعيا بقرار من جانب مؤتمر وزراء مالية الدول الثمانية في إيلول / سبتمبر 1999م، وبقيت مؤتمراتها تنعقد تبعا لذلك على مستوى وزراء المالية وليس على مستوى قمة، حتى عام 2009م.
إن “تشكيل مجموعة العشرين بقرار” جاء إذن مدروسا من جانب الدول الثمانية المهيمنة عالميا، وانطوى على استبعاد عدد كبير من الدول التي كانت مشاركة في لقاء مجموعة الـ (33) من قبل، كما انطوى أيضا على اختيار محدد للدول الإسلامية الثلاث، تركيا وإندونيسيا والسعودية، للعضوية.
وتضم مجموعة العشرين واقعيا (أي مع ملاحظة العضوية المزدوجة وغير المباشرة لبعض الدول الأوروبية) 32 دولة، هي الأكبر اقتصادا في العالم، ولكن يلاحظ أن اقتصاد سويسرا واقتصاد إيران كان من البداية يفوق حجما اقتصاد بعض دول المجموعة، إنما لم تشملهما الدعوة للعضوية فيها، ويصعب القول بوجود أسباب سياسية وراء استبعاد سويسرا، ولكن من العسير استبعادها بالنسبة إلى إيران.
إطار عمل “إضافي” للدول المتقدمة
التطور الكامن في ظهور مجموعة العشرين على المسرح الدولي اقتصاديا، ينطوي على أمرين:
1- لم يعد يمكن للدول السبع التحرك اقتصاديا على المستوى العالمي دون أن تتحرك مع دول ناهضة أثبتت وجودها عمليا، ولهذا “صدر عنها القرار” بتوسيع نطاق أرضية المشاورات العالمية الدورية، كما صدر عنها القرار بشأن اختيار من يراد أن يشارك في هذه التوسعة.
2- بعد أن أصبحت القضايا السياسية والأمنية العسكرية – بمشاركة الاتحاد الروسي باسم مجموعة الثمانية – في مقدمة اهتمامات الدول المهيمنة عالميا، بات هدف المحافظة على موقع زعامتها العالمية رغم المتغيرات الاقتصادية الجارية هدفا حاسما، بما يشمل الميادين الاقتصادية وغير الاقتصادية.
وقد كان هذا التحرك الغربي (مجموعة السبعة) باتجاه توسيع نطاق المشاورات الاقتصادية العالمية، وبالتالي “تشكيل” مجموعة العشرين أيضا.. كان في الدرجة الأولى وليد سياسة الأمر الواقع اقتصاديا، كما فرضته الصين، من خلال نسبة سنوية عالية لما حققته في ميدان النمو الاقتصادي، والتجارة العالمية، والطاقة المالية، على مدى عقدين من الزمن، حتى أصبحت – مثلا – المصدر الأول لشراء السندات الحكومية الأمريكية (الديون على الدولة) ومصدرا رئيسيا لواردات الدول الغربية، وصاحبة الاحتياطي المالي الأكبر من العملات الغربية الرئيسية، والصين مرشحة لتحتل المرتبة الثانية اقتصاديا خلال فترة وجيزة.
في الوقت نفسه بقي حرص الصين كبيرا على الاحتفاظ بوصف “كبرى الدول النامية” نظرا إلى ما تحققه من مصالح اقتصادية كبيرة عبر علاقاتها مع معظم الدول النامية، ومقابل ذلك بقي حرص الدول الغربية كبيرا على عدم الوصول مع الصين إلى موقع الأنداد (عبر العضوية في مجموعة الثمانية مثلا)، وكان البديل عن ذلك هو التوازن الذي يصنعه الانفتاح اقتصاديا عبر مجموعة العشرين على عدد من الدول الناهضة دفعة واحدة.
وهذا الانفتاح مقيد بالسعي لعدم إفلات “خيوط اللعبة المالية والاقتصادية” على المسرح الدولي، وهو مما يؤخذ من أن “قرار” الدعوة الأولى لمجموعة العشرين، جعلها منذ الاجتماع الأول للمجموعة في نهاية عام 1999م في برلين، لا تضم 19 دولة فقط، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، بل تضم أيضا ممثلين عن كبرى المؤسسات المالية العالمية (الغربية واقعيا) كصندوق النقد الدولي والمصرف المركزي الأوروبي والمصرف المالي العالمي.
الدول الإسلامية في مجموعة العشرين
تضم مجموعة العشرين حاليا:
الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وكندا، والاتحاد الروسي (مجموعة الثمانية)، والصين والهند والبرازيل وكوريا الجنوبية والمكسيك وأوستراليا وجنوب إفريقيا والأرجنتين (دول ناهضة) وتركيا وإندونيسيا والسعودية (دول إسلامية ناهضة)، والاتحاد الأوروبي ممثلا برئاسته، مع ملاحظة وجود 4 من دوله الأعضاء بصفتها الذاتية في المجموعة.
وفق المعايير الاقتصادية المتبعة عالميا – تبعا للنهج الرأسمالي الذي يراعي الإنتاج والنمو بغض النظر عن الدخل الفردي والضرورات المعيشية مثلا – يبلغ مجموع الناتج القومي العام (قيمة المنتجات والخدمات) لدول مجموعة العشرين (عام 2007م قبل الأزمة الرأسمالية) ما يعادل 88 في المائة عالميا، ويقطن فيها ثلثا سكان العالم (كما أنها تسيطر على 80 في المائة من حركة الواردات والصادرات تجاريا).
ولكن التفاوت داخل المجموعة كبير، ففي مجموعة الدول الثمانية زهاء 66 في المائة من الناتج القومي العام عالميا (أي 75 في المائة من طاقة المجموعة)، ويقطن فيها أقل من 14 في المائة من سكان العالم (21 في المائة من سكان المجموعة).
أما الدول الثلاث الإسلامية في المجموعة فتنتج 2،7 (اثنين وسبعة أعشار) في المائة من الناتج القومي العام، ويقطن فيها 5 في المائة من سكان العالم.
وإذا كان تشكيل المجموعة نتيجة “قرار” فما الذي يكمن وراء اختيار دول دون سواها؟ هل يقتصر السبب فقط على عنصر “قوة الاقتصاد” وفق المعايير الرأسمالية؟
سبقت الإشارة إلى تناقض ذلك مع استبعاد سويسرا وإيران. وإذا تجاوزنا المعيار الرأسمالي في تحديد القوة الاقتصادية، وأخذنا بصحة القول إن تشكيل مجموعة العشرين يستهدف “التطور الاقتصادي عالميا وتنميويا بما يزيل الخلل المعروف في النظام الاقتصادي العالمي”، فمن المؤكد:
1- أن المال يحتل موقعه كأداة لا غنى عنها، إنما إلى جانب عوامل أساسية أهم في تحقيق النقلة الاقتصادية ما بين “النهوض” و”التقدم”.
2- وترتفع قيمة المال بمعيار احتياجات النهوض بقدر ما يكون من حصيلة “إنجاز” عبر الإنتاج والخدمات، وتنخفض قيمته بهذا المعيار فيتحول إلى قوة شرائية وليس استثمارية، عندما يتم تحصيله من عائدات تصدير المواد الخام والطاقة، ويتم إنفاقه في استيراد المواد المصنوعة والمزروعة.
3- والعنصر الأهم في سلوك طريق النهوض الاقتصادي عنصر مركب يظهر للعيان من خلال مجموع البنية الهيكلية الاقتصادية، للاستثمار والإنتاج وتوازن ذلك مع الخدمات مع توازن حركة التصدير والاستيراد.
4- وترتفع قيمة الإنجاز المتحقق في بلد من البلدان بقدر ما يتحقق عن طريق عدد أدنى من السكان بالمقارنة مع بلد آخر (وهذا أحد الفوارق الأهم ما بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين الشعبية مثلا).
إن ميزات السعودية (من حيث عضويتها في مجموعة العشرين تحديدا) تضمحل وفق هذه المعايير، لا سيما البنية الهيكلية الاقتصادية، بالمقارنة مع دولة إسلامية أخرى كماليزيا.
كما أن ميزات دولة كالمكسيك أو جنوب إفريقيا تضمحل (نسبة الإنجاز إلى السكان) بالمقارنة مع دولة كسنغافورة.
بتعبير آخر:
إن أرضية مجموعة العشرين تمثل وفق التشكيلة التي استقرت عليها عبر عشرة أعوام مضت، ميدانا إضافيا لتعامل “الكبار” اقتصاديا مع الدول النامية، ويكاد يتخذ ذلك صيغة “تحييد” الناهضة اقتصاديا منها، أو “فصلها” مصلحيا عن الأرضية المشتركة بينها وبين الدول النامية الأخرى، كما تكونت خلال أكثر من خمسين سنة سابقة، تضخم فيها حجم الخلل على صعيد العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية عالميا إلى حد بعيد.
معايير تأثير العضوية
لئن “فرضت” الصين الشعبية نفسها عبر إنجازاتها الذاتية على ساحة هذه العلاقات، فما سبق يستدعي النظر في عضوية الدول الإسلامية الثلاث بمنظور عوامل أخرى “فرضت” أو “استدعت” اختيار دول بعينها واستبعاد أخرى في عضوية العشرين. وقد يكون الأقرب إلى الترجيح أن إندونيسيا هي الدولة الأكبر سكانا في المجموعة الإسلامية ولها تأثيرها المعروف في جنوب شرق آسيا، وأن تركيا أصبحت تقف نتيجة الاعتبارات التاريخية والمعاصرة على قدمين، إحداهما في الغرب والثانية في المشرق الإسلامي، بينما يبرز دور السعودية المالي والنفطي، وما ينبني عليه من تأثير خليجي وعربي في الدرجة الأولى.
لا يعني ما سبق “تقويم” عضوية الدول الإسلامية الثلاث في مجموعة العشرين سلبا ولا إيجابا، إنما الهدف وضع هذه العضوية في موقعها كما هي على أرضية العلاقات الاقتصادية (وما يرتبط بها سياسيا وأمنيا) في عالمنا المعاصر.
وسترتبط احتمالات مستقبل التأثير الدولي المحتمل للدول الثلاث في المجموعة ومن خلالها، بعوامل أخرى خارج نطاق هذه العضوية.
إن قوة تأثير عضوية دولة كألمانيا في أي مجموعة عالمية تشارك فيها، لا تكمن في إنجازاتها الذاتية فقط، ولا ترتبط بحجمها مساحة أو سكانا، إنما تعتمد في الدرجة الأولى على حجم علاقاتها الإقليمية القريبة ومتانتها.
وكانت ألمانيا منذ عشرات السنين بين الدول الثلاث الأولى في قائمة التصدير عالميا، إنما يصعب تصوّر ذلك لولا تسويق أكثر من نصف صادراتها في الدول الأوروبية الغربية، ولهذا كان في سلوكها طريق الانفراج نحو الشرق مما أسفر في النهاية عن سقوط الشيوعية وتوسعة الاتحاد الأوروبي شرقا، ما أثار “المخاوف” لدى الدول المتنافسة أوروبيا مع ألمانيا، من أنها ستستفيد أكثر من سواها، باعتبارها ستجد في الدول الشرقية المجاورة لها ساحة إقليمية إضافية للنمو الاقتصادي مع ما يرتبط به في ميادين أخرى.
بغض النظر عن عوامل عديدة أخرى، يمكن القول على ضوء هذا المثال، إن مستقبل تأثير الدول الإسلامية الثلاث في مجموعة العشرين ومن خلالها عالميا، سيرتبط ارتباطا وثيقا بمدى قدرتها على تحقيق إنجازات اقتصادية حقيقية، تعتمد بأكثر من نصفها على الأقل على انفتاح إقليمي واسع النطاق، استثمارا وتعاونا واستيرادا وتصديرا، إضافة إلى ما يرتبط بذلك على الأصعدة الاخرى، كالبحث العلمي والتطوير.
تركيا لم تتحرك في جوارها الإقليمي الإسلامي إلا حديثا، لاعتبارات تاريخية معروفة، وما يزال تحركها يواجه عقبات داخلية وخارجية، ولا يكاد يسهم في تثبيته شيء قدر النتائج العكسية الناجمة عن “عوامل ضغوط دولية مضادة” تستهدف المنطقة عموما.
وإندونيسيا قطعت على المستوى الإقليمي في نطاق ما يسمى دول النمور ومجموعة جنوب شرق آسيا شوطا كبيرا، وهو ما ساهم في وصولها إلى “بوابة” جديدة للتأثير على الساحة الدولية.
والسعودية – كسائر البلدان العربية الأخرى – لا تزال في بداية طريق طويل، يمكن تقدير العقبات القائمة فيه، عند النظر فيما تواجهه المسيرة الخليجية من عقبات، كما في توحيد النقد والتعرفة الجمركية.
إن تغليب المصالح الذاتية بمنظور العامل الإقليمي، العربي والإسلامي، على منظور العامل القطري، لأي بلد من البلدان العربية والإسلامية، ومنها الدول الثلاث في العشرين، هو العنصر الأهم في التنمية القطرية الذاتية، وهو المدخل الأهم للتأثير على الساحة الدولية أيضا.
نبيل شبيب