كيف نصل لرؤية استراتيجية ثورية متكاملة وفاعلة في سورية، رغم نقاط الضعف التي نشكو منها، ورغم الدوامة التي يوضع مسار الثورة فيها؟ وحتى متى نتساءل عنها ونفتقدها ونحن نرصد ما يسببه غيابها من عواقب على حساب الثورة والشعب والوطن؟
القيادة المطلوبة والواقع
تطالب جهات عديدة في الثورة الشعبية في سورية بقيادة مشتركة حقا.. أي لا تقتصر على عدة فصائل ميدانية وإن كانت كبيرة ومؤثرة بل تشمل العدد الأكبر منها، ولا تقتصر على القطاع الميداني بل تشمل التجمعات السياسية وشبه السياسية، كبيرها وصغيرها ما أمكن، ولا تعمل عن بعد بل من داخل الوطن أو يكون لها وجود أساسي دائم وظاهر للعيان على أرض الوطن، لا سيما فيما يتعلق بتأمين الاحتياجات المعيشية، ولا تخوض مفاوضات وتجري اتصالات مع الأطراف الإقليمية والدولية دون رقابة ومحاسبة وشفافية، بل يظهر للصديق والعدو أنها تمثل شعب سورية الثائر وأهدافه وتطلعاته ومصالحه الحالية والمستقبلية في أي اتصالات خارجية..
بتعبير موجز: المطلوب وجود قيادة ثورية عليا وفعالة.
ولكن ليست القيادة مجرد منصب أو رأس هرم في تنظيم.. بل هي القيادة القادرة على التصرف جماعيا، تنجز ولا تنحرف، تخطط وتتحرك ولا ترتجل، تحيط بميادين عملها علما، وليس بجانب دون آخر، وتكون مقبولة عموما لأنها تعمل بكفاءة وتراجع نفسها باستمرار.. وجميع ذلك في إطار ما يرتبط بالثورة وشعبها ووطنها، وحاضرها ومستقبلها، ولهذا يجب أن نؤكد في البداية:
إن وجود قيادة ثورية عليا وفعالة يتطلب رؤية استراتيجية شاملة، بمنطلقات قويمة، وأهداف واضحة محددة، بعيدة ومرحلية، ومخططات قابلة للتنفيذ، وآليات مناسبة للتفاعل مع المستجدات، وعلاوة على وجود معايير موضوعية شفافة للنجاح والإخفاق تكون موضع التطبيق الدائم.
الرؤية المطلوبة
الإشكالية أننا لا نفتقد وجود "رؤية" ما، بل يوجد لدينا الكثير تحت هذا العنوان أو بعناوين أخرى مشابهة، بعضها يمثل توجها انفراديا وإن قال أصحابه إنهم يفتحون الأبواب أمام الجميع.. فهذا موقف يعني اشتراط تقبل هذا التوجه من حيث الأساس حتى وإن انفسح المجال لبعض التعديلات، وبعضها الآخر ينطلق من المعطيات الميدانية ويربط السياسة وسواها بها أو العكس.. ولا تتحقق الرؤية إلا بالتكامل بين هذه الجوانب دون طغيان بعضها على بعضها الآخر، ومن الرؤى المعلنة ما يعتمد شعارات جامعة، ولكن دون مضامين محددة هي بمثابة الجسد من الرأس.
إن "الرؤية" المطلوبة ثوريا هي ما يمثل "مشروعا" ثوريا متكاملا وجامعا، وفق المعايير المعتبرة في صياغة المشاريع الكبرى والمخططات والاستراتيجيات.
لم يكن هذا ممكنا على أرض واقع الثورة في بدايات انطلاقها، لأسباب عديدة، منها كمثال أنها انطلقت ثورة شعبية عفوية لم تتضمن انتشار "الشعور" بالحاجة إلى مثل تلك الرؤية الشاملة، ناهيك عن انتشار الاقتناع بضرورتها، فضلا عن المعيقات المتراكمة، مثل التسابق السريع على اقتناص الثورة بالتبني أو الهيمنة..
عقبات على الطريق
لقد تبدلت المعطيات في هذه الأثناء، وهذا ما تشهد عليه محاولات جادة عديدة، تتلاقى نظريا على كثير من الأطروحات.. ولكن يتحرك كل فريق على حدة، فلا يوجد التقاء جامع على طرح مشترك، ولعل من العقبات غياب اقتناع مشترك بالطريق المؤدية إلى تلك الغايات.
يوجد بين تلك المحاولات الجادة من يرى التحرك الممكن هو ذاك الذي يبدأ بالأقربين، فالتحرك الذي ينطلق من طرف إسلامي على سبيل المثال، يبدأ التواصل مع من هم أقرب إليه من الإسلاميين..
ويوجد من يكرر أساليب تشكيل بعض التجمعات في السنوات الماضية، رغم أن مجرد تحركه بمحاولة جديدة يعني ضمنيا على الأقل أنه يرى عدم تحقيق الهدف المطلوب عبر تلك الأساليب..
ويوجد سوى ذلك مما لا داعي للإطالة بتعداده.. الحصيلة للأسف هي بقاؤنا في دوامة التساؤل: كيف ومتى ومن يقوم بالمهمة؟
إن أي مشروع تغييري مطلوب، يعني ابتداءً إبداع الجديد، وعدم التقيد بما جعلته الثورة قديما، مع قابلية الاستفادة منه، ومع الانطلاق من قراءة موضوعية لجميع المعطيات وليس لبعضها دون بعضها الآخر.
ويوجد من يعترض على السعي لرؤية استراتيجية "كبرى".. فيقول:
هذا هدف كبير.. فلنبدأ بخطوات صغيرة نستطيع القيام بها.
والجواب:
حتى متى؟
حتى متى بعد مسلسل ما لا يحصى من تجارب مؤلمة وخبرات دامية، فلم نعد نقوى على ذكر ثمن كل يوم يمرّ دون أن نقترب من النصر، وكيف نقترب منه دون التلاقي على رؤية الطريق إليه؟
يجب أن ننتقل من التساؤل "هل.. ومتى" إلى السؤال الهادف: كيف؟
من يضع الرؤية المطلوبة؟
إذا أردنا حقا قيادة مشتركة للثورة..
وأردنا بالتالي إيجاد رؤية شاملة مشتركة..
واقتنعنا باستحالة الوصول إليها من "فريق" أيّا كان شأنه وموقعه، ما دام هو "طرف" من الأطراف..
سنصل تلقائيا إلى نتيجة شبيهة بما تصل إليه دولة مستقرة عندما تتعرض لأزمة سياسية كبيرة وشاملة للجميع فيظهر التداعي إلى "حكومة الوحدة الوطنية".. وليس هذا ممكنا في مسار الثورة، لغياب معايير لا غنى عنها مثل المواد الدستورية والانتخابات والتصويت وما شابه ذلك، فلا يبقى سوى الاعتماد على "الكفاءات" ذات العلاقة بالهدف المطلوب.
لن توضع رؤية للجميع عبر "مؤتمر وطني" يبعث إليه كل فريق بمن يمثله.. أو يقتصر على بعض الأطراف ويغيب آخرون، ولكن يمكن التوافق على ما تطرحه نخبة من المتخصصين، المقبولين وموضع الثقة عموما، ويمثلون من قطاعات التخصص -وليس التنظيمات- ميادين سياسية وحقوقية وشرعية وعسكرية وفكرية، ولا يرتبطون بانتساب عضوي أو مهمة أساسية بطرف من أطراف الثورة، حتى وإن كانوا يحسبون على هذا الاتجاه أو ذاك كما يقال.
لا يعني ذلك أن يتحركوا "نظريا" أو "أكاديميا".. بل المطلوب توظيف كفاءاتهم التخصصية لاستيعاب ما يتوافر من معطيات في واقع مسار الثورة، ولإبداع ما تجب صياغته عبر التقديرات الموضوعية لما يمكن التلاقي عليه وكيفية تنفيذه مرحليا دون أن يصنع العمل المرحلي عقبات في وجه ما يجب تثبيته كأهداف بعيدة أو يصنع انتهاكات لخطوط حمراء.
إن كانت المسؤولية عن وضع الرؤية الشاملة مسؤولية نخبة المتخصصين -وهم موجودون- فإن المسؤولية لتحقيق ذلك هي مسؤولية المخلصين من صناع القرار فيما يوجد حاليا من تنظيمات وتجمعات، فهم المطالبون بأن يتلاقوا على الآلية العملية والإطار العام لتمكين النخبة المتخصصة من العمل.. دون شروط وقيود.
بغض النظر عن التفاصيل الموضوعية الضرورية في رؤية استراتيجية شاملة، فإن ما يجب الوصول إليه لن يكون سوري النسب وثوري الهوية دون دعامتين راسختين:
١- قدرة البديل الثوري المطروح عن بقايا النظام على التعامل -في وقت واحد- مع معطيات واقعنا وطنيا، وعلى التعامل الخارجي إقليميا ودوليا تعاملا موضوعيا بلغة المصالح المشروعة..
٢- صياغة الثوابت المرتبطة بتحرير إرادة الشعب.. فهي المنطلق، وتحصين مصلحة الوطن.. فهي المرجعية، وارتباط هذا وذاك بالتغيير الذي تصنعه الثورة على أرض الواقع.
نبيل شبيب