تحليل – يوم المرأة العالمي.. بين جيلين

يوم المرأة العالمي كيوم حقوق الإنسان، ويوم الطفل العالمي، ويوم مكافحة نقص المناعة، ويوم التراث العالمي، ويوم حرية الصحافة العالمي، وسوى ذلك من الأيام العالمية، مما بات لكثرته عسيرا على الإحصاء، إن كان دليلا على الإحساس بوجود نواقص يجب تلافيها، وانحرافات يجب تقويمها، فقد غدا على أرض الواقع مجرد احتفاليات سنوية، تنشط لها الأقلام وربما بعض الفعاليات، ثم يغيب مفعولها، فتغيير الأوضاع تغييرا حقيقيا مستديما، لا يتحقق بالاحتفالات والكلمات، وليس هذا مجهولا.

ومن المفروض أن ندرك ابتداء أن عنوان "عالمي" لا يعني بالضرورة أن أوضاع المرأة متشابهة في أنحاء العالم، ولا أن ما ينبغي صنعه في مكان يسري على مكان آخر، فإذا تركزت الأنظار على أوضاع المرأة المسلمة، أو المرأة العربية، سنجد بين أيدينا معطيات تختلف عنها في اليابان أو المكسيك، وفي الغرب أو الشرق، ووجدنا واجبات تختلف عما يجب صنعه هنا وهناك من أنحاء العالم، ومثل هذا الاختلاف موجود أيضا ما بين الأقطار الإسلامية والعربية، على أن مشكلة أوضاع المرأة، وحقوقها وحرياتها، وهي مشكلة الإنسان عموما، ومشكلة حقوقه وحرياته، تتعرض للتعامل معها كما لو انعدمت الاختلافات، ومثال ذلك أن المجتمع الغربي رأى في قيادة المرأة للشاحنات والحافلات "تقدّما ورقيا" وإن كان الأمر في واقعه القائم عملا اضطراريا للنساء في الغرب نتيجة ظروف تاريخية واجتماعية ثقيلة، ولكن هل يبيح ذلك لامرأة جزائرية توصف بالوحيدة التي تقود إحدى الحافلات في الجزائر أن ترى الرأي نفسه وتنادي بنات جنسها أن يحذون حذوها، كما تناقلت الصحف مع اقتراب موعد يوم المرأة العالمي ٢٠٠٩م؟

المثال مقصود كمؤشر على ممارسات أخرى عديدة أشد تعقيدا، فقد لا يتضح فيها تماما خطأ مسيرة ما يسمى الحركة النسوية في بلدان عربية وإسلامية بأسلوب استنساخي لظهور هذه الحركة في المجتمعات الغربية. 

لا يعني ذلك تأييدا لمن يريدون للمرأة العربية والمسلمة الانعزال في المجتمع، والتقصير في أداء دورها فيه، على أي صعيد يتطلب عطاءها وإبداعها وإنجازها وتفوقها، إنما يعني أن وضع الإنسان في الغرب يختلف اختلافا جذريا عن وضع الإنسان في البلدان النامية عموما، ومنها البلدان العربية والإسلامية، وما يحتاج إليه الإنسان الغربي على صعيد حقوقه وحرياته، يختلف أيضا عما يحتاج إليه الإنسان العربي والمسلم على صعيد حقوقه وحرياته. 

بعض هذه الحقوق والحريات، أو بعض هذه "الواجبات والمسؤوليات" كتعبير أكثر انسجاما مع الوعي المعرفي في المجتمعات العربية والإسلامية، تاريخيا وحاضرا، لا يختلف من بلد لبلد ولا بين عصر وعصر، بدءا بالكرامة الإنسانية، انتهاء بالإبداع والإنجاز في الميادين المادية والفكرية والفنية وسواها. 

إنما تختلف القوالب من بلد إلى بلد، وهي مختلفة ما بين كافة المجتمعات بما فيها تلك التي توصف بالمتقدمة أيضا، فليس كل ما يتعلق بالإنسان في اليابان منطبقا عليه في الولايات المتحدة الأمريكية ولا كل ما يحتاج إليه الإنسان الصيني ليثبت ذاته الإنسانية بكافة ما تعنيه كلمات الحقوق والواجبات والحريات والمسؤوليات، منطبقا على ما يحتاج إليه الإنسان الإفريقي.

إن في مقدمة الأسباب التي عاقت تحرك المجتمعات العربية والإسلامية ليستعيد "الإنسان"، ذكرا وأنثى، موقعه الطبيعي في المجتمع، في مختلف ما يتعلق بميادين الحياة والحكم، إنما هو العجز عن تحرير قضية الإنسان، ومن ذلك قضية المرأة، من قوالب قضية الإنسان الغربي والمرأة الغربية.

تضاف إلى ذلك ظاهرة عميقة المغزى، أن كثيرا مما يتبناه ويدعو إليه من يعتبرون أنفسهم مدافعين عن حقوق المرأة ومساواتها في المجتمعات العربية والإسلامية، وقد استمدوا قوالبه -بغض النظر عن سلامة الكثير من جوهر الدعوة نفسها- من مسيرة الحركة النسوية في الغرب، بدأت تتزعزع الدعوة إليه في الغرب، وقد ظهر الإخفاق في تحقيق أهدافه عبر تلك القوالب، بل نرصد أيضا الشروع -بصعوبة- في مواجهة جذرية لما ارتبط به من عواقب ربما لم تكن متوقعة من قبل.

إن امتهان العمل في المنزل وامتهان كلمة "ربة بيت" وكلمة "أم" لم يوصل المرأة الغربية إلى مواقع قيادية ريادية في المجتمع بنسبة توازي نسبة النساء إلى الرجال قط، ولكن أوصل إلى تفكك الأسرة، وإلى تحول النمو السكاني إلى انقراض سكاني تدريجي.

وإن دعوات السبعينات من القرن الميلادي الماضي إلى ما شمله عنوان الحرية، من علاقات جنسية، وانحلال خلقي، وتربية بلا ضوابط، لم يؤدّ إلى ما كان يدور الحديث عنه آنذاك من تحرر "الإنسان" الغربي، قدر ما أدى إلى انتشار مسلسل الأوبئة الاجتماعية مع تفكك الأسرة، بدءا بانتشار المخدرات، انتهاء بالاعتداء الجنسي على الأطفال والناشئة والنساء.

في الغرب بدأت دعوات مضادة بالظهور، يشهد عليها مثلا انتشار ما يسمى "جمعيات العفة" في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وقد تضاعف عدد المنتسبين إليها من جيل الشبيبة ذكورا وإناثا حتى بلغ مئات الألوف إن لم يكن الملايين، وتشهد عليها مثلا آخر سلسلة من الكتب التي بدأت تشكل تدريجيا حملة مضادة للحركة النسوية التقليدية. 

وفي الوقت نفسه نشهد في بلادنا العربية والإسلامية استمرار الدعوات باسم تحرير المرأة داخل القوالب "التقليدية العتيقة" التي سرى مفعولها في المجتمعات الغربية قبل عقود معدودة وبدأ الرجوع عنه الآن.. فهل ينبغي قطع الشوط إلى آخره، ورؤية المزيد من عواقبه رأي العين، أم الاستفادة من التجربة الغربية لتصحيح المسار قبل مزيد من الانحراف؟ 

إن من يدعو إلى حرمان المرأة من ممارسة الحقوق السياسية والفكرية والفنية والأدبية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية، لا ينطلق من مخزون الوعي المعرفي للدائرة الحضارة العربية والإسلامية، وما انتشر التنطّع على هذا الصعيد، إلا عند تغييب الإسلام وإقصائه وهو الذي صنع الوعي المعرفي لدينا، فجميع تلك الحقوق أو الواجبات هو في الأصل جزء لا يتجزأ من وجود المرأة، كما أنه جزء لا يتجزأ من وجود الرجل، وموطن الاختلاف الجوهري عن الغرب، هو في ضوابط القيم والأخلاق، وهذه تسري على المرأة وعلى الرجل على السواء، فلا تتناقض مع مبدأ المساواة، ولا يحول الأخذ بها دون تحقيق الكرامة الإنسانية للذكور والإناث، وليس مجهولا أن الحرمان من الحقوق المذكورة وسواها يشمل في مجتمعاتنا العربية والإسلامية الرجال والنساء على السواء.

لا بد من تحرير ما نسميه قضية المرأة من القوالب الغربية التقليدية الجاهزة، لنحقق تحرير المرأة والرجل من الظروف القاهرة لهما معا في بلادنا العربية والإسلامية.   

وأول من يحمل المسؤولية عن ذلك المرأة نفسها، وقد أدرك كثير من النساء ذلك ولم يدركه كثير ممن "يحتكرون" لأنفسهم الدعوة إلى تحريرها.

إن مشكلات الأمية، والمرض، والفقر، والاضطهاد، والتمييز الاجتماعي، والتخلف.. جميع ذلك وأمثاله مشكلات مشتركة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تلتقي جميعا عند محور مشكلة الاستبداد المحلي والدولي. 

وآن أن ندرك بعد تجارب مأساوية متطاولة، أن التخلص من الاستبداد بمختلف أشكاله وإفرازاته محليا، لا يتحقق دون التخلص في الوقت نفسه من الاستبداد بمختلف أشكاله وإفرازاته عالميا، ومن ميادين ذلك التبعية الفكرية والثقافية واللغوية، فهي المحضن الأكبر لمعظم آفات التخلف، وهي بالتالي أحد الأسباب الجوهرية التي تحول دون النهوض بأوضاعنا، وأوضاع مجتمعاتنا، بنسائها ورجالها، من الحضيض الذي أوصلتنا إليه العقود الماضية، ولن نخرج منه إذا بقينا متشبثين بما صنعنا فيها، أو ما صنعته التيارات التي زعمت تحرير بلادنا فأوقعتها عبر مداخل الفكر والتصورات المنحرفة، في سلاسل الرقّ للغرب على كل صعيد أمني وسياسي واقتصادي، علاوة على الأصعدة الاجتماعية والفكرية والثقافية والفنية وغيرها.

هذا ما لا يسري على جيل الصحوة الذي نعايش تطلعاته إلى مستقبل آخر، وإن كانت في مرحلة الآمال والأحلام والغايات البعيدة حتى الآن، إذ لا يزال ورثة صانعي القرار في مختلف الميادين يعيقون حركته، ويساهمون في ترسيخ التخلف المصنوع صنعا عبر المواقع التي احتكروها حتى الآن، إنما هي قضية أجيال، وسيرحل جيل التخلف عاجلا لا آجلا، من مواقع صناعة القرار ومن مختلف المواقع، والأمل كبير في ألا يكون جيل المستقبل على شاكلته، كيلا تبقى قضايانا، بما فيها قضية تحرير المرأة، مجرد شعارات ترفع، ومادة للمزايدات بين التيارات والأحزاب المتعددة، فهي فوق ذلك كله، ويجب التعامل معها على اساس أنها فوق ذلك كله، فإن تعامل معها الشبيبة ذكورا وإناثا على هذا الأساس، تحقق على أيديهم بإذن الله ما لم يتحقق على أيدينا حتى الآن. 

نبيل شبيب