تحليل – نظرة هادئة في مستقبل دول الخليج

هل حقق لقاء القمة الخليجي الأمريكي مؤخرا أهداف الدول الخليجية العربية بما تجاوز التوقعات كما نقلت وسائل الإعلام عن مسؤولين خليجيين؟

التعهدات وعود.. فهل تنتقل من مستوى الكلام إلى مستوى إجراءات عملية ملموسة في مواجهة مشروع الهيمنة الإيراني إقليميا؟

الحيلولة دون صناعة سلاح نووي إيراني يخدم "المنافس" النووي الإسرائيلي في الدرجة الأولى، فما الذي يعنيه بالنسبة إلى الخليج والمنطقة عموما من حيث إطلاق إمكانات مالية إيرانية ضخمة يمكن توظيفها لخدمة مشروع الهيمنة الإقليمية؟

ما الذي تملك صنعه دول الخليج في حالة نكث الوعود الأمريكية، لا سيما الاستعداد الموعود للتحرك العسكري "إذا اقتضت الضرورة"، علما بأن "الضرورة" أمر نسبي، وهي قائمة الآن بمنظور خليجي حيث يمثل وضع اليمن "خطا أحمر"، وحيث تمثل إيران في سورية خطرا دمويا أحمر آخر، ولا يبدو أن هذا المنظور مشترك مع الساسة الأمريكيين؟

لا تزال توجد أسئلة مطروحة حول مستقبل العلاقات بين الطرفين أكثر من الأجوبة، والإشكالية الأكبر فيها أن الدول الخليجية -كبقية دول المنطقة- لا تزال تعطي الاعتماد على القوة الأمريكية الأولوية على تحرك ذاتي استراتيجي على أرضية تقدم حضاري حقيقي، يشمل الصناعة والزراعة والعلاقات البينية العربية، ويشمل قطاعات الأمن والتسلح والتكتل، ناهيك عن ممارسة ما يوصف بالحكم الرشيد، لتعبئة الطاقات الشعبية في مثل هذا التحرك الحيوي المصيري.

لا يوجد حتى الآن ما ينفي أن السياسات الأمريكية في المنطقة اتجهت للتعامل مع الدور الإيراني إما في صيغة "شرطي الخليج" كما كانت في عهد شاه إيران، أو في صيغة "الاحتواء المزدوج" كما جرى تطبيقها على مستوى إيران / العراق.. ولئن تجاوزت هذا الإطار ببعض التعديلات مراعاة لبعض الدول الخليجية، فلن تخرج عن "العقيدة العسكرية الأمنية" التي أسفرت عنها سنوات سلطة أوباما، أي: "على الأطراف الإقليمية المعنية أن تتحرك عسكريا بنفسها، ويمكن دعمها إذا كان في ذلك تحقيق مصلحة قومية أمريكية" وهو التعبير التقليدي لوصف سياسات الهيمنة الأمريكية عالميا.

. . .

إذا أغفلنا ما بدأ يصنعه مسار الربيع العربي من تغيير جذري تدريجي -وهو ماض إلى مآلاته على كل حال- سنجد أنه لم يعد أمام القوى الإقليمية الحريصة فعلا على ما تعتبره "استقرارها وأمنها" مجال لتحرك فعال ومضمون نسبيا، إلا أن تعتمد اعتمادا أكبر على إمكاناتها الذاتية، وعلى ما يمكن أن ينشأ من تعاون إقليمي على خلفية المتغيرات الجارية، لا سيما على المحور السعودي-التركي، بعد تغوّل مشاريع الهيمنة الإيرانية ودمويّتها إقليميا.

ولكن الإمكانات الخليجية الذاتية تبقى ضعيفة المفعول ما لم تكن ذاتية فعلا، فاستيراد الطائرات وقطع غيارها لا يغني عن تصنيعها ولا يحرر السياسات الذاتية من "الشروط والقيود" المرتبطة باستيرادها.. وفقدان الأمن الغذائي لإهمال المشاريع الزراعية في إطار عربي مشترك، لا يمكن تعويضه ما دام الاعتماد الأكبر على استيراد لقمة الطعام من قوى أجنبية في أنحاء الأرض.. ويسري مثل ذلك على مختلف الاحتياجات الحيوية، التي تعتبر أساسية لاستقلال أي دولة استقلالا حقيقيا، ونشهد حتى الآن شواهد على تطور معاكس، يتغلغل حتى في "مشاريع استهلاكية واستعراضية" مثل بناء الأبراج وناطحات السحاب، إذ تعتمد في التخطيط والتنفيذ والإدارة على الطاقات الأجنبية وليس على طاقات تخصصية "وطنية" باتت عبر "هجرة الأدمغة" مصدرا من مصادر توسيع الهوة الحضارية الفاصلة بين بلادنا الثرية والفقيرة على السواء، وبين البلاد المتقدمة.

. . .

لا شك أن البوادر الإيجابية لتنسيق وتعاون أوثق بين السعودية وتركيا وقطر، يمكن أن يترك نتائج مباشرة وقريبة في التعامل مع البؤر التي تسيل الدماء فيها نتيجة تغول الهيمنة الإيرانية إقليميا.. مع ملاحظة بقاء قضية فلسطين وتغول الهيمنة الصهيونية الدموي إقليميا خارج قوسين حتى الآن.

لكن المطلوب إلى جانب التنسيق واحتمال توظيفه لصناعة القرار الطارئ والحدث الآني ، أن تبذر البذور "الاستراتيجية" لتعاون شامل وبعيد المدى، لا يقتصر على الدولتين، ولا يقتصر على "الأنظمة"، ولا يقف عند حدود ميدان دون آخر.. ولئن كانت "مكافحة الإرهاب" مثلا و"مواجهة الهيمنة الإيرانية" مثلا آخر، مما يفرض نفسه الآن بحكم مجرى الأحداث، فمن الأهمية بمكان، أن يقوم هذا وذاك على أرضية تعاون أوثق وأعمق وأبعد مدى من التعامل مع أحداث آنية، كيلا ينقطع التعاون فور تبدل مجرى الأحداث ومعطياتها.

المنطقة في حاجة إلى تحرك ذاتي يضع في حساباته ومخططاته "الاستمرارية والتطوير" مستقبلا، بما يشمل ميادين بقيت "محظورة" ويشهد الواقع الراهن أن استمرار حظرها لا يحقق للأنظمة استقرارا ولا أمنا، ولا يخرج بها من خطر إلا وتجد نفسها أمام خطر آخر، وفي مقدمة ذلك أن تتحرر إرادة الشعوب لتتلاقى طاقاتها من وراء الحدود على مسيرة البناء المشترك والتطوير، وعلى صعيد مواجهة أخطار الهيمنة الأجنبية، الإقليمية والدولية، وعلى صعيد مواجهة ما ينشأ من أخطار محلية وإقليمية ، كخطر "الإرهاب"، وليس له مكان.. إلا بقدر ما تستمر هيمنة الاستبداد بمختلف أشكاله، المحلية، والإقليمية، والدولية.

نبيل شبيب