تحليل – وسائل التغيير شعبية ونخبوية

بين أيدينا واقع قائم يصنعنا يوما بعد يوم، وعاما بعد عام، وثورة بعد انتفاضة، وانتفاضة بعد ثورة، وقد رسمت ملامحه أحداث السنوات الماضية، وأصبح النظر فيه دون تهويل من شأنه ولا تهوين،‎ ضروريا لاستشراف متطلبات المرحلة التالية، والعمل لها، أو ترشيد أنفسنا أثناء العمل لها.. والحديث هنا عن ‎"العامة من الشعوب الثائرة".. لا سيما جيل الشبيبة ومن يمشي "معه".

نشأنا على أن النخب تحمل المسؤولية لتقدم الصفوف على طريق صناعة التغيير، فهي "المؤهلة" لذلك.. ولكن لم تفعل في العقود الماضية، بغض النظر عن الأسباب، فالواقع أن التغيير المطلوب لم يحصل، وقد انتظرت الشعوب طويلا تحت ضغوط الفقر والقهر والبطر، ثم انطلق بعضها بما يملك من وسائل بدائية لتحصيل الحريات والحقوق والعدالة والتقدم.

أصبح الحجر الفلسطيني من البداية أبلغ تعبيرا وإنجازا من "منظمة التحرير الفلسطينية".. ثم اندلعت الثورات الشعبية العربية.. ونعايش الآن كيف أصبحت سكين الانتفاضة الثالثة بيد فتاة ناشئة في عمر الزهور تثير مخاوف العدو العاتي المحلي والدولي، وهو الذي لم يعبأ قليلا ولا كثيرا بكل ما انعقد من مؤتمرات "السلام خيارنا الاستراتيجي الوحيد".

كما نعايش أيضا كيف تتعانق مسيرات "الأمعاء الخاوية" بفلسطين، مع "الصناديق الانتخابية الخاوية" في مصر، مع "الأجساد الصامدة رغم الغزو الجوي الروسي-الدولي" في سورية.. والقائمة طويلة على امتداد جغرافية التغيير الثوري الشعبي.

. . .

تعميم الحديث عن إخفاق النخب لا ينفي الاستثناء.. إنما لا يرسم الاستثناء معالم "المشهد"، إذ رصدت الشعوب عبر معاناتها تراكم حصاد العجز من جانب النخب التقليدية، حتى بات العجز نفسه أمرا اعتياديا لديها، يجد المبررات دوما، ثم يُستخدم بدوره "مبررا" للتراجع في هذا الموقع أو ذاك من مواقع العمل وأداء المسؤولية والواجب.

طوال عقود كان الهدف المحوري واضحا مشروعا: تغيير الواقع الفاسد الظالم الشاذ في حياة المجتمعات وممارسات الدول، واستعادة العدالة والحرية والكرامة.. لم يحصل ذلك، ولا جدوى من "جدال متكرر" حول الأعذار والمبررات.

. . .

إن من أخطر أسباب العجز تحوّل "الوسائل" عند من يملكها إلى غايات عامة أو أغراض شخصية.. وجوهر الوسائل النخبوية قلم وفكر وثروة مادية وكفاءة، وعلاقات محلية وإقليمية ودولية، ولكن..

حلّت "مكانة العلماء" هدفا مكان أداء مسؤولية القيادة والتوجيه بكفاءة تصنع التغيير..

حلّت "احتفالات توزيع الجوائز" هدفا عند مفكرين وعلماء وفنانين مكان "الإبداع الحقيقي المغير"..

حلّت رايات "الأحزاب والتنظيمات والجماعات" من مختلف المشارب والاتجاهات، مكان التخطيط والسياسة والتنفيذ والعطاء..

والقائمة طويلة.

إن تحرك الشعوب "بنفسها" في انتفاضات وثورات "بتضحيات تتجاوز الطاقة البشرية".. تحرك تاريخي انطلق في وقت واحد:

– ضد استمرار الاحتلال والعدوان والاستيطان والهيمنة الأجنبية والاستبداد المحلي والظلم والفقر والتخلف..

– وكذلك ضد وسائل بالية لم تمنع من استمرار ذلك كله، وكانت تستخدمها "نخب" عجزت عن استخدامها استخداما مجديا وامتنعت أو عجزت عن إيجاد سواها ليكون عملها مجديا.

أصبح السؤال: ما هو إذن مبرر "وجودها" واحترامها واتباعها من جانب "العامة" من الشعوب؟

إن الانتفاضات والثورات الشعبية تقول ببساطة "شعبية عامية":

لا يوجد مبرر، رغم جميع ما يقال عن عقول نيّرة وكفاءات عالية وتخصصات محترمة.. لهذا أصبح التحرك الشعبي المباشر، ولو بالحجارة والأجساد العارية والأمعاء الخاوية، حتميا، وليس مجرد خيار بين خيارات عديدة.. وهذا ما سجل للتاريخ بداية عصر التغيير الثوري الشعبي.

. . .

أصبح المطلوب شعبيا وسائل وأدوات على مستوى انتزاع الحرية والحقوق والكرامة دون وصاية على الشعوب مهما كان شأنها، ودون الركون إلى أفاعيل "اللعبة الدولية" وما ارتبط بها إقليميا.

إن تكوين هذه الوسائل أثناء العمل الثوري باهظ التكاليف، يحتاج إلى جهود كبيرة وتطوير متواصل.. وقد تشكل من قلب العمل الشعبي الثوري ما لا يحصى من منظمات مقاومة صادقة، وفصائل ثورية مستقيمة، وتشكيلات تنظيمية للغوث والرعاية، وحتى للسياسة والتوثيق والشؤون الإنسانية..

الأخطاء محتمة، والاختراقات والانحرافات منتظرة، والتطوير واجب كالتطهير الذاتي.. ولكن شهدت فلسطين مثلا أن الوسائل الشعبية للمقاومة أجدى مما صبرت عليه الشعوب في مسلسل مبادرات انهزامية لم تنقطع لتصفية قضية فلسطين على منحدرات قمة فاس وكامب ديفيد ومدريد وأوسلو.. وما تلاها.

العامل الحاسم للتغيير في عصر التحرك الشعبي هو ثبات طريق المقاومة الثورية وتطويرها، فمن المستحيل أن تنقطع حتى تنتصر، وإن واجهت ما يبدو للوهلة الأولى قوة متفوقة لا تُقهر بمثل هذه "الوسائل البدائية".

كما في فلسطين انطلقت الجموع الهادرة بالملايين في الشوارع والساحات والميادين في " ثورات الربيع العربي" لتواجه بأجسادها شتى أصناف القوى المسلحة المنظمة والمدربة الموجهة على اختلاف أسمائها من تونس إلى ليبيا ومن مصر إلى اليمن وحتى سورية ويمكن أن نضيف العراق أيضا.

في سورية بلغ هذا التصميم الشعبي الثوري درجة مذهلة، بما تحمّله الشهداء وذوو الشهداء والمعتقلون والمخطوفون وذووهم، وما وصل إليه التشريد والحصار والتجويع.. جميع ذلك لم ينقطع لسنوات، لأن إرادة الثورة عند الفرد فردا وعند المجموع شعبا، هي المنبع الأول للثورة السلمية والمسلحة..‎ في مراحل التقدم ومراحل الانتكاسات.. في حالة الهذيان الإقليمي والدولي بوعود الدعم وفي حالة الخذلان العلني و"تنسيق" عمليات القتل الجوي الدولي مع الأسدي.. في حالة الحصول على سلاح بكميات محدودة تسمح بالاستمرار ولا تسمح بالانتصار، وفي حالة الحصول على السلاح غنيمة وتصنيعا محليا.

لا يعني ما سبق أن الشعوب تخلت عن "الوسائل النخبوية" على طريق التغيير.. ولكنها لم تعد تنتظر أن تولد فيها الحياة من جديد،، بل مضت لتصنع النخب الجديدة ووسائلها الجديدة بنفسها من قلب طريق التغيير والتضحيات على طريق التغيير.

نبيل شبيب