(يطرح الموضوع جانبا من مشكلات التعليم المعاصرة وكيفية التعامل معها في بلد غربي، ولعله يفيد من يعمل في مجال التخطيط لمستقبل التعليم في البلدان العربية والإسلامية لا سيما في إطار التغيير الجاري الذي فتحت الثورات الشعبية أبوابه، وأهمها باب التقدم حضاريا بعد حقبة تخلف استبدادية طويلة)
. . .
في عام ١٨٠٦م كتب يوهانس فولفجانج جوته، أشهر أدباء ألمانيا، في رسالة لأحد أصدقائه يقول: "بدأت منذ فترة بجمع عبارات مكتوبة بخط اليد، وأرغب في أن أجمع وأمتلك ما يصل لي من كتابات المشاهير المعاصرين والأقدمين".
كان الأديب المشهور يقدر قيمة الكتابة بخط اليد، ولا نحسبه يغير رأيه لو عايش كيف انتشر الحاسوب انتشارا واسع النطاق في عصرنا هذا، وهو ما يسري بطبيعة الحال على موطن جوته، ألمانيا التي قررت منذ زمن تأمين وجود الحاسوب والشبكة العنكبوتية تحت تصرف التلامذة والأساتذة في صفوف جميع المدارس. وقد تحقق ذلك إلى حد بعيد، جنبا إلى جنب مع انتشار الحاسوب في المنازل، فضلا عن أجهزة عديدة أخرى متطورة تطورا يمكّن الكبار والصغار من استخدامها، حتى تجاوز عدد الهواتف المحمولة المسجلة رسميا أربعين مليونا، أي ما يعادل نصف عدد السكان.
هنا لا نحتاج إلى دراسات مفصلة للقول إن هذا التطور الكبير لم يكن على حساب "إتقان اللغة" وانتشار ما بات يوصف باللهجات أو اللغات الافتراضية فحسب، بل كان أيضا على حساب إتقان الكتابة باليد أيضا، فقد أصبحت لا تمثل سوى نذر يسير من الكتابة مقابل استخدام الأزرار المجسمة وأزرار اللمس.
لقد نشأ جيل كامل مع تطوير هذه الأجهزة منذ سبعينات القرن الميلادي الماضي، ومن المؤكد أن النتائج ستتضاعف بالنسبة إلى الجيل القادم كما يشهد واقع التلامذة الآن، إذ أقدمت "رابطة المعلمين" في ألمانيا بالتعاون مع معهد متخصص بشؤون الكتابة، على إجراء دراسة استطلاعية تحت عنوان "هل تنقرض الكتابة بخط اليد؟" وكان من نتائجها أن أربعة أخماس المعلمين المشاركين في الاستطلاع أكدوا سوء مستوى الكتابة لدى التلامذة بشكل ملحوظ في السنوات القليلة الماضية.. ويشير إلى ذلك أن الكتابة بخط اليد ما تزال جيدة لدى تلامذة المرحلة الابتدائية كما يقول ٥٨ في المائة من المعلمين، ولكن تهبط هذه النسب إلى ٢٢ في المائة بالنسبة إلى المراحل الدراسية التالية، كما لوحظ أن سوء الكتابة يشمل ٥١ في المائة بالنسبة إلى الذكور مقابل ٣١ في المائة من الإناث، وهو ما يرتبط بأن الذكور أكثر استخداما للأجهزة الألكترونية الحديثة لا سيما عبر الألعاب والتطبيقات المختلفة.
والواقع أن ألمانيا التي انحسر تعليم خط اليد في بعض مدارسها -كما في ولاية هامبورج- أصبحت بذلك على خطى دول أخرى مثل فنلندا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث صدرت قوانين تلغي إلزامية تعليم الكتابة اليدوية ابتداء من عام ٢٠١٦م، وهذا ما يحذر منه الخبير مانفريد شبيتسر منذ ٢٠١٢م في كتابه "هيمنة الرقمية".
وعند الخوض في الأسباب التفصيلية يتبين أن كثرة استخدام الأجهزة الألكترونية الحديثة يمثل مشكلة في اعتياد الأطفال والناشئة على "تقنيات" في الكتابة تشمل حتى طريقة الجلوس أو استخدام اليد وتصل إلى صعوبة التعامل الذهني مع الورق التقليدي. ويرى الخبراء التربيويون أن قيمة الكتابة بخط اليد لا تتعلق بدرجة وضوحها، بل لأنها على النقيض من الكتابة الألكترونية- تتطلب درجة أعلى من التفكير والتخطيط والتوجيه، وهو ما يحتاجه الناشئة في التعامل مع مختلف المواضيع، ليس المدرسية فقط، بل في الحياة العامة أيضا. يشير إلى ذلك مثلا يوزيف كراوس عبر تأكيد العلاقة الوثيقة بين القدرة على استخدام خط اليد، وبين ارتفاع مستوى التلميذ من خلال عناصر تعليمية أخرى، مثل "التجربة العملية"، وليس مجهولا -كما يقول- أن الكتابة نفسها تتطلب القدرة على الرسم والأشغال اليدوية، ويحمّل مسؤولية انخفاض مستوى الكتابة اليدوية للناشئة للسياسات التعليمية الرسمية نفسها، ويورد على ذلك أمثلة، كتخفيض نسبة "الثروة اللفظية" المطلوبة في المرحلة الابتدائية، حتى في تدريس اللغة الألمانية نفسها، ويطالب بإلغاء مواد تتعلق بالعالم الافتراضي من الصفوف الأولى في المرحلة الابتدائية، مثل لغة الحاسوب، ووسائل الاتصال.
يصعب القول حاليا بأن صانع القرار السياسي سيستجيب لتلك المطالب وما يشابهها أم لا، لا سيما وأن سياسة التعليم لا تتقرر مركزيا، بل عبر حكومات الولايات في دولة ألمانيا "الاتحادية"، وتقول المتحدثة الحالية باسم "مؤتمر وزراء شؤون التعليم والثقافة" بورنهيلد كورت "لا نستطيع وقف تسارع انتشار التقنيات الرِقمية، ولكن هذا ما يضاعف أهمية تمكين المدارس من تأمين قدرة التلاميذ على الكتابة الواضحة المقروءة، بخط اليد"، كما قالت في آخر مؤتمر وزاري في آذار/ مارس ٢٠١٥م، وأضافت "إن خط اليد يعبر عن شخصية الكاتب نفسه، وعن نظرته إلى نفسه كشخصية مستقلة".
ليس هذا النقاش المتزايد حول تعليم الكتابة اليدوية سوى مثال على طبيعة السياسات التعليمية المدرسية في ألمانيا، إذ يبين الخطوط العامة الكبرى فيها، ومن ذلك، تطوير هذه السياسات وما يترتب على ذلك من تطوير المناهج والأنظمة وتأهيل المعلمين، بما يتلاءم مع مجرى التطورات في مختلف الميادين الأخرى، كالمجال التقني والألكتروني في الحياة العامة والخاصة، على أن اتخاذ قرار بالتطوير كما كان في قرار تأمين الحواسيب في الفصول الدراسية الأولى، يتبعه دوما إعادة النظر فيه على ضوء التطبيق العملي ونتائجه، لاتخاذ إجراءات تحسينية. وكانت الميزة الأهم في السياسة التعليمية منذ البداية هي العزوف عن التعليم بالتلقين والحفظ والجانب النظري، إلى التعليم الذي يعتمد على التحفيز وتنمية القرار الشخصي لدى الأطفال والناشئة واعتماد التجربة التطبيقية حيث يمكن ذلك، ومن الميزات التي أصبحت في هذه الأثناء من أعمدة سياسات التعليم ومناهجه، ربط المضامين بالواقع، فإلى جانب المناهج والكتب في ميادين الأدب والتاريخ وما يشابهها، ينحو النظام المدرسي إلى مراعاة ما تقرره الدراسات الحديثة بصدد الاحتياجات الحاضرة والمستقبلية في القطاعات الاجتماعية والاقتصادية والبحثية، وهذا ما يسري بصورة أوضح على المواد المدرسية ذات العلاقة بعلم الاجتماع والعلوم السياسية، فقد أصبح من الممارسات التقليدية طرح القضايا الحية، واعتماد متابعة الأحداث الراهنة، هذا علاوة على أن العامين الأخيرين في المدرسة يحفلان بالتدريب العملي للتلاميذ على كتابة بحوث ودراسات قصيرة، تؤهلهم للدراسة الجامعية، وعلى زيادة درجة اعتمادهم على أنفسهم في الحياة المدرسية، تمهيدا للتعامل مع ما ينتظرهم بعد مغادرة مقاعد المدرسة، إما لمتابعة التأهيل الجامعي أو لخوض معترك الحياة العامة من خلال دورات التدريب المهنية وما يشابهها.
وكما هو الحال بشأن التخلف في إتقان الكتابة اليدوية تظهر باستمرار الثغرات والسلبيات في الصيغة العامة للتدريس، إنما سرعان ما يجري البحث فيها للعمل على مواجهتها، من ذلك ما يرتبط بموقع ألمانيا عالميا، وحرصها أن ترتفع بمستوى التعليم فيها من الموقع المتوسط نسبيا بين الدول الصناعية المتقدمة، وهو ما تبينه الدراسة المقارنة السنوية الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الدول الصناعية، ومن تلك الثغرات ما تصنعه السياسات المحلية المعتمدة في صناعة القرار على دستور "الدولة الاتحادية" فقد ظهر أكثر من مرة أن اختصاص الولايات بالسياسات التعليمية والثقافية يوجد فرصة إيجابية للتنافس، ولكن يوجد أيضا تفاوتا في النتائج، وهو ما انعكس قبل سنوات في صعوبة الانتقال من جامعة إلى أخرى لمتابعة الدراسة عند تجاوز حدود الولايات داخل الدولة الألمانية الواحدة، وتسعى الأجهزة السياسية لاستدراك ذلك بتوحيد بعض الجوانب في سياساتها، ولكن تبقى دوما متأخرة بحلول المشكلات بالمقارنة مع ما يظهر من مشكلات جديدة، ومن المؤكد أن هذا ما يسري الآن على مشكلة جوهرية كمشكلة تنامي العجز الفردي عن الكتابة بخط اليد تحت وطأة تسارع التطورات التقنية والألكترونية الحديثة، وهو بالتأكيد ما لم يكن يتصوّره جوته عندما مارس هوايته في جمع كلمات للمشاهير بخط أيديهم.
نبيل شبيب