رأي
التواصل الرسمي الجاري بين حكومة تركيا والنظام الأسدي أو بقاياه في سورية ليس حدثا قائما بذاته بل مرحلة جديدة في اتجاه التقارب، فيها زخم أكبر مما سبقه، وقد لوحظ مثله في مبادرات تركية سابقة، لاستئناف العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر، أما الآن مع سورية فهو حلقة ختامية صارخة من تحول إستراتيجي كبير تقرر في تركيا بعد أن انفرد بها ميدان حدة المواجهة في قضايا إقليمية ودولية.
ليس محسوما أمر تحقيق اتفاق عبر المساعي التركية – الروسية – السورية الحالية، ولكنه احتمال قائم، يرجحه ما يتحقق من مكاسب كبيرة لصالح النظام أو بقايا النظام الأسدي المنبوذ، وما يتحقق من مكاسب كبيرة لصالح الطرف الروسي على مستوى تصعيد الخلافات الروسية الإيرانية على أرض سورية، وعلى صعيد الصراع الدولي. أما مصالح تركيا فتتحقق لحكومتها داخليا باستعادة الورقة التي تلعب بها المعارضة حول مصير الوجود السوري في تركيا عموما، وقد تتحقق إقليميا بإحياء الممر التجاري بين تركيا ومنطقة الخليج عبر سورية، مقابل إعطاء دول الخليج شحنة إضافية في مواجهة مشروع الهيمنة الإيراني في المنطقة، هذا فضلا عن تغيير معادلة التعامل مع وجود الأكراد في شمال شرق سورية بالنسبة إلى سورية وبالنسبة إلى التحرك التركي ضد الأنشطة الكردية المسلحة.
* * *
لا يوجد اتفاق يحقق مكاسب إيجابية دون سلبيات، ولا يجدي هنا التركيز كثيرا على اتهام تركيا بالتخلي عن اعتماد سياساتها على منظومة قيم أخلاقية أعلنتها في دعم التحرك الشعبي في ربيع الثورات العربية؛ فلا تمثل السياسات التركية استثناء من قاعدة تبدل السياسات بمفعول المصلح أكثر من القيم؛ وليست تركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية ورئيسه إردوجان عام ٢٠٢٤م هي نفسها تركيا كما كانت عام ٢٠١١م.
إن المكسب الأعظم في جرد حسابات هذه الزعامة الانتخابية مكسب يتجسد في إقصاء القوات العسكرية المسلحة عن ممارسة السلطة التنفيذية والهيمنة من خلالها على ما سواها، أما المكاسب الأخرى فهي فروع من ذلك، ولكن قيمة هذه الحقبة بلغت ذروتها في الخامس عشر من تموز / يوليو عام ٢٠١٦م، أي يوم منع الشعب نفسه نجاح انقلاب يعيد تركيا إلى حكم عسكري مفروض من قبل على امتداد بضع وسبعين سنة.
أما ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة فالسلطة المدنية المنتخبة الموجودة في الحكم منذ ٢٠٠٢م وهي تستأنف التعامل مع أنظمة استبدادية وعسكرية أخرى تخاطر بالمفعول المركزي لإنهاء عسكرة الحكم المدني، ولعل ما كان بهذا الصدد حتى الآن يبقى في حدود التحمل، أما التلاقي مجددا على أرض علاقات ديبلوماسية وتجارية وسياسية مع عصابات أسدية دموية منبوذة، فهذه خطوة تتجاوز حدود المخاطرة، لأنها تمس قابلية عودة تركيا فعلا إلى موقع سياسي إقليمي سلبي، كما كان في عهد الحكم العسكري الظاهر والخفي، وهذا بالذات ما ينبغي أن يحذر من الوقوع فيه من يحملون المسؤولية عن الاتصالات الجارية بوساطة روسية أو دون وساطة.
إن قضية التواصل الحالي ليست قضية ما يكسبه وما يخسره السوريون في تركيا والشتات أو فيما يوصف بالمحرر من الداخل السوري، بل القضية هي ما يمكن أن تخسره الدولة التركية بزعامتها الحالية من مسارات التغيير الكبير الذي سبق تحقيقه في تركيا نفسها.
وأستودعكم الله وأستودعه تركيا وشعبها وسائر أهلنا في كل مكان ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.