ما يجري على الأرض هو العنصر الأعمق تأثيرا في صناعة ما يجري في أروقة السياسة وآفاق الفكر، وهذا مما يمكن استخلاصه هذه الأيام من ملحمة حلب الكبرى، في إطار متابعة ما انتشر مؤخرا من كتابات ترفض توصيف الثورة بعبارات من قبيل "المعارضة المسلحة" وتبحث عن تسميات مناسبة لواقع الثورة مثل حركة المقاومة.
. . .
نتوقف عند ملحمة حلب الكبرى ونعلم أن كل ما قيل ويقال بصددها أقل بكثير مما تستحقه هذه الملحمة ثوريا وعسكريا وشعبيا وسياسيا، وستأخذ مكانها في التأريخ منارة سامقة في مسار ثورة شعب سورية طلبا للتحرر من استبداد محلي وهيمنة أجنبية، فقد تجلّى في حلب أكثر من سواها كيف أضيف إلى قاموس الثورة بند "التحرر من احتلال أجنبي" سواء كان العدوان عبر ميليشيات همجية على الأرض أو عبر قصف همجي من الجو والبحر، ناهيك عن تجلّي الاحتلال في انتقال صناعة القرار من المستبد الصغير إلى أسياده.
ونعلم أن صناعة النصر في ملحمة حلب الكبرى قامت على أعمدة تكامل مفعولها مع بعضها بعضا، وأهمها توحيد الصفوف والتخطيط والسياسة الثورية الإعلامية والثبات والمرحلية والمشاركة الشعبية حتى على مستوى الأطفال الأبطال والناشئة الميامين.. ويُنتظر ويؤمل أن تستمر صناعة النصر عبر مزيد من الإنجاز للحفاظ على المكتسبات وحسن توظيفها في المراحل التالية، فالثورة مستمرة.. قبل ملحمة حلب وبعدها.
إنما تقف هذه السطور على بوابة حرب المصطلحات عند جانب متميز من ملحمة حلب الكبرى، وهو أن الإنجاز الكبير الذي حققه الثوار مهما كانت نتيجة الجولة الحالية كان وليد ما صنعه في نفوسهم وبالتالي في قراراتهم دافع "فك الحصار على الأهل في الأحياء الشرقية" من المدينة الثائرة.
وبتعبير آخر:
لقد أكدت ملحمة حلب الكبرى لفك الحصار أن الثورة الشعبية في سورية، من الشعب ومن أجل الشعب، وأن هذا المحور هو الجدير بأن يجمع الثوار بكافة توجهاتهم وتنظيماتهم، وأن يمكّنهم من تحقيق انتصارات تاريخية في ساحات الفداء والاستشهاد والإقدام والتخطيط والتنفيذ.
. . .
في ظلال الأحداث الجارية في حلب وحولها، كُتب الكثير ونشر بصدد توصيف الثورة، ومن ذلك ما يتعامل مع هذا التوصيف كما لو كان أمر "دراسة أكاديمية" أو مسألة رد فعل واجب على ممارسات إعلامية مرفوضة، والأصل أن توصيف الحدث يتبع الحدث نفسه، أي يتعامل مع الواقع الفعلي على الأرض، فآنذاك يساهم استخدامنا للمصطلحات القويمة في التأثير على صناعة الاقتناعات والمواقف والقرارات بشأن ما يجري أو يراد صنعه على أرض الواقع.
ما كُتب ونشر يعبر عن انزعاج متصاعد منذ زمن وبلغ مبلغه في هذه الأثناء تجاه النعوت المستخدمة بشأن الثورة والثوار، دون وعي وقصد، أو عن علم وبقصد متعمد، ومنها "قوات المعارضة المسلحة" و"الفصائل المقاتلة" و"الجيش الحر والفصائل الإسلامية" بل وصل الأمر مؤخرا إلى استخدام تعبير "المتمردين" في إحدى الجرائد السعودية (اعتذرت لاحقا) نقلا عن جهات غربية تصرّ منذ البداية على وصف ما يجري بالحرب الأهلية وما شابه ذلك.
والأهم من ذلك:
كيف يستخدم بعضنا تعبيرا من قبيل "معارضة"، وما عرفت سورية في العهد الأسدي الأسود أي شكل من أشكال المعارضة الحقيقية بالمعنى الاصطلاحي المنهجي للكلمة؟
كيف نجد في صفوفنا من يستخدم هذه الكلمة وقد يضيف "سياسية" أو "مسلحة" فيعزز جهود من يريد "خنق الثورة" ومسخها إلى مجرد "أزمة سياسية داخلية"؟
هذه وأمثالها توصيفات تشوه حقيقة ثورة شعبية اندلعت طلبا للتحرر من نظام استبدادي، والجواب الوحيد المقبول: هذه ثورة شعبية.. أولا وأخيرا.
شبيه ذلك يسري على الزعم أننا في انتفاضة لأغراض معيشية! تكفي إذن العودة إلى ما كان عليه الوضع الاستبدادي الفاسد قبل الثورة، وفق المقولة المخزية: "كنا عايشين"!
ويسري أيضا على تعبير حرب أهلية، أي نزاع بين مكونات الشعب الواحد، ومن يقبل باستخدام تعبير "حرب أهلية" يخدم واقعيا مخططات التقسيم والمساعي الدولية المحمومة لتنفيذها..
ويمكن الاسترسال مع ما تعنيه توصيفات أخرى مثل حرب بالوكالة، أو تحرك شعبي ركبته موجات "إيديولوجية"، أو الزعم أن الثورة من صناعة استخباراتية أمريكية لضرب "محور المقاومة"، وغير ذلك، فقائمة التلفيق طويلة
باختصار: لم يتركوا في حرب المصطلحات شيئا إلا واستخدموه لتشويه حقيقة الثورة الشعبية في سورية، وهي ثورة من أجل الكرامة والحرية والعدالة والأمن، ومن أجل "الاستقلال" و"السيادة" أيضا.
. . .
نحتاج إذن إلى اختيار تسمية قويمة وإلى الإصرار على استخدامها والعمل على نشرها وتعميمها، ومن أبرز ما ميز ملحمة حلب الكبرى أنها انطلقت من أجل "الشعب الثائر المحاصر"، فهذا الهدف الذي جمع الثوار يكسر حصار التشويه والتزييف المشار إليه في صيغة حملات محلية وأجنبية لم تنقطع ضد الثورة وشعبها الثائر.
الشعب هو المنطلق، وهو المحور، وهو الهدف.. وهو ما ينبغي أن يتجلّى في توصيف الثورة.
ووجدنا من يدعو من المخلصين إلى استخدام وصف "حركة التحرير الوطنية" و"حركة المقاومة الشعبية" وما شابهها، ونعلم أن معظم هذه التعابير شبه الاصطلاحية استخدمت سابقا واكتسبت عند عامة الناس معاني لا تنطبق على ما تعنيه "ثورة شعبية".
في حرب المصطلحات لا ينبغي الإسهام دون قصد في التهوين من شأن "الثورة" ولا من شأن "الشعب" الذي صنعها والذي لا يستقيم مسارها إلا بقدر ما تلتزم بالشعب منطلقا وهدفا.
الأصل الذي يجب التشبث به اصطلاحيا هو "الثورة الشعبية"، وكل ما يضاف إليه في سياق الكلام أو بيان المواقف أو المساعي لجمع الصفوف أو طرح المشاريع وما شابه ذلك، ينبغي بقاؤه في حدود المقصود منه في إطار العناوين الكبرى: الحرية، الكرامة، العدل، الأمن، الاستقلال، السيادة، الوحدة الجغرافية. ولعل التعبير الجامع لهذه الأهداف هو "التحرير"، الذي يشمل تحرير الإنسان والأرض وصناعة القرار مع سائر ما يتفرع عن ذلك، فأقصى ما يمكن قوله: ثورة التحرير الشعبية، أو ثورة تحرير سورية، أو ثورة تحرير شعب سورية.. مع إدراك أهمية المصطلحات ذات التأثير الكبير فكرا وإعلاما وسياسة وتفاوضا وحربا وسلما، فلا يستهان بشأنها.
. . .
المطلوب ثوريا في حرب المصطلحات لا يتحقق عبر جهد انفرادي من جانب فريق بعينه، إنما يمكن الوصول إلى الهدف ونشر الالتزام به، عن طريق تلاقي عدد من أصحاب الأقلام وأصحاب التأثير، إذا ما سبقوا سواهم في الالتزام بمصطلح الثورة الشعبية ورفض ما سواه، وتلاقوا على شرح المقصود والتوعية بأهميته والتحذير مما يسببه استخدام تعابير وتوصيفات مغرضة.. هذا فضلا عن التداعي إلى حملات مركزة تجاه وسائل الإعلام التي تواكب مسار الثورة في سورية، ومن مقتضيات رسالتها الإعلامية مهنيا أن تتجنب استخدام ألفاظ تشوّه الحقائق، علما بأنه لا يوجد في إدارة وسائل الإعلام المعتبرة "مصطلح" يُستخدم اعتباطا، بل يأتي بقرار يعبر دوما عن رؤية سياسية إعلامية.
إن حرب المصطلحات بالغة الخطورة، والأهدافُ الثورية فيها تكمل دور الأهداف الميدانية مثل "فك الحصار".. وقد شهدنا ما يعنيه ذلك في ظلال ملحمة حلب الكبرى، بعدما علا صخب التضليل تحت عناوين من قبيل "ممرات إنسانية" و"هدنة إنسانية" وما شابه ذلك.
نبيل شبيب