تعتبر سياسة الأبواب المفتوحة أمام اللاجئين حالة طارئة أو استثنائية في الاتحاد الأوروبي، فعلى امتداد ربع قرن من الزمن، وعلى وجه التحديد منذ توقيع معاهدة ماستريخت في كانون الأول/ ديسمبر ١٩٩١، بدأت إجراءات تحصين الحدود "الأوروبية الخارجية"، وكان قد بدأ فتح الحدود البينية باتفاقية شنجن عام ١٩٨٥، وتنظيم التعامل الأوروبي مع اللاجئين عبر اتفاقية دبلن عام ١٩٩٠.
ورغم وقوع عدد كبير من المآسي بمقتل الألوف غرقا في مياه البحر الأبيض المتوسط، لم ينقطع التركيز على تحصين أوروبا، فكان معظم ما تقرر يصب في خانة استخدام مزيد من الإجراءات الأمنية للحد من الهجرة إلى أوروبا بما في ذلك ملاحقة "عصابات تهريب البشر" عسكريا. وفي عام ٢٠١٥ ارتفع عدد المشردين واللاجئين السوريين برا وبحرا ارتفاعا كبيرا، وتضاعف تأثير مآسي الأحداث الجارية في سورية، فظهر أول تحول في الرأي العام وفي مواقف كثير من المسؤولين الأوروبيين، حتى أصبح حديثهم عن عدم إمكانية استيعاب اللاجئين من "الجنوب" يستثني دوما اللاجئ السوري.
تقلب المواقف إزاء قضية اللجوء
أمام هذه المعطيات وتقدير ألمانيا أن موجات اللجوء بمئات الألوف قادمة لا محالة، وكذلك ازدياد الحاجة إلى الكفاءات الشابة في سوق العمل، يمكن تفسير التحول "البراغماتي المصلحي" في الموقف الرسمي كما أعلنته المستشارة الألمانية ميركل حول ضرورة التعامل الإيجابي مع مئات الألوف من اللاجئين المتوقع قدومهم، وقولها إن ألمانيا قادرة على ذلك.
تلاحقت التطورات التالية في السياسات والممارسات الأوروبية، وشملت الخروج على بنود اتفاقيتي دبلن وشنجن في مواكبة تدفق مزيد من المشردين، كما ازدادت ردود الفعل المضادة، وأبرزها ما صدر عن زعماء الدول الشرقية في الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى اليمين المتطرف في غرب أوروبا، وهذا ما بلغ -عقب تفجيرات باريس الإرهابية في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٥م- حده الأقصى، وخالطه ارتفاع نسبة الاعتداءات على "اللاجئين" والمسلمين عموما، ولا يستبعد مزيد من الآثار بسبب تلك التفجيرات.
في هذه الأجواء يأتي أيضا تصعيد حدة التصريحات والمواقف الصادرة عن رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك، إذ بلغت درجة الانحياز علنا إلى معارضي تسهيل إجراءات اللجوء إلى أوروبا، رغم أن صلاحياته الرسمية تقتضي الحرص على قدر كاف من "الحيادية" ليتمكن -مع المفوضية الأوروبية- من التنسيق بين المسؤولين في الدول الأوروبية الأعضاء. ولكن بدا أيضا أنه يتخذ من التطورات الأخيرة فرصة ملائمة للتعبير عن نهج سياسي معروف عنه من قبل، فقد تميزت سيرته السياسية منذ محطاتها الأولى باتجاه يميني متشدد في بولندا، في نطاق حزب الديمقراطيين الأحرار الذي شارك في تأسيسه، ثم بعد أن انفصل عنه وشارك -قبيل انتخابات ٢٠٠١ في بولندا- في تأسيس حزب "المنصة المدنية" اليميني الأكثر تشددا، وآنذاك اقترن توجه توسك اليميني المتخوف من تجدد المطامع الروسية، بارتفاع نسبة تأييد الحزب شعبيا في السنوات التالية، أي أثناء موجة التأييد الكبير في البلدان الأوروبية الشرقية عموما للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن أثناء حرب احتلال العراق، مقابل معارضة فرنسية وألمانية للحرب آنذاك، فاستطاع دونالد توسك الوصول إلى رئاسة الحكومة البولندية عام ٢٠٠٧ وبقي في هذ المنصب إلى أن تم تعيينه رئيسا للمجلس الأوروبي عام ٢٠١٤م.
تصعيد حدة المعارضة للأبواب المفتوحة
تعتبر بولندا الآن أيضا من معارضي استقبال مزيد من اللاجئين، إلى جانب المجر وتشيخيا ورومانيا وسلوفاكيا، إلا أنها لم تشارك هذه الدول يوم ٢٢ /٩ /٢٠١٥ في رفض قرار الغالبية في المجلس الأوروبي (٢٨ دولة) بتوزيع الحصص على الدول الأوروبية بشأن ١٢٠ ألف لاجئ غصت بهم معسكرات الاستقبال في اليونان وإيطاليا. وقد اجتمع المجلس آنذاك بطلب من ألمانيا، ودعا إلى الاجتماع توسك -بحكم موقعه وصلاحياته- ولم يخف انزعاجه، بل صرح آنذاك بأن اتخاذ قرار الأغلبية لفرض حصص اللاجئين على الدول الأعضاء نوع من "الابتزاز السياسي"، وزاد على ذلك في مقابلة صحفية يوم ٨/ ١١/ ٢٠١٥ بتوجيه خطابه للحكومة الألمانية مباشرة ومطالبتها بالتشدد في سياستها مع أزمة اللجوء، قائلا إن دور الزعامة الأوروبية يتطلب تعاونا أكبر مع الشركاء لحماية الحدود الخارجية الأوروبية، ونوه بالإرث النازي التاريخي، وهو يقول إن هذا قد يصعب على ألمانيا بسبب أعباء تاريخية.
وكان التصعيد التالي والأشد في مواقف توسك بعد تفجيرات باريس، وهو ما وصل في مطلع كانون الأول/ ديسمبر إلى الذروة خلال حوار مع أربع صحف أوروبية، إذ طالب بتحول كامل في السياسة الأوروبية للتعامل مع أزمة اللجوء، وركز على الدور الألماني بهذا الصدد، محذرا من خطر التسلل الإرهابي عبر اللجوء، قائلا "إن دقائق معدودة لتسجيل البصمات عند استقبال اللاجئين لا تكفي، بل يجب تطبيق ما يسمح به القانون الدولي والقوانين الأوروبية، بوضعهم تحت الاختبار لمدة ١٨ شهرا"، ويعني ذلك احتجازهم ومراقبتهم في معسكرات الاستقبال طوال تلك الفترة، ثم استخدم بالألمانية العبارة التي استخدمتها ميركل لتأكيد القدرة على استيعاب موجة اللجوء "باستطاعتنا ذلك" مع قلب معناها إلى أن باستطاعة الأوروبيين فرض تلك الرقابة الطويلة. ومع ذلك كان حذرا بشأن المشردين عن سورية تخصيصا، بقوله إنهم لا يمثلون سوى ثلاثين في المائة من تيارات اللجوء الحالية إلى أوروبا، أي أن تشديد الإجراءات كما يريد لا تستهدفهم.
تحول أوروبي تجاه اللاجئين؟
تعتمد المطالبة بتحول جذري في السياسة الأوروبية على مواقف مشابهة من جانب الدول الأوروبية الشرقية، حتى أن بولندا أعلنت بعد تفجيرات باريس أنها لن تنفذ تعهدها باستقبال النسبة المئوية المقررة لها من ١٢٠ ألف لاجئ، ولجأت دول أخرى إلى القضاء الأوروبي لنقض قرار الغالبية أصلا، كما أن إجراءت تحصين الحدود البينية بالأسوار والأسلاك الشائكة لم تعد مقتصرة على المجر، بل امتدت إلى دول أوروبية شرقية أخرى، بينما تفاقمت الأعباء على بعض الدول الغربية مثل السويد التي تحتل مع ألمانيا الصدارة في سياسة الأبواب المفتوحة، فبدأت باتخاذ إجراءات أولية للحد من اللجوء، ولجأ بعض الدول الأوروبية إلى حملات مضادة، مثل الإعلانات الصحفية في بلدان يأتي اللاجئون منها لتحذيرهم من إمكانية ردهم، كما صنعت النرويج في باكستان، وقامت الدانيمارك بشبيه ذلك في معسكرات اللاجئين السوريين في لبنان، ومارست ألمانيا نفسها المراقبة على الحدود مع النمسا كإجراء استثنائي وفق بنود معاهدة شنجن.
وتزداد الضغوط الداخلية على المستشارة الألمانية، وتشمل حزب المسيحيين الاجتماعيين، الحزب الحاكم في ولاية بافاريا على حدود النمسا، والشريك في الائتلاف الحكومي في برلين، والحزب الأصغر في "كتلة الاتحاد المسيحي" مع حزب المسيحيين الديمقراطيين بزعامة المستشارة ميركل، وتتزامن هذه الضغوط مع تسجيل ارتفاع طفيف في نسبة المشاركين في المعارضة التي يقودها اليمين المتشدد من خلال المظاهرات التي اشتهرت بها حركة بيجيدا (الوطنيون الأوروبيون ضد أسلمة أوروبا).
وكان من تعليلات سياسة الأبواب المفتوحة أن "تيار اللجوء أكبر من أن يمكن وقفه" وهذا ما يعارضه توسك وسواه بالقول "إن تيار اللجوء أكبر من أن ندعه وشأنه ونمتنع عن وقفه"، كما ينبغي تطبيق القواعد المتفق عليها عبر معاهدة دبلن التي تقضي برد من ترفض طلباتهم من اللاجئين إلى البلد الذي يأتون منه.
من المؤكد ازدياد الضغوط المضادة لاستقبال اللاجئين، لا سيما في فرنسا وبريطانيا، بذريعة تفاقم الخطر الإرهابي، وهذا ما توحي به الأجواء السياسية، كموقع اليمين المتطرف في الانتخابات البلدية في فرنسا، وتقلب المواقف الرسمية إزاء قضية سورية، ومضاعفة الحملة العسكرية أوروبيا ضد داعش، ولكن من المستبعد -رغم ذلك- وقوع تحول جذري في سياسة اللجوء الأوروبية في الوقت الحاضر على الأقل، لا سيما من حيث وضع اللاجئين تحت الرقابة ١٨ شهرا كما يريد توسك، فتنفيذ ذلك يعني إنفاق المليارات قبل قبول طلبات اللجوء أو رفضها، بينما اعتمدت سياسة الأبواب المفتوحة على الإسراع في الإجراءات الأولية ليمكن دمج اللاجئين في سوق العمل وتخفيف الأعباء المالية على صناديق الضمانات الاجتماعية.
وليس معتادا في أوروبا الانتقال السريع من إجراء إلى آخر، فإعادة النظر في سياسات مقررة تتطلب رصد نتائجها أولا، وهذا ما يسري على الإجراءات الأمنية والعسكرية في البحر الأبيض المتوسط، وتعزيز قدرة دول الحدود الخارجية على التعامل مع ارتفاع أعداد اللاجئين، فضلا عن إجراءات التعجيل في ترحيل من ترفض طلباتهم ما داموا من بلدان لا تشهد حروبا أو ضغوطا أمنية كبيرة، علاوة على الاتفاق الأخير مع تركيا والذي يتضمن تحسين أوضاع اللاجئين السوريين فيها، مع العمل للحد من توجههم إلى الأراضي الأوروبية عبر اليونان.. جميع هذه الإجراءات لم تظهر نتائجها العملية بعد، ناهيك عن الجانب السياسي، لا سيما بالنسبة إلى الجهود المبذولة لمعالجة الوضع في سورية، للحد من أسباب التشريد، والوضع في ليبيا كيلا يستمر اتخاذها محطة لتهريب اللاجئين من إفريقية إلى أوروبا.
نبيل شبيب