في فندق صغير من فنادق باريس، في عام ١٩٨٩م، اجتمع النائب الانجليزي ويليام راندال كريمر/ William Randal Cremer، والنائب الفرنسـي فريدريك باسـي / Frederek Passy، يتبادلان أطراف الحديث، ويعبران عن انزعاجهما الشديد من الحروب الأوروبية التي لم تنقطع منذ بدء التأريخ، والتي بلغت ذروة خطيرة في القرن الميلادي التاسع عشر لأسباب عديدة، في مقدمتها الصراع القومي في القارة الأوروبية. ولم تكن توجد إلى ذلك الحين بادرة دولية فعالة للحدّ من تلك الحروب، ولكن لم يمنع ذلك النائبين من دولتين استعماريتين متنازعتين، من إطلاق مبادرتهما الشخصية، وهي تشكيل رابطة صغيرة، تدعو إلى إدانة الحروب وإقرار السلام في العالم؛ ونشأت الرابطة بالفعل من بضعة أفراد، كانوا هم النواة الأولى لمجلس الاتحاد البرلماني العالمي، الذي أصبح يضم في هذه الأثناء وفودا نيابية من أكثر من مائة وأربعين دولة.
نواب دون سلطة تشريعية
لم تكن الدعوة إلى سلام عالمي في تلك الحقبة التاريخية أمرا مألوفا، ولا كانت مهمة سهلة، كذلك لم يكن مألوفا أن تعتمد دعوات من هذا القبيل على جهود فردية، خارج نطاق الحكومات التي كان همها الأول تعزيز مواقع هيمنتها الدولية عبر الصراع الاستعماري وليد ما سمي الاستكشافات الجغرافية، فالهيمنة كانت تعني السيطرة على المواد الخام ومصادر الطاقة، وكان هذا بدوره عصب حياة الثورة الصناعية في سنوات نشأتها الأولى في الغرب. ويؤكّد التجاوب الذي وجدته المبادرة في سنواتها الأولى، مدى التباين الكبير الذي كان سائدا بين توجهات الشعوب وسياسات الحكومات الأوروبية، على صعيد قضية الحرب والسلام الأزلية. وينسجم مع ذلك أن أول شعار تحركت به الرابطة البرلمانية الصغيرة قبل أكثر من مائة عام هو ” الحوار بين الشعوب “، ولم تمض عشرة أعوام على قيامها إلاّ وأعطت الضغوط الشعبية ثمرتها الأولى، فكان من الإنجازات المحسوبة في رصيدها مؤتمر السلام في لاهاي، الذي انعقد مرتين في عامي ١٨٩٩ و١٩٠٧م، وانبثقت عن نتائجه في وقت لاحق محكمة العدل الدولية.
ولكن أوروبا لم تكن مستعدة بعد للوفاق، ناهيك عن السلام، ولم يكن مثل هذه المبادرات كافيا لتغيير مجرى التاريخ ووقاية البشرية من ويلات حربين عالميتين طاحنتين، وقد بذلت الرابطة جهودا خاصة لدعم عصبة الأمم التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن دون جدوى، فقد افتقرت عصبة الأمم إلى شبكة علاقات دولية تتجاوز حدود فكرة “السلام الأوروبي” التي قامت عليها، فضلا عن اقتصارها من البداية على مواجهة الحرب التي أثارتها ألمانيا آنذاك، بترسيخ هيمنة القوى الأوروبية الأخرى كبديل عن الدولة القيصرية الألمانية، وهو ما ساهم في تطورات سياسية لاحقة أوصلت مع نتائج الأزمة الاقتصادية في نهاية العشرينات الميلادية إلى الحرب العالمية الثانية، ثم ازداد ضعف أهمية المنظمة الجامعة لبرلمانيين من أنحاء العالم، عندما تأسست هيئة الأمم المتحدة وانتزعت لنفسها في البداية موقعا احتكاريا لصياغة العلاقات الدولية، فما احتاجت إليه دعوة البرلمانيين إلى إدانة الحروب ودعم الحوار والسلام، هو الأرضية المشتركة عالميا، التي تعلقت الآمال بأن توفرها الأمم المتحدة، وسرعان ما خابت الآمال نتيجة اندلاع الحرب الباردة بين المعسكرين، وتحوّل سكوت ساحة “الحوار” إلى سباق التسلّح وصراع النفوذ.
رغم الظروف الجديدة عالميا لم تفقد الفكرة الكامنة وراء “الأممية البرلمانية” القوة الدافعة التي جدّدت نشاط المنظمة من جديد، فبدأت تبحث عن ميادين التأثير الممكنة خارج موازين القوى الدولية المهيمنة، ودخلت على طريقها الطويل في حقبة جديدة، علامتها الأولى توسيع رقعة نشاطاتها جغرافيا عبر التزامها المطلق بمبدأ “سيادة الدولة وعدم التدخل في شؤونها” وبالتالي عدم التدخل في أسلوب تشكيل المجلس النيابي الذي يكتسب العضوية في المنظمة.. ولم يمنع ذلك لاحقا من العمل على دعم ما يمكن دعمه في اتجاه قيام مجالس نيابية منتخبة، ولعل من العلامات البارزة التي تشير إلى ما وصلت إليه المنظمة دون التخلي عن مبدأ “سيادة الدولة”، هو محاولة التأثير على الحكومات نفسها عبر الأمم المتحدة التي يصنفها المتخصصون في العلوم السياسية تحت عنوان “منظمة بين الحكومات”، فكان أن طرحت المنظمة البرلمانية الدولية على لسان الرئيس الإسباني الأسبق لها ميجويل آنجل مارتينيس، فكرة إضافة “البعد النيابي” للأمم المتحدة التي تمثل الأنظمة الحكومية، منتقدة أن يكون في كل دولة سلطة تنفيذية وسلطة “رقابة” تشريعية، ولا يكون في المنظمة الجامعة لتلك الدول شبيه ذلك. ولم تنقطع الجهود المبذولة على هذا الصعيد ولكن لم تسفر عن أكثر من تعاون شكلي بين المنظمتين، دون تأثير فعال على قرارات “مجلس الأمن الدولي” بالذات، وهو الجهاز الأهم في تشكيلة المنظمة الدولية في نيويورك، من حيث الدور المناط به لوقف عجلة الحروب وترسيخ دعائم السلام والأمن.
أهداف كبيرة
وربما كان الاقتصار على ” تعاون شكلي ” شاهدا على استحالة تحقيق تطوّر فعّال في عمل برلماني دولي، دون أن يبدأ التغيير على مستوى الدولة نفسها، فأبعاد التعاون وحدوده صورة واقعية طبق الأصل، عن الصورة الأعم والأكثر انتشارا في العالم للعلاقة بين المجالس النيابية الوطنية، سواء المنتخبة وفق قواعد مقبولة أو عبر انتخابات صورية أو المجالس المعينة من الأصل تعيينا، من جهة، وبين الحكومات الوطنية من جهة أخرى، فالنسبة الأعظم من حكومات دول العالم شمولية من الأصل، أو “ديمقراطية”، ولكن يغلب على واقعها “حكم شمولي” من نوع آخر، أصبحت تتحكم به آلة المال والاقتصاد أكثر من أي وقت مضى.
وقد سعى الاتحاد البرلماني العالمي لتطوير تشكيلاته وأساليب عمله ليعوّض النواقص الأخرى المرتبطة بالساحة الدولية التي يتحرك عليها والوطنية التي تنتسب الوفود الأعضاء إليها، واعتمد اعتمادا كبيرا على توارث فريق من الناشطين نيابيا للفكرة الأولى التي كوّنت منظمتهم، وهي تعزيز العلاقات الشخصية بين ممثلي الشعوب أنفسهم، سيان ما هي حقيقة هذا “التمثيل”، فالمطلوب هو التغيير انطلاقا من التعامل مع الواقع كما هو وليس التغيير انطلاقا من صورة وهمية من صنع الأمل في وصول الواقع إليها، وهذا مما انعكس في الحرص الكبير على تجنب الخوض في نزاعات ناجمة عن اختلاف أساليب الحكم، بين شرق وغرب وشمال وجنوب، وترك ذلك بصماته في دستور المنظمة بعد أن حملت اسم “مجلس الاتحاد البرلماني الدولي”، حيث لا تقوم العضوية على الأسس التي تعتبرها الدول الديمقراطية الغربية شروطا للاعتراف بتمثيل الشعوب عن طريق المجالس النيابية، إنما يكفي وجود جهاز في الدولة يحمل اسم “البرلمان” ليكتسب حق العضوية، فإذا غاب هذا الجهاز، سقط حق العضوية. كما أن تمثيل المجالس النيابية لا يعتمد على أساس من ترسلهم الدولة لتمثيلها، بل يؤكد الدستور تمثيل الأحزاب الحاكمة والمعارضة في الوفود النيابية المشاركة في المؤتمر العام، وإن اقتصرت الاستفادة الفعلية من ذلك على دول توجد في مجالسها النيابية أحزاب متعددة، ولا تقوم على أساس التعيين أو وفق نظام حكم الحزب الواحد. وفي وقت متأخر نسبيا، وبعد أن استقرت أقدام المنظمة على الساحة الدولية، أضافت إلى أهدافها الرسمية مهمة “دعم إنشاء مؤسسات وفق مفهوم دولة القانون” مما يعني على أرض واقع النشاطات التي تبذلها، تشكيل مجالس نيابية على أساس التعددية، وتبادل السلطة، وفصل السلطات، واستقلال القضاء.
كذلك ينعكس الحرص على تمثيل الشعوب في لوائح تحديد عدد أفراد الوفود النيابية على أساس عدد السكان في كل بلد وليس تبعا لحجم المجالس النيابية المتضخمة أحيانا أو المتقلصة أحيانا أخرى لأسباب داخلية ما، ثم عدم تجاوز عدد أعضاء الوفد الواحد لثمانية أشخاص، بغض النظر عن الوزن السياسي للدولة على المستوى العالمي.
ويعتبر العصب الرئيسي لعمل المنظمة التي اتخذت من جنيف مقرا رئيسيا لها، هو المؤتمر العام الذي يعقد اجتماعاته مرتين في السنة، في مختلف البلدان الأعضاء بصورة دورية، بينما يقوم “مجلس المنظمة” مع “اللجنة التنفيذية” على متابعة النشاطات على مدار السنة، ومن ذلك إرسال الوفود والمستشارين إلى الدول التي تسعى لإنشاء نظام حكم نيابي، بينما تتخصص اللجان التي يشكلها المؤتمر العام بمتابعة القضايا الأساسية المطروحة على ضوء أوضاع السياسة الدولية، وكان في مقدمة ذلك في السنوات الماضية قضايا الحد من التسلح، وحقوق الإنسان، علاوة على القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك قضية الحوار بين الحضارات التي ازداد الاهتمام بها في ظل ظاهرة العولمة والوفاق الدولي بين الشرق والغرب.
ومن الناحية الرسمية يحدد دستور المنظمة لها مهام أساسية :
– الاتصالات وتبادل الخبرات بين المجالس النيابية وأعضائها
– معالجة القضايا ذات الاهتمام الدولي المشترك واتخاذ مواقف تدفع المجالس النيابية إلى التصرف
– الإسهام في حماية حقوق الإنسان واحترامها
– دعم التفهم الأفضل لوسائل العمل المختلفة من جانب مؤسسات تمثيل الشعوب
وغالبا ما تصدر التوصيات على أمل أن تتحرك المجالس النيابية في الدول الأعضاء وتتحرك المنظمات الدولية المختصة، بدعم الجهود المطلوبة لتصبح قرارات نافذة المفعول. ورغم ما يمكن رصده من منجزات في ميادين حماية البيئة، والحدّ من التسلح، ومكافحة الألغام، وما يشبه ذلك، فمن العسير القول إن هذا كان من “إنجازات” المنظمة النيابية العالمية، فالثابت أن معظم هذه التطورات كانت وليدة عوامل عديدة، لعل من بينها مواقف المنظمة وتوصياتها والتأثير على الوفود النيابية فيها.
توصيات غير ملزمة
كانت نشأة مجلس الاتحاد البرلماني الدولي الأولى متزامنة مع دعوات تحرير المرأة في الغرب، وهذا ممّا أعطى قضية تمثيـل المرأة في المجالس النيابية أهمية مركزية في نشاطاته، حتى أصبحت هذه القضية الوحيدة التي تقرّر اللوائح الداخلية ألا يخلو مؤتمر من المؤتمرات النصف السنوية من مناقشتها، ولكن النتائج على أرض الواقع تعتبر مثالا نموذجيا على الهوة التي ما تزال تفصل بين هالة الأهداف الكبيرة الموضوعة والتي توحي بها أحيانا الكلمات الحماسية في المؤتمر نفسه، وبين مفعول التوصيات غير الملزمة والمقيدة بسياسات الدول الأعضاء. ولا يصح هنا الاعتقاد السائد بأن العالم ينقسم في قضية تمثيل المرأة نيابيا بين شمال وجنوب أو بين غرب ديمقراطي ودول غير ديمقراطية، ففي آخر التقارير الصادرة عن المنظمة -ساعة كتابة هذه السطور عام ٢٠٠٠م- ما يشير إلى التفاوت الكبير القائم بين المجالس النيابية الغربية نفسها، حيث يتراوح تمثيل المرأة بين أربعين في المائة في الدول الاسكندنافية وستة في المائة فقط في فرنسا التي تحتل المرتبة الحادية والسبعين عالميا على هذا الصعيد، أو عشرة في المائة في الولايات المتحدة الأمريكية، ومرتبتها الأربعون عالميا، كذلك تتراوح هذه النسبة بين الدول النامية ما بين عشرين في المائة في فييتنام التي تحتل المرتبة التاسعة عشر عالميا، وبين بعض دول الخليج كالإمارات والكويت والسعودية حيث لا تحتل المرأة مقاعد نيابية أصلا.
ويشبّه بعض المشاركين في مؤتمرات الاتحاد البرلماني الدولي أعماله بلعبة “المونوبولي” ما بين الربح والخسارة، ويشيد آخرون بإنجازاته “التدريجية” على مر العقود الماضية كما ظهر في مؤتمرات سابقة، أن الوضع المثالي الذي أراده أصحاب المبادرة الأولى ما يزال بعيدا عن الواقع القائم، وبالتالي لم تكن الأرضية المشتركة بين النواب باعتبارهم يتحدثون باسم الشعوب، تطغى على الفواصل أو الخلافات السياسية القائمة بين الحكومات، بغض النظر هنا عن تقويم تلك الخلافات بمقاييس الحق والعدالة والقانون الدولي، ومعظم ما يطرح من مواضيع أو أفكار في كلمات الوفود، يعبر في نهاية المطاف عن المشكلة التي تتبناها حكومة الدولة التي ينتمي إليها الوفد النيابي المعني، وكانت الأمثلة على ذلك متكررة وواضحة، كمحاولة الوفد الأذربيجاني أن يحصل على توصية تتعلق بالأقليات بما يناسب موقف أذربيجان في قضية قره باخ، أو محاولة الوفد السوري إدخال تعديل على التوصية المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل لإدانة إنتاجها وليس تخزينها فقط، أو كتركيز الوفد الهندي على مكافحة الإرهاب وفق أسلوب طرح الهند لقضية كشمير، وهكذا.
أما تمثيل الشعوب والحوار بينها، فما يزال أقرب إلى “أداء الواجب” وفق دستور المنظمة وأهدافها، وهي المنظمة التي لم توجد لتكون ساحة إضافية من ساحات التعبير عن سياسات حكومية محضة، بل لتوجد مقابل ذلك ساحة أخرى أقرب إلى التعبير عن الشعوب ومواقفها وما يشغلها ويستحوذ اهتمامها، ولعلّ النهج الأصحّ لبلوغ ذلك هو النهج الذي بدأ به المجلس البرلماني العالمي مسيرته، واعتمد على أن الإنجازات الحقيقية على مستوى حقوق الإنسان وحرياته والتعبير عن إرادة الشعوب ومطامحها، إنما تتحقق من خلال الجهود الفردية والشعبية، خارج النطاق الرسمي وخارج نطاق القيود والالتزامات التي تفرضها شبكة العلاقات الدولية.
وأستودعكم الله مع أطيب السلام من نبيل شبيب