تحليل – هدنة دولية.. والثورة خارج قوسين

قد يقول قائل كما يقال تقليديا: ما يزال الوقت مبكرا للحكم على "اتفاق" جديد انعقد بين موسكو وواشنطون ليلة السبت ١٢/٩ / ٢٠١٦م، ولكن ألا تؤكد شواهد سابقة عدم جدوى الانتظار إلى أن نرصد مزيدا من التقتيل والتدمير والحصار والتجويع والإجرام والتشريد والخداع والتضليل.

 

من فضل الكلام

إن ما يسمونه "اتفاق هدنة" بين موسكو وواشنطون (كما لو كان بينهما حرب!!) هو تطوير مستوى "التنسيق" القائم منذ فترة على توجيه ضربات عسكرية لإضعاف ثورة شعبية تأبى إخمادها، ولا جديد حتى في نوعية القناع: تأمين مساعدات إنسانية وتسهيل الانتقال السياسي، وقد أصبحت هذه العبارة ذات مضمون خطير:

متابعة العمل على إيجاد معطيات لم يمكن إيجادها حتى الآن، لفرض صيغة عدوانية لا تحقق أهداف الثورة وشعبها بغض النظر عن تفاصيل ما يراد صنعه لمستقبل سورية ما بين التقسيم والاستيطان الأجنبي والهيمنة الدولية.

إن الخوض في تفاصيل الاتفاق بحثا عن إيجابيات -أو فتات- لصالح تخفيف المعاناة لا يسبب للباحثين سوى مزيد من الانشغال "الذاتي" بما يصنع العدو الخارجي دون تخفيف المعاناة فعلا قيد شعرة، ودون التقدم خطوة واحدة نحو اقتلاع أسباب المعاناة من جذورها وهي المتمثلة في جرائم بقايا النظام وميليشيات إيران وطائرات الروس والأمريكان.

لهذا بات ما يقال عاجلا أو آجلا بصدد إيجابيات مزعومة أو محتملة أو مرجوة في ثنايا اتفاق هدنة "جديد" هو من فضل القول أو الثرثرة.. وهل نحتاج إلى بحث وتمحيص من أجل تكهن أو تحليل أو دراسة لتقدير ما يراد صنعه الآن حتى ينعقد جنيف-٤ أي تدشين الفصل التالي مما يُتفق عليه خارج نطاق إرادة الشعب الثائر في سورية؟

ألا يكفي بدلا من البحث استحضار ما سبق رصده منذ جنيف-١، تصعيدا للقصف نوعا وكما، وزيادة لعدد المشاركين في العدوان، ومضاعفة للمعاناة عمقا وانتشارا، وتسريعا لوتيرة التشريد وتغيير خطوط الجغرافيا والتاريخ؟

 

الثورة المسلحة كلها مستهدفة

الهدف الدولي الحالي مرحلة متقدمة لاستخدام الوسائل العسكرية بهدف القضاء على العمود الفقري للثورة المسلحة، لأنها ملتزمة بتحرير الإرادة الشعبية في سورية، فإذا قصم ظهرها بضرب بعض الفصائل الأكبر من سواها، مباشرة أو عبر فتنة الاقتتال فيما بينها، وبتجميد بعضها الآخر، وبتطويع القلة الممكن تطويعها، فستنتقل الجهود الدولية إلى المرحلة التالية: القضاء على البقية الباقية من "العنصر المسلح" من هذه الثورة الشعبية التاريخية، أي القضاء على الثورة نفسها وأهدافها، فلا أحد يجهل أننا نعيش في عالم لا يقبل بسلام ولا أمن ولا حقوق ولا استقرار إلا عبر لغة القوة، ولهذا أصبحت قوة الثورة الشعبية مخيفة لكل من يعتبر تحرر إرادة الشعوب خطرا على هيمنته الدولية الاستبدادية الاستعبادية الاستغلالية لشعوب الأرض.

بغض النظر عن بقايا خلاف، وحجمه ونوعيته مع "جبهة فتح الشام"، النصرة سابقا، فإن استهدافها العلني الرسمي المتوافق عليه الآن يعني استهداف طرف مسلح له دور حاسم في استمرار "غليان الثورة" في جزء من الجغرافية السورية.. أما الزعم بأن سواها غير مستهدف معها، مع التهديد والوعيد، فيعني أن مسيرة خداع "الصداقة" الدولية مستمرة.. وسبق أن سجلت قائمة طويلة من المراحل، ابتداء من الإعلان الرسمي (١) عن تصنيف جبهة النصرة آنذاك بأنها إرهابية، ثم (٢) إعطاء الأولوية للحرب ضد داعش واعتبارها حربا طويلة الأمد.

منذ ذلك الحين وُضعت الثورة الشعبية خارج قوسين بعد كل ما قيل عن دعمها من قبل.. ومن السذاجة بمكان الاكتفاء بنظرة سطحية لذلك الإعلان، فالأهم من مضمون صياغته، هو ما بدأ تطبيقه فورا:

١- الانتقال الرسمي من الصراخ حول حتمية "رحيل النظام" إلى الامتناع الفعلي عن أي عمل من شأنه الإسهام دوليا في "إسقاط النظام" (أي تحرير الإرادة الشعبية) أو من شأنه دعم القوة الثورية الذاتية لإسقاطه..

٢- تجنب تفعيل ما يقتضيه التصنيف القديم تحت بند الإرهاب لميليشيات همجية مستوردة أصبحت -بغض النظر عن نزيفها أيضا- تؤخر دفن بقايا النظام عبر ممارسة الإرهاب الإجرامي معها..

٣- تعويض عجز تلك الميليشيات عن أداء مهمتها بمضاعفة دعم إيران الممسكة بزمامها، وذلك عبر حواشي الاتفاق النووي وتطوير العلاقات من عداء قديم مزعوم إلى دعم مشروع الهيمنة الإقليمية..

٤- استغلال ما سبق أن صنعته معادلة "الهيمنة والتبعية" إقليميا للحيلولة دون حيازة الثوار في سورية (وسواها) لأسلحة متطورة فعالة تساهم في تحرير الإرادة الشعبية..

٥- المحاولات التي نجح بعضها وأخفق بعضها الآخر لإيجاد فصائل مسلحة بديلة، وتجميد فصائل ناشطة بالسيطرة على مفاصل قوتها..

إن "الثورة الشعبية المسلحة" كلها مستهدفة، ولا علاقة لذلك بتوجهات هذا الفصيل أو ذاك، ولا بارتباطات بعض الفصائل ولا مناهجها ولا أخطائها أو انحرافات بعضها.. كلها مستهدفة، لأنها ليست "طيعة" لإرادات الهيمنة الدولية، ولا يراد لها أن تحرر إرادة الشعب آجلا أو عاجلا.

ولا يمنع ذلك من تأكيد رفض داعش وفق "تصنيف ذاتي" سوري وعربي وإسلامي، مرتبط بسلوكها المعادي للإسلام والإنسان والثورة الشعبية وجميع أنصارها وداعميها، ولا علاقة لهذا الرفض بأي موقف أجنبي يدعم داعش أو يعاديها أو يوظف وجودها وأعمالها أو يتخذها ذريعة مخادعة لمآرب أخرى.

 

"هدنة بين الأعداء".. تنتظر الجواب

إن انشغال فريق من الثوار وداعمي الثورة بالجدل بين من يتابع هجومه على "جبهة النصرة سابقا" أو يتابع دفاعه عنها باسم "جبهة فتح الشام" حاليا.. هو انشغال يخدم أهداف أعداء الثورة بغض النظر عن استمرار وجود مطالب مشروعة عديدة تجاه "جبهة فتح الشام" وتجاه الفصائل المسلحة جميعا.

ربما أحرج "القوى الدولية الصديقة المزعومة" تخلي جبهة النصرة مؤخرا عن بعض بنود منهجها السابق وعن اسمها هذا واختيار "جبهة فتح الشام" بديلا عنه، إنما كانت فترة الإحراج قصيرة الأمد، بل لعل اغتيال بعض قادتها مؤخرا كان إيذانا واقعيا (أو عملا استعراضيا مقصودا) لتأكيد الاستعداد لتنفيذ ما يراد الاتفاق عليه تحت عنوان "هدنة".. يأتي توقيتها بعد جهود سبقت لامتصاص الحصيلة المبدئية لملحمة حلب الكبرى، وهذا مؤشر على أنها ستكون هدنة فاحشة لإراقة دماء طاهرة بمشاركة مباشرة، روسية وأمريكية.

ولكن السؤال الجوهري مطروح على الثوار، حول ما يقررون ويصنعون، ومتى يتوجهون إلى:

١- الثورة على كل شكل من أشكال "الوصاية" تحت أي شعار أو راية أو ارتباط خارجي، والعودة إلى "جوهر" أهداف الثورة: تحرير الإرادة الشعبية..

٢- إحياء فعالية مسار الجانب المسلح من الثورة، وهذا مستحيل دون توحيد الرؤى على "قواسم مشتركة" دون تفاصيل المشاريع المستقبلية، وتوحيد الصفوف على "قيادة جماعية" مشتركة دون محاصصة ومساومة، وتسليم كل شأن من شؤون الثورة خارج نطاقها المسلح، إلى أهله من أصحاب الكفاءات المخلصين، ويوجد من هؤلاء الكثير من أهلنا الصامدين في الداخل ومن الداعمين المنفيين في الخارج.

كذلك يبقى السؤال الجوهري مطروحا أيضا على السياسيين والداعمين عما يقررن ويفعلون، ومتى يتوجه الجميع إلى "جوهر" العمل السياسي الحرفي المفروض عليهم: تمثيل الثورة وشعبها تجاه كل طرف آخر،

ولا مشروعية لما ينتهك ذلك، بأي صيغة ومستوى وإخراج، وبأي ذريعة تحت عنوان "الواقعية" بدلا من صناعة الواقع كما يفعل سوانا، أو عنوان "فن الممكن"، فقد علمتنا الثورة الشعبية أن سلوك طريق التغيير الجذري التاريخي هو أسمى أشكال "فن الممكن" وهو أيضا معيار الإخلاص في الانتماء إلى شعب قدم الدماء وتحمل ما تحمل من آلام المعاناة ولا يزال.

نبيل شبيب