توجد نقاط عديدة يملي الحديثَ عنها لسانُ المنطق والواقع والعقلانية السياسية، وأمامنا قضية إنسانية لا تكفي معها الاعتبارات المنطقية لتصنع "عملا" على مستوى ما يمليه لسان الوجدان الحي، وليس المقصود هنا "الضمير العالمي" الذي سبق نعيه منذ زمن بعيد، بل ضمير من يستشعر علاقتة هو بأحداث "التشريد" أو "الهجرة" أو "اللجوء والنزوح".. ويستشعر أن الضحايا قطعة من ذاته البشرية والوطنية والعقدية والقيمية، ويعلم أن إنسانية الإنسان تضيع إن ضمر ضميره وغاب وجدانه، كما يضيع "إنجازه العملي" أيضا.. بتغييب الطاقة التي تدفعه دفعا إلى تحرك منطقي وعقلاني واجب رغم العقبات.
. . .
رغم التعاطف العالمي الواسع النطاق والمشكور.. لم يكن الطفل السوري إيلان، شهيد التشريد على الشاطئ التركي أول ضحية من الأطفال السوريين الذين يتساقطون أرتالا بعد أرتال، يوما بعد يوم، منذ مزق الإرهاب الأسدي الإيراني جسد حمزة الخطيب.. ثم من تلاه وسط تواطؤ دولي رهيب.
ورغم الضجة الكبرى سياسيا وإعلاميا في الوقت الحاضر، لم تكن جموع المشردين في عواصم مقدونية وصربيا والمجر تمثل الموجة الأكبر ولا الموجة الأولى لملايين المشردين السوريين ضحايا الإرهاب الأسدي الإيراني والتواطؤ الدولي، والتي توزعت على تركيا والأردن ولبنان وغيره، وقد انخفض مستوى "الضجة" الدولية المبدئية إزاءها إلى درجة وقف العديد من برامج الإغاثة الإنسانية للمشردين.
ورغم التركيز على المشردين السوريين حاليا لا ينبغي إغفال أن من "يهاجمون" أوروبا بأجسادهم هذه الأيام، ليسوا سوريين فقط.. وإن تجاوزت نسبة هؤلاء منهم ستين في المائة.. وقد تزيد أكثر.
رغم ذلك انتاب الفزع الشديد ساسة الاتحاد الأوروبي الآن، وهو مجموعة دولية كبرى بطاقات مالية وغير مالية كبرى، وتضم ٢٨ دولة، يسكن فيها حوالي ٥٠٠ مليون نسمة، يتنامى استغرابهم تدريجيا من شدة فزع زعمائهم السياسيين، من هذا "الهجوم البشري"، الذي يعتبر ما بلغ أوروبا منه محدودا بالمقارنة مع سائر تيارات الهجرة البشرية منذ سبعين عاما على الأقل!
ومهما ارتفع عدد من يصل إلى "أوروبا" من المشردين، بسبب من يعانق منهم قعر البحر بدلا من اليابسة الأوروبية، فلا يبدو وفق تقديرات الزعماء السياسيين أن "عناصر جيش المشردين القادم" سيتجاوز عددهم هذا العام حدود مليون رجل وامرأة وطفل.. مليون إنسان مسلح بأسنانه وأظافره وفقره وبؤسه وجراحه.
وهنا سرعان ما يذكرنا كثير ممن يتابع "الأرقام" المأساوية، أن هذا الرقم يعادل ثلث أعداد المشردين "السوريين فقط" إلى تركيا وحدها، ولم يقترب حتى الآن من عدد المشردين إلى كل من الأردن ولبنان على حدة.
ثم إن سياسات أولئك الزعماء الأوروبيين تجاه حدث الثورة السوري وحدث الربيع العربي كله.. سياسات تشارك مباشرة في حمل المسؤولية عن كافة النتائج.. بما فيها "تيارات التشريد" البشرية.
. . .
يوجد على أسوار أوروبا وفي مدنها حاليا مشردون من العراق وأفغانستان وإريتيريا وبلدان أخرى، ولكن تتركز الأنظار أكثر على السوريين، فهم من واجه أكثر من سواهم القتل والتعذيب عبر سنوات عديدة، وعالم السياسات "الواقعية" يتفرج بدم بارد.. ولا يستطيع أحد التشكيك في "دوافع هجرة" السوريين، إذ يخاطرون بالتعرض في الطريق لموت مرجح، وبعد الاستقرار لتمييز محتمل، ولكنهم معرضون -دون الهجرة- لموت محقق تحت القصف، أو داخل المعتقلات، ومن بقي حيا منهم يمكن أن يموت أكثر من مرة يوميا بوسائل التعذيب أو نتيجة حصار التجويع.
. . .
إلى وقت قريب كان "العذر" الرئيسي من وراء "تحصين" حدود الاتحاد الأوروبي في وجه "الهجرة"، كما فعلت أسبانيا ودول المتوسط الأوروبية سابقا، وتفعل المجر حاليا.. كان العذر الرسمي المعلن هو الخشية من انتشار التطرف اليميني واكتسابه مزيدا من التأييد الشعبي، كرد فعل على ارتفاع عدد المهاجرين "الأجانب" الوافدين على مجتمع أوروبي. ولكن بين أيدينا الآن عشرات الشواهد على أن مأساة التشريد السورية تخصيصا أوجدت تعاطفا شعبيا غير مسبوق في معظم البلدان الأوروبية، وانتشرت المبادرات غير الرسمية، للتخفيف من وطأة غربة التشريد بمختلف الوسائل، حتى سبق كثير من الأفراد العاديين أولئك الذين يملكون الخبرة من خلال عملهم في منظمات الغوث الإنساني.
بتعبير آخر: تبدل اتجاه الريح على صعيد الرأي العام أوروبيا، ولكن لا يعني ذلك أن صانع القرار السياسي الأوروبي أصبح على استعداد لاتخاذ "قرارات صعبة"، فالإرادة السياسية والمصالح المادية هي التي تحكم صناعة القرار، بغض النظر عن توجهات "الرأي العام" وإن كان من العسير تجاهله، وآنذاك يكون إخراج تنفيذ أي قرار مناسبا قدر الإمكان لتوجهات الرأي العام.
إن المشكلة بمنظور صانع القرار الأوروبي مشكلة "سياسية ومادية" على صعيد العلاقات الحكومية الرسمية، ما بين نزاع ووفاق، وما بين موازنة المكاسب والنفقات، ولا علاقة لذلك -حتى الآن- بالسؤال عن كيفية التعامل مع أصل المشكلة، أي مع الإجرام المستمر في سورية، سيان هل يتقرر إيواء أعداد أكبر أو أقل من المشردين، وكيفية توزيعهم جغرافيا، وتقاسم النفقات ماليا.
وتبقى المأساة البشرية عبر التشريد بنظر الأمريكيين مشكلة "أوروبية"، فيمكن تقديم "النصيحة" بشأنها، ولكن دون اتخاذ قرار يختلف عما دأبت عليه الحكومة الأمريكية من قبل، من قبل أن يعلن رئيسها عن خطوط حمراء ومن بعد وصوله إلى أحضان إيرانية.. دافئة مع استمرار تدفق سخونة دماء الضحايا فيها.
أما المشكلة بمنظور حلفاء الإجرام العلنيين في موسكو وطهران وغيرهم فلا تتجاوز البحث عن أنجع السبل لتوظيف المأساة من أجل انتزاع قدر أكبر من "استجابة" أطراف سوريين لصالح "طبخة دي ميستورا" مع قابلية إلصاق بطاقة "ممثلي المعارضة" على ياقاتهم.
. . .
وإذ نقف وقفة الألم بين يدي المشردين وكافة الضحايا في سورية، لا نعتذر لدى من يطالب بالاقتصار على "الكلام الموضوعي" وتجنب "كلام عاطفي" في هذه القضية، إنما نضيف بلسان المنطق والعقلانية السياسية أيضا:
١- ليست مشكلة التشريد السوري مسألة قائمة بذاتها.
٢- إن جميع ما يصنعه الساسة الأوروبيون أو سواهم للتعامل مع ما يتعلق ببلدانهم وشعوبهم هم منها، لا يغني إطلاقا عن العمل الحقيقي الواجب من أجل استئصال أسبابها واقتلاعها من الجذور، كيلا تتكرر غدا مثلما تتكرر اليوم نتيجة عدم اقتلاع مسبباتها بالأمس.
٣- إن هذا الواجب واجب سوري جملة وتفصيلا، وكل ما يأتي من خارج نطاقه، يدعمه إن وجد فعلا، ولا يفيد كثيرا إن لم ينبثق عن الواجب السوري عمل سوري هادف أصلا.
٤- مشكلة التشريد تتطلب حلا سوريا يصنعه المخلصون ممن حافظوا على ارتباطهم بمسار الثورة وأهدافها.
٥- لا يمكن لهذا الحل السوري أن يكون قائما بذاته، أي يتعلق بالتشريد فحسب، بل هو جزء من واجب تاريخي جسيم كبير، يتمثل في مواصلة العمل الثوري وتجاوز كل عقبة ذاتية وخارجية في وجهه، على ذات المنطلقات، ومن أجل ذات الأهداف، التي شق طريقها ورسم معالمها، أول من هتف في المدن السورية بإسقاط النظام الأسدي المتوارث ومن معه ومن يدعمه.
نبيل شبيب