تحليل – منتدى ديفوس ومنتدى ميونيخ

 

منذ ستينات القرن الميلادي الماضي يعقد المنتدى الاقتصادي العالمي في ديفوس لقاءاته السنوية وتعقد ندوة ميونيخ لشؤون الأمن العالمي لقاءاتها السنوية، بين الشهرين الأول والثاني من كل عام، أي بلغ عمر كل منهما ما يماثل "شهادة" جيلين تقريبا على مسيرة التطور البشري، كما يرى المؤرخون الذين يعتبرون كل قرن من الزمن شاهدا على مسيرة ثلاثة أجيال. وكانت بداية اللقائين السنوية في فترة لم تعرف بعدُ أهمّ المنعطفات التي بدلت الخارطة العالمية الاقتصادية والأمنية والسياسية مع نهاية القرن الميلادي العشرين، فقد كانت الستينات من ذلك القرن تسجّل آخر المواجهات الساخنة دون حروب في ظلّ سباق التسلح مع الردع بالرعب النووي المتبادل في شريط الشمال. في حقبة الحرب الباردة التي لم يبدّل اسمَها اندلاعُ ما اندلع من حروب ساخنة في الجنوب بالأصالة أو بالنيابة عن المعسكرين.

 

ديفوس اقتصاديا وميونيخ أمنيا –  بين الأفكار.. والتطبيق – صناعة "مستقبلنا"

ديفوس اقتصاديا وميونيخ أمنيا

نشأ منتدى ديفوس في الأصل لتخفيف حدة الانفصام ما بين الفكرة والتطبيق في عالم الاقتصاد الرأسمالي عن طريق جمع مَن يعمل في إدارة الأعمال الاقتصادية ومَن يشتغل في البحوث العلمية الجامعية في ندوة نقاش سنوية. كما نشأت ندوة ميونيخ بحثا عن السبل الأفضل للوقاية من صدام عسكري نووي محتمل وتحصين الغرب أمنيا تجاه الشرق بأسلوب مشابه من تبادل الأفكار دون قرارات مشتركة. وقد تبدّلت الأوضاع العالمية لاحقا فتطورت مهمّة اللقائين معها:

– اقتصاديا عبر الآثار الأولى لثورة أسعار النفط من جهة ولاضطرار واشنطون من جهة أخرى (وتحت وطأة نفقات حرب فييتنام) إلى سحب اعتماد قروض المصرف المالي العالمي على الدولار، مما بدّل أسس المعاملات المالية بين الدول الغربية يومذاك.

– وأمنيا عبر أول الانحرافات العربية في كامب ديفيد نحو مصالحة رسمية مع غاصبي فلسطين وعبر ميلاد البوادر الأولى لسياسة الانفراج في أوروبا تجاه الشرق.

 

مهمّة منتدى ديفوس هي ما يصنعه على مدار السنة، وليس في لقائه السنوي فقط، والذي يجمع ما بين ألف وألفين من الشخصيات، بدءا بعشرات الرؤساء ورؤساء الوزارات، مرورا بمئات رؤساء مجالس الإدارات في الشركات والمصارف العملاقة، وانتهاء بمئات الإعلاميين من مختلف وسائل الإعلام الدولية.

النشاطات الدائمة هي التي تصنع اللقاء السنوي وليس العكس، بل إنّ فيها ما لا يُلفَت النظر إليه في اللقاء السنوي نفسه، والقاسم المشترك بينها هو "صناعة المستقبل عبر تأهيل قيادات شابة جديدة" تتبنّى في مختلف أنحاء العالم وجهات نظر الجهات الغربية القائمة على المنتدى.

 

صناعة المستقبل في ديفوس تتمّ عن طريق مشاريع عديدة يجري تنفيذها على مدار السنة، محورها تأهيل جيل يرتبط تفكيرا ومصلحة بالطريق التي سبقه عليها مَن يقومون على تأهيله من فئة رجال المال والأعمال، فهو لا يفكّر بالعولمة مثلا إلاّ من زاوية مصلحة الفئة المستفيدة منها، ولو كان هو من بلد ضيّقت العولمة خناقها على رقبته إلى أن بلغ حشرجة الموت، ولا يفكّر بحرية التجارة إلا بمعنى حرية وصول الشركات العملاقة لكل زاوية من زوايا البيوت داخل مختلف بلدان العالم، ودون أن يراقَب ما يصنعه مالكوها من أصحاب المال والأعمال من مضاربات مالية يمكن أن تعصف ببلدان بكاملها كما شهدت منطقة جنوب شرق آسيا، وكذلك دون أن تعترضها عقبات من قيم دينية أو حضارية أو أخلاقية، فهذه "العقبات" تجد عبر تلك "القيادات الجديدة المؤهّلة" مَن يقيّدها محليا بمسلسل تشريعات تقنينية، أو مَن "يكافحها" محليا أيضا بسبل عديدة، مثل استيراد إنتاجٍ يُنسب زورا إلى الفنّ الراقي، ويصل إلى أعماق البيوت، عبر دعم محلي لإنتاج "نخب" محلية، مدعومة دوليا، كي توجد أرضية جديدة مصنوعة صنعا لصنع القرار المناسب في هذا البلد أو ذاك، لصالح الممسكين بأزّمة التوجيه عبر شبكات المصالح المهيمنة عالميا

 

صناعة المستقبل في ديفوس هي صناعة الإنسان نفسه وفق تصوّرات مَن يهيمن على البشرية عبر عصب المال عالميا، أمّا صناعة المستقبل في ميونيخ فهي صناعة الأفكار الأمنية التي تضمن استمرار بقاء السلاح في الأيدي المهيمنة عالميا، وعدم ظهور ما يمكن أن يشكّل خطرا على موقعها الاحتكاري، رغم أنّ نظرية "الردع" عبر التسلّح هي التي كان من المفروض تبنّيها بعد أن أصبحت أهمّ ما ظهر عقب إخماد الحرب العالمية الثانية، ومنع من أن تتحوّل الحرب الباردة إلى حرب ساخنة في الشمال، بينما بقي "احتكار التسلّح" هو السبب الأهمّ من وراء اندلاع الحروب الساخنة في الجنوب، وقد وصل الاحتكار في هذه الأثناء إلى حقبة "الحصار" المفروض حول كلّ محاولة من محاولات التسلح، يمكن أن تكسر احتكار القوى المهيمنة أمنيا في الوقت الحاضر.

كما في ديفوس تنعقد في ميونيخ تنعقد سنويا "ندوة" لنقاش لا يسفر عن قرارات ما، ورغم ذلك لا يغيب عنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مثلا ولا أي وزير من وزراء الدفاع في الحلف، ولا أصحاب الشأن من العاملين في "البحث العلمي" من جهة، "المستشارين" من جهة أخرى لدى صانعي القرار السياسي-الأمني في الشمال.

وكان تبادل الحديث هناك لأوّل مرة في القضايا الكبرى، مثل الانفراج بين المعسكرين أيّام تأييده أوروبيا والاعتراض عليه أمريكيا، أو مثل تصعيد سباق التسلح النووي إلى أقصى مداه عبر ما سمّي في حينه القرار المزدوج في حلف شمال الأطلسي، أو مثل أفكار الحدّ من التسلح، والتوازن في نشر القوات التقليدية في أوروبا.

في منتدى ميونيخ أيضا طرح لأول مرة عام ١٩٩١م وعلى أعلى مستويات صناعة القرار السياسي الأمني (وزير الدفاع الأمريكي آنذاك تشيني) شعار الإسلام هو العدو البديل، ولم تصدر عن اللقاء قرارات ورغم ذلك فقد تبدّلت بموجب ذلك الشعار صيغةُ مهام حلف شمال الأطلسي عام ١٩٩٤م تحت عنوان مواجهة "هلال الأزمات"، أي المنطقة المستهدفة ما بين المغرب وإندونيسيا، وتلا ذلك تنفيذ إجراءات عملية كتشكيل قوات التدخل السريع وإعادة البنية الهيكلية للقوات العسكرية الأطلسية لتأمين القدرة على توجيه ضربات سريعة بعيدا عن أرض دول الحلف نفسها، كذلك فقد تبدّلت الصياغات الرسمية للمهام الأمنية لعدد من جيوش الدول الأعضاء في الحلف في اتجاه مماثل، مع إحلال تعابير الأصولية والتطرف والإرهاب وما شابه ذلك مكان تعبير "الإسلام عدو بديل" تدريجيا، دون أن تتبدّل الأسس الفكرية ولا مناهج التنفيذ التطبيقية.

 

بين الأفكار.. والتطبيق

كان ما شهده منتدى ميونيخ عام ٢٠٠٠م، من ازدياد حدة الخلاف الأمريكي-الأوروبي بشأن سعي الأوروبيين لتميّز أمني عسكري واستقلالية في صناعة القرار السياسي-الأمني (وهو خلاف مستمر ومتشعب منذ سقوط المعسكر الشيوعي) يشير إلى أن هذا التميّز سيتحقّق آجلا أو عاجلا، والشاهد في هذا الموضع أنّ الأفكار السياسية الأمنية التي تُطرح في ميونيخ، كانت تنتقل إلى مستوى التطبيق، ولو بدأت على مائدة الخلاف في وجهات النظر، فليس المهم ما يجري في ساعات اللقاء في المنتدى نفسه، وإنما ما يصنعه القائمون عليه على مدار العام، وصنعتُهم هي "أفكار المستقبل الأمنية" على غرار صنعة منتدى ديفوس، أي "زعامات المستقبل الإدارية.. المالية والاقتصادية".

 

يعني ذلك أنّ متابعة مصانع الفكر في الشمال لا ينبغي اختزالها على إلقاء كلمة أو مشاركة في ندوة، فهي أبعد تأثيرا من ذلك بكثير، كذلك لا ينبغي اختزال أهميتها على متابعة صدام كلامي هامشي بين بعض المشاركين، كما كان عام ٢٠٠٠م بين الوزيرين الإسرائيلي شمعون بيريس والمصري عمرو موسى مثلا، فإنّما تظهر الخلفيات على حقيقتها وبكل بساطة عند ربطها بأن ما يسمّى "مركز بيريس للسلام" هو شريك أساسي لفعاليات المنتدى، ويساهم معه منذ سنوات عديدة في تنظيم ندوات التأهيل لزعامات المستقبل، وأنّ من بين المشاركين شباب من مصر أيضا -فليس للمشادة الكلامية تأثير سلبي على ذلك- وكذلك من الأردن وفلسطين، إضافة إلى الإسرائيليين.

إنّ الردّ المطلوب في ميدان صناعة المستقبل هو كسر العقبات السياسية وغير السياسية في وجه مشاريع عربية وإسلامية مشتركة لصناعة زعامات المستقبل على أرضية أخرى غير الأرضية التي تهيمن علينا عولمتها أو تهيمن علينا أسلحتها الأمنية، باسم انفتاح خطير أمام استثمارات شركة عملاقة غربية، أو باسم السلام مع كيان اصطُنع ليكون ثكنة عسكرية غربية أو أمريكية.

 

إن البقاء في ذيل قافلة مّن يصنعون المستقبل على هواهم، والانقياد لما يضعون من مشاريع تصنع المستقبل، مقابل الوهم الزائف بأنّنا نسير معهم ويسيرون معنا لمجرّد الجلوس حول طاولة واحدة في لقاءات "حوار".. هذا أسلوب يوصل العرب والمسلمين إلى عتبة ما من العتبات فقط، في بناء مستقبلي قادم، تشيده القوى التي تفرض هيمنتها مالا واقتصادا وأمنا، عالميا وإقليميا.

ولا يمكن تشييد بناء مستقبلي كريم آخر، إلا بقلب المعادلة الراهنة التي يرمز إليها ذلك الوجود الجزئي، وأحيانا المهين، وغالبا المنحرف، للطرف العربي والإسلامي في منتدى ديفوس، أما ميونيخ فمغلقة الأبواب على كل حال، إلاّ أمام بعض الأفراد من الأتباع جهارا نهارا.

ولا تنقلب المعادلة بهجوم أو نقد، إنّما بتبديل مسلكنا في التعامل مع مستقبلنا، بانتزاع أنفسنا من روحٍ انهزاميةٍ لا ترى سوى التسليم أنه لا يوجد تقدّم إلاّ بالتسليم لإرادة هذه الجهة الدولية أو تلك، ولا يوجد أمن إلا بمعاهدات تجلب الأسلحة والخبراء من هذه الدولة أو تلك.

 

صناعة "مستقبلنا"

لا نزرع البذور على طريق صناعة مستقبل كريم، إلاّ عندما نكون قادرين على إعطاء الأولوية، أولوية الحضور والمشاركة (والمتابعة الإعلامية أيضا) للقاءات أخرى غير ديفوس وميونيخ وأمثالهما، تقوم على أرضية مشاريع مستقبلية أخرى، غير مشاريع الهيمنة المالية والأمنية، ولا مشاريع سلام مع عقبان الحرب أو حمائم السلام وكلاهما من صنف بيريس وشارون وإخوانهما.

المطلوب مشاريع صناعة المستقبل التي تكسر العقبات الراهنة فيما بيننا، وبين دولنا وفعاليات المجتمع لدينا ومراكز البحوث ومعاهد العلم وروابط المصالح المادية المختلفة داخل أرضنا من أبناء أمتنا.. التي تكسر العقبات، السياسية وغير السياسية، وتضع مشاريع صناعة الكوادر، وصناعة الإمكانات، وصناعة الأفكار، وفق التصورات العربية والإسلامية، ولخدمة المصلحة العربية والإسلامية، وانطلاقا من المعطيات العربية والإسلامية، ولتحقيق الأهداف العربية والإسلامية، ثم لا يحضر ما يقوم على أساس ذلك من لقاءات ولا يشارك فيما ينفّذ من مشاريع، أحدٌ من خارج النطاق العربي والإسلامي، إلاّ إذا كان ضيفا ملتزما باحترام قيمنا، أو مؤيّدا مناصرا يعطي ما يكفي من الأدلّة على صدق دعمه لها.

وليزعم مَن يزعم أنّ في تأكيد هذه الهوية العربية والإسلامية نزعة قومية أو تعصب ديني، فهو زعم زائف جملة وتفصيلا، ينطلق من مقاصد صهيونية أو أمريكية أو فرنسية أو سواها، في عالم نعيش فيه، ونعايش بأم أعيننا كيف ينتصر الصهيوني لصهيونيته وللصهاينة ما بين واشنطون وموسكو وأرضنا المباركة المغتصبة، ويتبجّح الأمريكي بأنه أمريكي يريد بسط هيمنته في أنحاء الدنيا، ويباهي الفرنسي بتميزه الفرنسي ويكافح من أجل تثبيت ذلك حتى داخل نطاق العباءة الغربية المشتركة، وهكذا الجميع ما بين بكين وموسكو ولندن إلى أقصى المعمورة، فلم يبق إلاّ أن ينفرد المسلم فقط، العربي وغير العربي، وأن ينفرد العرب فقط، المسلمون وغير المسلمين منهم، في تصديق المزاعم القائلة إنّ أحدهم لا يكون إنسانا، يدعم السلم والأمن والتقدم في العالم، إلاّ إذا تخلى عن هويته الإسلامية الحضارية وعن نسبه وتميزه القومي، وذاب في شرق أوسطية صهيونية أو عولمة أمريكية، أو أصبح "لا شيء"، نتيجة التفسّخ والانحلال!

نبيل شبيب