التضليل مهمّة رسمية مقصودة – غسيل دماغ جماعي – "أسرار المهنة" بين التوعية والتضليل – تعطيل المناعة الذاتية
ملاحظة إضافية على النص الأصلي من عام ١٩٩٧م:
ليس تقييد حرية الكلمة وممارسة التضليل الإعلامي أمرا جديدا وإن بلغ حاليا (٢٠١٧م) درجة غير مسبوقة واقترن في السنوات الأخيرة بالقتل والاعتقال والتعذيب والتبجح العدائي العلني للأحرار، ولكن كل ما كان من تقييد وتضليل طوال عشرات السنين الماضية لم يمنع من انتشار الوعي واندلاع الثورات الشعبية، ولن يمنع المزيد من ذلك مستقبلا بل سيجعل تفجر الغضب الشعبي أكبر وأوسع انتشارا.
آولا: ليست الحريات الأساسية كحرية التفكير والتعبير وما ينبثق عنها، ملكا لأيّ سلطة، وليس من حق السلطة التنفيذية تخصيصا أن تتصّرف بتلك الحرية الأساسية، سماحا أو تقييدا، ومنحا أو مصادرة، حتى وإن كانت منتخبة بطريقة دستورية مشروعة ومضمونة، ناهيك عن تلك المستبدّة اغتصابا أو تزييفا.. فإن صنعت ذلك استبدادا كان صنيعها باطلا، وإن صنعت ولم تكن مستبدة أصبحت بذلك وحده في حكم المستبدّة، ولا قيمة لعنونة صنيعها هذا بتنظيم الحريات أو ما شابه ذلك، فهذا رهن بصدوره عن الإرادة الجماعية للشعب نفسه، عبر من يمثّله تمثيلا مشروعا، في سلطة تشريعية، تشكّلت نتيجة اختيار حرّ نزيه، دون ضغوط ولا استثناءات ولا تزييف، في إطار سريان مفعول فصل السلطات دستوريا وتطبيقيا.
ومن هنا لا جدوى من متاهات نقاش عقيم حول تفاصيل وثائق وقوانين هي من الأصل تعسّفية، ولا يكون النقاش قويما ومفيدا عند تغييب وضع دستوري قويم.
ثانيا: كل منع استبدادي مطلق أو جزئي لممارسة حرية التفكير والتعبير خطير بحد ذاته، وانتهاك لا يمكن القبول بتمريره، ويضاف إلى ذلك أن تقييد الإعلام وسيلة بهدف التضليل، والتضليل بدوره وسيلة لأغراض أخطر بكثير.. فالإعلام يمرّر آنذاك مزيدا من الممارسات الاستبدادية الباطلة.
التضليل مهمّة رسمية مقصودة
ننظر في مثال من منحدر واقع التعامل السياسي مع قضية فلسطين وموقع التضليل الإعلامي منه. لم يكن مؤتمر مدريد قد انعقد بعد ولم تكن خفايا مفاوضات أوسلو قد كُشفت للملأ بعد، أي لم تكن قد فُرضت صيغ سياسية منحرفة أكثر من الانحراف الكبير الأول في كامب ديفيد.. عندما بدأت وسائل إعلام "عربية" تنشر مسبقا صياغات التخلّي عن ثوابت راسخة في القضية تمهيدا للقادم سياسيا على هذا المنحدر، فعاصرنا منذ أواخر الستينات من القرن الميلادي العشرين:
– كيف تحوّل وصفُ الأرض المحتلة سنة ١٩٤٨م من "كيان صهيوني" إلى دولة..
– كيف بدأت لفظة "إسرائيل" تفقد الأقواس التي كانت توضع قبلها وبعدها تعبيرا عن رفض الاعتراف بما كان غير مشروعا من البداية، كوعد بلفور وقرار التقسيم..
– كيف توارت كلمة "العدوّ" في مثل تعبير رئيس وزراء العدوّ وما يشابهها وراء بدائل مثل "رئيس وزراء إسرائيل"..
– كيف تبدّل وصف طائفة من شعب فلسطين بقيت في موطنها رغم الاستعمار الاستيطاني، فأصبحت في قاموس مفردات ذلك الإعلام تسمّى "عرب إسرائيل" كما يسمّيها "العدوّ"..
هذه أمثلة على تضليل يستهدف التعويد مسبقا على إلغاء مضامين القضية، للانحراف بالوعي الشعبي عما ثبت لديه وفق الوقائع التاريخية والأرضية القانونية الدولية دون تزييف لها.
كما بدأ ابتداع مضامين مضلّلة لمصطلحات ثابتة المدلول في الأصل كالشرعية الدولية، فلم تعد إعلاميا كما كانت "مبادئ في المواثيق" تحكم مرجعياً على القرارات والتصرفات، بل أصبحت تستخدم في وصف قرارات تناقض تلك المبادئ.. كالتي تصدر عن مجلس الأمن بحكم موازين القوى.
وشبيه بذلك التعامل مع مصطلحات أخرى كالواقعية السياسية أو المصالح المشتركة أو العلاقات الودية..
وكذلك نشر كمّ كبير من مقالات وبحوث(!) لتسويغ خطوات تسليم تالية لم يبدأ التفاوض بشأنها أصلا بعد، وهذا وكان الإعلام مربوطا ربطا تبعيا، بوسائل الترهيب والترغيب، بصانع السياسة وما يريد، تسلّطا على الإعلام، عبر التسلّط على الموقع السياسي، فلم يكن صنيع الإعلام قطعا معبرا عن رأي عام يدفع السياسي ليتخذ قرارا ما، بل كان -في يده هو- أداةً لنشر رأي عام يريد نشره، أي كان أداة تضليل لتمرير قرار قادم عزم الاستبدادُ السياسي على اتخاذه.
غسيل دماغ جماعي
واستمر أداء مهمّة التضليل تلك في العقدين التاليين مع انتشار الصحوة الإسلامية شعبيا واندلاع الانتفاضات، الرافضة عبر الإرادة الشعبية، لِما سبق تمريره رغما عنها، والساعية للرجوع إلى جذور القضية فلسطينيا.
ولم تكن الأقلام الإعلامية أقلام جاهلين بالتاريخ أو ما تعنيه شرعية القانون الدولي مثلا، أو بالسنن الثابتة لتبدّل موازين القوّة وحقيقة السياسة الواقعية مثلا آخر، عندما تنكرت لثورة الانتفاضة الأولى وهي في ذروتها، رغم أن حجارة الأرض فيها حققت ما لم يحقّقه أدعياء النضال على اختلاف مشاربهم وألوانهم ومواقعهم من الأرض العربية في نحو أربعين سنة سبقت.
بتعبير آخر:
لقد كان التضليل الإعلامي وما يزال يسبق الخطوات السياسية والممارسات الاستسلامية ويواكبها، فليس هو "مصادفة!" بل هو جزء أساسي من توظيف الإعلام لغرض محدّد.
هنا تتحوّل عملية تكميم الأفواه والأقلام عبر "تقنين" استبدادي ما، إلى وسيلة بالغة الخطورة لتحقيق هدف أخطر منها، يشمل صياغة فلسفة متكاملة لصناعة نكبة تالية مع تغييب الثوابت تباعا وانتهاك المحرّمات علنا، حتى يتحوّل التسليم من جريمة إلى هدف، ويتحوّل الدفاع المشروع للتحرير إلى قيد مزعوم على إرادة التحرير وممارسة المقاومة.
ومن ذلك مثلا الترويج الإعلامي لحصر العمل الفدائي في هيكل منظمة التحرير الفلسطينية مع إعطائها وصف ممثل شرعي وحيد لشعب فلسطين للتغطية على التخلّي عربيا عن القضية ثمّ تصويرها "مشكلة" تخصّ شعب فلسطين فقط، مع ضرب تلك المنظمة والانحراف بها بأكثر من وسيلة.
إن السيطرة الاستبدادية على الإعلام تجعل مهمة التضليل عملية غسيل دماغ جماعي لتصوير الحق باطلا في رأس الضحية والباطل حقا، جنبا إلى جنب مع تهيئة الشعوب بوسائل أخرى، عبر الفقر والبطر وحملات التيئيس الفكري والسياسي والمعيشي وحتى الخلقي والسلوكي التربيوي على مختلف المستويات، ليتحقق هدف "التسليم"..
إنّ منع قول الكلمة الحرة وتقييدها وسيلة وليس هدفا، والهدف هو التمكين من ممارسة التضليل، وهذا الهدف يتحوّل بدوره إلى وسيلة لتحقيق غاية أبعد، هي تمرير سياسات باطلة.
وهذا المثال النموذجي على التعامل الإعلامي مع قضية فلسطين، يمكن تطبيقه على مختلف القضايا الأخرى وفي مختلف الميادين.
أسرار المهنة بين التوعية والتضليل
كيف تتم ممارسة التضليل الإعلامي على أرض الواقع؟
لا تنفصل رسالة الإعلام عن عناصر الإخلاص والوعي علاوة على حرية التفكير والتعبير، كي يمارس الإعلامي مهمّته الأصيلة للتوعية النزيهة الهادفة. كذلك "المستهلك" لمادة الإعلام، فالوعي لديه -مع المعرفة- هو ما يكشف مواطن التضليل ووسائله، ومنها على سبيل المثال دون الحصر:
١- أوّل شروط الإعلام المهني التمييز بين الخبر والرأي..
ومن التضليل علاوة على الكذب المباشر حذف جزء من الخبر الأصلي بحيث يتبدّل المعنى تبدّلا جذريا، واختيار أخبار متوافقة مع السياسة المهيمنة وإهمال أخرى تتناقض معها، وإضافة معلومات صحيحة في الأصل، ولكن ربطها بالخبر يجعلها خلفية له، لتبرير عمل عدواني مثلا.
٢- قد يكون أصل الخبر "قال فلان كذا" أو "قال الرئيس الفلاني كذا"، ويتحوّل إلى صياغة "ردّ صاحب الفخامة… ردّا مفحما على أكاذيب الجهة الفلانية قائلا كذا وكذا" وقد يصلح ذلك لتعليق تافه يعبر عن رأي صاحبه، أما وضعه في صياغة "خبر" فلا يأتي اعتباطا بل تضليلا.
٣- يحسن التنويه هنا أنّ وسائل الإعلام في بلد غربيّ ديمقراطي، تميّز في متابعة القضايا المتعلّقة ببلدها وأحزابه والقوى السياسية المختلفة فيه، تمييزا دقيقا بين الخبر، والتقرير، والتعليق، والتحقيق، وغير ذلك من أشكال الإنتاج الإعلامي، بحيث لا تختلط الوقائع الثابتة بالآراء القابلة للصواب والخطأ، وهذا ما تضبطه الخشية من المحاسبة القضائية، ولا نرصد نشرة أخبار في إذاعة عربية، إلاّ وقد تحوّلت صياغة الخبر فيها إلى وسيلة لتثبيت رأي معيّن، هو الرأي المفروض على حسب نظام قائم وما يتبنّاه من تصوّرات ومواقف، بل قد يتبدّل النظام أو رأس النظام، فتتبدّل الصياغة من النقيض إلى النقيض دون أن يتبدّل جوهر مهمّة التضليل التي تنطوي عليها.
٤- الأخطر ممّا تصنعه وسائل الإعلام التقليدية هو ما تصنعه وسائل أخرى لا يعتبرها جمهورها من وسائل الإعلام، ولكنّها تستكمل مهمّتها، وقد تكون أعمق تأثيرا على "المستهلك" لأنّها تؤدّي المهمّة بصورة غير مباشرة، كالبرامج والأفلام الترفيهية في وسائل الإعلام وعبر دور السينما، وحتى السيل المتدفّق من الألعاب المخصّصة للأطفال والناشئة على الشاشة الصغيرة.
تعطيل المناعة الذاتية
انتشرت لفترة طويلة في الغرب صور مشوّهة شتّى عن الإسلام والمسلمين وقضاياهم، وترك ذلك تأثيره على جيل بأكمله، وعلى مواقفه السياسية، ونعايش شبيه ذلك عبر وسائل إعلامية داخل البلدان الإسلامية، كتلك التي تجعل من أساطير الشعوذة والسحر ومسائل الرقية وما يتّصل بها، وكأنّها جزء من الإسلام وعقيدته والالتزام به.
إنّ التشويه بأقلام تحمل أسماء إسلامية، وفي وسائل إعلام ذات عناوين إسلامية، لا نحسبه أخطر بنتائجه على المدى القريب أو البعيد إلاّ على أصحابه، من ذاك التشويه الذي رصدناه في الغرب، ووجد من يتصدّى له تدريجيا، داخل الغرب نفسه، وبأقلام الغربيين في بعض الأحيان.
وانتشر في عالم الاتصالات ما يوصف بالثورة "المعلوماتية" والثورة التقنية فانهارت حواجز وسدود عديدة في عالمنا الصغير، مما أضعف مفعول تشويه تاريخي سابق، عند الجيل الناشئ في ديار الغرب، بينما نفتقد ما كنّا نرجوه من روافد إعلامية نزيهة من داخل البلاد الإسلامية، بدلا من اغتيال المناعة الذاتية.
كيف نواجه تلك الحملات؟
لا تجدي أساليب الحظر ولا فتح الأبواب دون ضوابط بدعوى "عالمية الأفكار والقيم" حينا ودعوى العجز عن التصدّي للفاسد منها حينا آخر.
إنّ محور المشكلة في هذه الميادين التي باتت بانتشارها ووصولها إلى أعماق البيوت، من أخطر وسائل التأثير على الرأي العام وتوجيهه، أنّنا نواجهها في بلادنا الإسلامية جنبا إلى جنب، مع قوى جنّدت نفسها للمضي قدما في ضرب أسباب المناعة الذاتية، على مختلف المستويات، بدءا بالأطفال والناشئة، وانتهاء بالزعامات والقيادات التوجيهية. وهذا ما يؤكد أهمية السعي لنشر مقومات الوقاية الذاتية في الدرجة الأولى.
نبيل شبيب