تحليل – ما يسمى الخطاب الإسلامي

تزايدت منذ فترة الأصوات التي تطرح ما يسمّى "الخطاب الإسلامي" على بساط البحث، وتشعّبت الآراء حول ذلك إلى درجة تثير التساؤل، ففريق ينتقد ويدعو إلى التصويب والتصحيح، وفريق – من داخل الصف الإسلامي – يرفض الانتقادات ويصل أحيانا إلى درجة اتهامات الدّاعين إلى التطوير بالخضوع لضغوط خارجية، وفريق يودّ – لو استطاع – استئصال "الخطاب الإسلامي" من الساحة ابتداء.. وهكذا!

 

بين الثابت والمتغيّر

ما هو "الخطاب الإسلامي"؟ هل المقصود به مضامين الدعوات التي تحمل عنوان الإسلام عن جدارة واستحقاق، أم سائر الدعوات تحت هذا العنوان؟ هل المقصود "أسلوب" طرح تلك المضامين ما بين الشدّة واللين أم أصل تلك المضامين نفسها؟

لا يسهل العثور على "تعريف" محدّد لهذا المصطلح الجديد نسبيا على الأدبيّات الإسلامية، بتراثها القديم وتراثها "الحركي" الحديث على السواء. فلا بدّ من تحديد المقصود بالكلمة قدر الإمكان، تجنبا للالتباس الملحوظ كأحد الأسباب الرئيسية وراء تعدّد الآراء والمواقف المطروحة في الوقت الحاضر، دون أن يجري "حوار" حقيقي حولها.

نعلم أولا أن "المضامين" الإسلامية نفسها نوعان، أحدهما في حكم الثوابت، وهي المعيار لوصف دعوة أو موقف أو تصرف ما بالإسلامي، والنوع الآخر اجتهادي، إن التزم بعضه بالثوابت يسري عليه الوصف نفسه وإن تعدّدت مساراته وتبدلت بتبدل العلل والظروف. أما ما يشطّ من الاجتهاد بعيدا عن الثوابت، فلا يكفي وصفه بكلمة "إسلامي" ليكتسب تلقائيا وعن جدارة واستحقاق ما يعنيه هذا الوصف. المعيار في هذا وذاك ما عُرف من الدين بالضرورة، ثمّ ما اتفق عليه "جمهور" العلماء، فإن شذ عنهم اجتهاد ما، فهم المرجع في اعتباره إسلاميا وإن لم يأخذوا به، أو في الحكم عليه بغير ذلك.

على أن غالب ما يتبادر إلى الأذهان عند ذكر كلمة "الخطاب الإسلامي" هو "أسلوب التعبير" عن تلك المضامين. وللأسلوب أحكامه الإسلامية أيضا، فالالتزام مثلا بالتبشير لا التنفير، وبالتيسير لا التعسير، والرفق واللين لا العنف والتعصّب، جميع ذلك وأمثاله ثابت الأصل، مستمدّ مباشرة من النصوص المحكمة والقواعد التشريعية الأصولية. 

 

محور "الخطاب الإسلامي"

أمام هذه الخلفيّة يطرح السؤال نفسه: ما المطلوب عموما من تطوير "الخطاب الإسلامي" في الوقت الحاضر؟

إن الخطاب الإسلامي المعاصر، بمعنى الوسائل المتبعة في تبليغ ما انتشر من دعوة إلى الإسلام في العصر الحديث عن طريق العلماء والمفكرين والكتّاب والحركيين الإسلاميين، يشمل قسما لا يمكن تغيير مضمونه لارتباطه الوثيق بالثوابت. وعلى سبيل المثال كانت النسبة الأعظم من تلك الدعوات تؤكد على امتداد عشرات السنين الماضية ضرورة إقرار الحقوق والحريات، وإنهاء الاستبداد والاستغلال، والتخلص من المحسوبية والفساد، ورفض التبعية الأجنبية بمختلف أشكالها.. وما تزال هذه المطالب مطروحة الآن، ويجب الاستمرار على طرحها، وهنا لا يمكن القبول بأصوات تشكيك من صنفين، فبعضها ذو منطلق يعادي الدعوة ابتداءً ويتهم أصحابها على الدوام بزعم ما لا يُضمرون، وهذه علّة تشكيك قديمة متجدّدة لا تزول ببضع كلمات أو بضع مقالات، وبعضها الآخر يرتدي رداء "الحميّة الإسلامية" ويزعم أصحابها وهم القلّة في نسيج التيار الإسلامي، أن طرح هذه المطالب "الآن" يخدم أغراضا أجنبية، متجاهلا أنها كانت مطروحة على الدوام، لمجرد أنه "هو" لم ينطلق منها – وذاك شأنه –  ومركزا الأنظار على ظهور مواقف أمريكية وغربية حديثة، تزعم العمل لتحقيق تلك الأهداف في بلاد المسلمين، وتدوس على ما تدعو إليه في العراق وأفغانستان وفلسطين وغيرها بصورة واضحة بينة.

كذلك فمن ثوابت "الخطاب الإسلامي" أن الدعوات الإسلامية تركّز منذ عشرات السنين على ضرورة اتخاذ الأسباب لتحقيق حياة كريمة، قائمة على دعامات التقدم العلمي والاقتصادي، والإنتاج الوطني، ومناهج العدالة والشورى والتعاون والوحدة، وفق رسالة الإسلام، وهي رسالة الخير والهدى والرحمة للبشر كافة، بما يقوم على الاعتدال والوسطية، والحوار والمنهجية، وتوظيف القوة فيما يحقق التحرّر والكرامة الإنسانية.

لا يمكن القبول بتغيير جوهر هذا الخطاب الإسلامي، لمجرّد التشكيك – مثلا – في أنّه يستجيب لضغوط نعلم أنها تستهدف استئصال البقية الباقية من تأثير الإسلام كما أنزله الله على مناهج التربية والتعليم والتوجيه والإعلام.

أما القول إنّ حاجتنا إلى تعديل "الخطاب الإسلامي" وتطوره حاجة صادرة عن حقيقة انتشار أصوات شاذة، وجماعات متطرفة، وفكر تكفيري، وسلوك إرهابي، تحت عناوين إسلامية، فلا يصح النظر فيه دون النظر في أسباب انتشار ذلك كله، فهي الخلفية التي تمكّن من تحديد ما ينبغي تعديله.

إن ظهور هذه الانحرافات لم يكن في حقبة تمكين الإسلام نفسه من توجيه زمام الأمور في مختلف ميادين الحياة والحكم، بل على النقيض من ذلك تماما، فقد ظهرت جملة وتفصيلا خلال حقبة تاريخية سوداء، شهدت حملات كبرى، خارجية وداخلية، لإقصاء الإسلام وترسيخ التغريب في معظم تلك الميادين.

المسؤولية الأكبر عن هذه الظواهر الشاذة ليست مسؤولية "الخطاب الإسلامي" – بغض النظر عن نواقص فيه – بل مسؤولية من ناصبوه العداء بكافة أشكاله المنهجية المعتدلة عبر عشرات السنين، وحالوا بذلك دون تثبيت وسطيته وفسحوا المجال أمام الانحرافات.

 

التطوير وليس رفض الشذوذ فقط

التغيير الأكبر المطلوب للقضاء على الشذوذ هو التغيير الذي يُقصي مناهج التغريب المتشدد وألوان "خطاب التغريب" المتعددة، التي ما تزال مهيمنة إلى حدّ كبير على صناعة القرار الرسمي وغير الرسمي، رغم انتشار ظاهرة الصحوة الإسلامية أو ظاهرة التديّن شعبيا، وتلك الهيمنة هي التي ما تزال بلادنا وشعوبنا وقضايانا المصيرية تنزف بسببها بلا انقطاع، وهي المسؤولة – أوّلا – عن عدم التمكين للخطاب الإسلامي الوسطي المعتدل، الملتزم بالثوابت، المتطور مع متغيرات الظروف والعصر بصورة منهجية واقعية.

ولا يعني ما سبق إنكارَ ضرورة النظر ذاتيا في "الخطاب الإسلامي" نظرة التقويم والتطوير إلى الأفضل باستمرار، إنما يعني ضرورة وضع القضية في إطار قويم، ليكون طرحها طرحا هادفا سليما يوصل إلى نتائج إيجابية مرجوة. آنذاك يمكن القول إن الخطاب الإسلامي الصحيح، هو الخطاب الأقدر على تحقيق أهدافه القويمة، رغم المعيقات الخارجية، وبالتالي فهذا محور البحث عما يحتاج إليه من تطوير في الوقت الحاضر.

أما الجوانب الأخرى من "الخطاب الإسلامي" مثل إبراز قضية أكثر من سواها في مرحلة من المراحل أو ظرف من الظروف، كالجانب السياسي حينا، والاقتصادي آخر، والإنساني ثالثا، وهكذا، فذاك من طبيعة التعامل الواقعي المطلوب إسلاميا على تعاقب المراحل ومع تبدل الظروف، دون تضييع الثوابت والتوازن والتكامل فيما بينها. والآن عندما يضاعف أصحاب المنطلق الإسلامي الوسطي المعتدل حديثهم عن نبذ الإرهاب في فترة تفشي الإرهاب حديثا، فلا يعني ذلك، ولا ينبغي أن يتسرب إلى أسلوب الكلام ومضمونه، ما قد يوحي بتوظيف تطوير الخطاب الإسلامي لخدمة مزاعم باطلة تحت عنوان "الحرب على الإرهاب"، وهي الحرب التي اتخذت سمة إرهابية على أوسع نطاق. كذلك عندما يزداد التركيز على رفض الاستبداد والمطالبة بالحقوق والحريات، بعد أن ثبت شعبيا ورسميا مدى ارتباط الاستبداد بالتفريط بالقضايا المصيرية والعجز عن تحقيق الأهداف المشروعة، فلا يعني ذلك أيضا ما قد يوهم بتوظيف تطوير الخطاب الإسلامي لخدمة مزاعم باطلة من خارج الحدود تحت عنوان "نشر الديمقراطية" وقد بات واضحا ما تعنيه وترمز إليه عناوين جوانتانامو وأبو غريب ورفح وسواها.

إنّ الثبات على النهج الإسلامي، أو على شعارات عامة الصياغة من قبيل "الإسلام هو الحل"، لا يتناقض، ولا ينبغي أن يتناقض مع ضرورة تطوير الوسائل والمضامين الاجتهادية باستمرار، وكل تقييد ذاتي أو خارجي على هذا الصعيد، يعني جمودا مرفوضا بمنطق الإسلام، وبمعايير ما كانت عليه مسيرة الدعوة منذ العهد الأوّل.

ولئن كان التطوير على الدوام مطلوبا، فهو مطلوب في الوقت الحاضر بإلحاح أكبر، وسرعة مضاعفة، ومع دراسة منهجية دائمة تقارن بين الأهداف وما تحقق منها والسبل الأفضل لتحقيقها، واستيعابٍ كافٍ للظروف الخارجية والمعيقات الذاتية.

لقد أصبحت سرعة تحرك الأحداث والتطورات الدولية في المرحلة الراهنة، أكبر مما كانت عليه في مراحل التاريخ الماضية بما لا يُقارن، وأصبح التعامل معها، يفرض القدرة على أن تكون عملية التقويم والتطوير جزءا لا ينفصل عن مجرى العمل، بعيدا عن الأسلوب التقليدي القديم، القائم على "مراحل" متعاقبة، منفصلة عن بعضها بعضا، فيتم النظر في حصيلة كل منها بعد انقضائها، ثم تجري دراسة النتائج، ثمّ توضع التصورات والمخططات لمرحلة تالية، ثم يبدأ التطبيق العملي، وجميع ذلك لا يصلح لمعطيات سرعة العصر الراهنة.

ويبقى الأمر الأهم فيما سبق هو أن ينجح الخطاب الإسلامي في بيان ارتباط تحركه بالمنطلق الإسلامي نفسه، فتلك علة وجوده واستمراره، وبيان ارتباط تطويره أيضا بهذا المنطلق، جنبا إلى جنب مع بيان القدرة على استيعاب الأحداث الجارية، وتطوير الإمكانات الذاتية، وإيجاد المفتقد منها، واستخدام الأنسب للتعامل مع المتغيرات بصورة متجددة.

نبيل شبيب