تحليل – قضية الأكراد في اللعبة الدولية

مهما قيل عن زعامات كردية انحرفت وتشرذمت وتقاتلت، وساهمت في إسقاط الإخوة الأكراد في كثير من المهالك، يبقى من قبل ومن بعد أنّ للأكراد حقوقا حرموا منها، وأنّ قضيتهم العادلة أكبر من أولئك الزعماء وما يصنعون.. ولن يخرج الأكراد وسواهم من دوامة الفوضى الهدامة الحالية دون الرجوع إلى القاسم المشترك الأعظم بين قضايانا جميعا، وهذا ما ورد في هذا المقال المنشور في جريدة الشرق القطرية في ١٨ شباط / فبراير ١٩٩٩م أثناء ظروف مشابهة لما نعايشه هذه الأيام من عام ٢٠١٧م

 

وصاية مرفوضة على الأكراد

إنّ ما يجري على الساحة الكردية –كسواها- أصبح يجري جهارا نهارا، وأصبحت الأهداف فيه علنية تتبجّح بمخالفة مبادئ العدالة والشرعية، فلا يستحيي أصحابها من نشرها على الملأ، وأصبحنا في تعاملنا مع القوى الدولية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ومع تصرّفها بالقضية الكردية، في إطار تحقيق أهدافها الذاتية، كأنّنا نضع أنفسنا طوعا داخل الشراك المنصوبة ونحن نرصد بأعيننا كيف تنصب لنا، ثمّ نسلّم أمرنا لمن ينصبها فكأنّه هو الوصي الأمين على قضايانا في عقر دارنا!

لا بدّ من تجريد قضية الأكراد من أساليب التعامل بها بمنطق الوصاية الأجنبية على الأكراد وعلى المنطقة ككلّ، لمن يريد العمل فعلا لإقرار الحق والعدل، وإيجاد حلّ مستقرّ للمشكلات المنبثقة عن هذه القضية. ولا يكفي لذلك مجرّد متابعة الأحداث الآنية، وهذا دون التهوين من شأنها، فالقضية أكبر من الأشخاص وما يقررون ويصنعون. وقضايا التحرّر من الاستبداد وتحرير الإرادة السياسية للدول من التبعيات، كلاهما معا وكذلك الحرية الفردية والكرامة الفردية والحقوق الفردية، والحقوق الشرعية والقانونية الدولية -دون تزييف وانتقائية- لشعب من الشعوب ودولة من الدول، لا ينبغي إخضاعها للمساومات، أو لظروف حكومة من الحكومات، أو لموازنة قوة من القوى الدولية، وأدوات تمييزها بين إنسان وإنسان، وبلد وبلد، وشعب وشعب!

 

اللعبة الدولية بورقة الأكراد

ليست قضية الأكراد قضية هذا الحزب أو ذاك، فكما كانت قضية أوجلان وحزبه اليساري ورقة من أوراق اللعبة الدولية على المنطقة بمجموعها، لا يزال هذا ساري المفعول حتى اليوم على صعيد سواه. 

لقد صنعت القوى الدولية قضية الأكراد صنعا إبان الحرب العالمية الأولى، بأساليب تقليدية معروفة في اتفاقات سايكس بيكو وفرساي وغيرها لرسم الخرائط وتوزيع الشعوب توزيعا مدروسا، تضمّن فيما تضمّن وضع ألغام إقليمية، تصلح للتفجير في حقبة تالية، عندما يحين الوقت المناسب وتحتاج اللعبة الدولية إليها، وبقيت قضية الأكراد لا تجد إلاّ الصمت، أثناء الفتك بهم واضطهادهم أو حرمانهم من حقوقهم اليومية على الأقل، عبر عشرات السنين الماضية وفي أكثر من بلد. 

لم يتغيّر شيء من مجرى الاضطهاد نفسه إذ بدأت توضع القضية موضع الصدارة، ولا يمكن إغفـال ظروف التوقيت، فشغل العرب والمسلمين بمنطقة الخليج ابتداء من الثمانينات في القرن الميلادي العشرين، كان يجري جنبا إلى جنب مع نقل المنطقة بأكملها من حقبة كامب ديفيد الانفرادية إلى حقبة كامب مدريد الجماعية، أي كان تحويل الثقل الرئيسي في أزمات المنطقة، من فلسطين وما حولها إلى الخليج هدفا دوليا صهيوأمريكيا مطلوبا. وكما أعطى نظام الحكم السابق في العراق من خلال غزو الكويت للقوى الدولية الورقة التي أرادوا اللعب بها، ولعبوا بها، للفتك بأمن المنطقة جميعها في نهاية المطاف، كذلك فقد ساهم سلوك فريق من زعماء الأكراد في إعطاء القوى الدولية الورقة التي يلعبون بها، للفتك بأمن المنطقة جميعها في نهاية المطاف!

ولا ينبغي للأكراد نسيان مذابح حلبجة وأخواتها والسكوت الغربيّ المشين عنها سنوات، ما دام مرتكبها يخدم مصلحة غربية في حربه مع إيران، ثمّ عندما أصبح هو نفسه مستهدفا، لم يقتصر الأمر على جعل العرب أعرابا، بل شملت الجهود الدولية العمل على جعل الكرد أكرادا أيضا، فإذا ببعض زعمائهم تخنقه الأحضان الأمريكية بدعوى الدعم ضدّ النظام الحاكم في العراق، وبعض زعمائهم الآخرين تصبح رأسه هدية كما كان مع أوجلان، مقابل دعم مطلوب ضدّ صدّام، فقدّمتها إليهم المخابرات الأجنبية، الأمريكية والإسرائيلية!

لا جدوى من الانسياق إلى تفاصيل مشكلات لا شكّ في أهميتها، ولكن دون العمل من أجل حلول لها، ولا يفيد الجدال حول مدى خداع الغرب لبعض زعماء الأكراد وأمثالهم من زعماء العرب وسواهم، أو عدم خداعهم، واحتضانهم أو عدائهم، أو الانقسام بين التأييد والنصرة على غرار انقساماتهم، بينما تلعب القوى الأجنبية مباشرة بقضية الأكراد كما تلعب بسواها، وتعبث بقرارات المتصدّين للزعامة في صفوفهم كما تعبث بقرارات زعماء دول إقليمية، وفق ما تقتضيه مصالحها هي ويقتضيه تقلّب تلك المصالح فحسب. 

 

عودة إلى الجذور

إلى وقت قريب لم يكن للأكراد قضية، إذ لم يكن المسلمون يميّزون بين كرديّ وتركيّ وعربيّ وإيراني وسوى ذلك من شعوب صهرت بوتقة الإسلام وحضارته الفوارق العرقية والعنصرية بينها، دون أن تذيبها أو تذيب جذور تميّزها، ودون أن تحرم فردا من المسلمين، سيّان ما نسبه وما لونه أو لسانه، من الوصول إلى المكانة التي يستحقّها، تبعا لكفاءاته ومنجزاته أوّلا، وإلاّ فأين فينا من سأل عن نسب ابن الأثير عمدة المؤرّخين، أو ابن حجر العالم الفقيه، أو ابن خالكان القاضي العادل، فضلا عن القائد المجاهد صلاح الدين، أو أين من سأل عن نسب نساء عالمات وأديبات كأسماء وجويرية الهكاري وشهدة الدينورية، وغيرهنّ؟ لم يكن أحد يقول إنّ هؤلاء وكثيرا من العلماء والأدباء سواهم كانوا من الأكراد، فيؤخذ منهم أو يترك لهذا السبب، بل كان النظر إليهم بمنظار تقويم أعمالهم، وحتى الذين ينتقدون بعض ما قالوا به، لا يشذّون عن اعتبارهم من سلسلة الأفذاذ الذين أنجبتهم حضارة إسلامية إنسانية، في كلّ ضرب من ضروب العلوم والفنون الدينية المحضة والدنيوية. 

كذلك فقد كان الأكراد كسواهم، ودون تمييز عرقي، جزءا لا يتجزأ من حركات النهوض المتعدّدة، فيما يسمّى العصر الحديث، والتي دارت جميعا حول الجوهر الإسلامي المشترك وإن تعدّدت الاجتهادات، أم هل نستطيع أن ننتزع من نسيج تاريخنا المشترك الحديث أسماء معيّنة لأنّ أصحابها كانوا أكرادا فنجعل لها نسيجا كرديا قائما بذاته، من مثل محمد عبده ومحمد فريد وجدي وأحمد ومحمد تيمور، ونحن نعدّد أسماءهم جنبا إلى جنب مع جمال الدين الأفغاني وأبي الأعلى المودودي وابن باديس ومالك بن نبي، ولا يفكّر أحدنا في نسب هذا أو ذاك بل يفكّر -وإن اختلف مع بعض التفاصيل والجزئيات- فيما قدّموه جميعا على طريق النهوض.

ليست قضية الأكراد بهذا المنظور إلاّ واحدة من قضايا عديدة في مختلف الميادين والأمكنة، ونحن الذين نحمل المسؤولية عن فصلها عن بعضها بعضا، بانصياعنا لما يخطّط له وينفّذه سوانا، حتى أصبحنا -كما أرادوا لنا- نواجهها متفرّقين، بينما يلعب خصومنا إقليميا ودوليا بها مجتمعين، فنخسرها أو نفرّط في كثير منها تفريطا خطيرا، بدءا بفلسطين مرورا بالشاشان وانتهاء بالأكراد، وبدءا بالمرأة مرورا بالتحرّر والتقدم، وانتهاء بالفكر والفن. 

ولا مخرج من سقوطنا في منحدر بعد منحدر، وهاوية بعد هاوية، إلاّ عندما نستوعب أوّلا أن قضيتنا الكبرى الجامعة، كانت وما تزال في جوهرها قضية واحدة ذات جوانب متعدّدة متشابكة متكاملة، فما نصنعه في أحد الجوانب يؤثّر على الأخرى، وما أصبح للأكراد قضية، ولكشمير قضية، ولفلسطين قضية، وللقرن الافريقي قضايا، وللبلقان قضايا، إلاّ بعد أن أصبحت أفكارنا ومقاييسنا ومعايير قبولنا ورفضنا، تولد في محاضن خطيرة، غريبة عن الأرضية الحضارية الجامعة لنا، ولا عذر لنا بتكرار أنّ هذا ما صنعه لنا سوانا، يوم كان في أرضنا مستعمر حاكم، فقد خرج منها وما زلنا نملّكه أمرنا، ورحل جنوده المسلّحون وبقي ربائبه المنحرفون، حتى عاد جنوده أيضا إلى أراضينا وأجوائنا ومياهنا!

قضية الأكراد أكبر من زعماء الأكراد، وقضية فلسطين أكبر من زعماء الفلسطينيين، وكذلك قضايا الخليج وسواها، فقضية مستقبل المسلمين في أرضهم، وفي عالمهم وعصرهم أكبر من جميع زعاماتهم وأحزابهم وتياراتهم، ولن يخدم أحد هذه القضايا محليا أو إقليميا أو دوليا، متفرّقة ومجتمعة، إلاّ بمقدار ما ينتزع نفسه من أساليب تمييزها عن بعضها، واستعداء أهلها على بعضهم بعضا، لينطلق من جذورها المشتركة، ويحمل قسطه من المسؤولية في الموقع الذي يوجد فيه، وعلى قدر ما يملك من التأثير، سواء كان سياسيا يقرّر، أو موظفا ينفذ، أو تاجرا يرتزق، أو كاتبا يؤلّف، ليصبّ ما يصنع الجميع في تيّار واحد، يدفع الشعوب ويدفع الحكومات على السواء، إلى التلاقي من وراء الحدود والرايات والعناوين المتعدّدة، على أرضية مشتركة، في عالم قام ويقوم على التكتّل لا الفرقة، وعلى تكامل جهود أصحاب المصالح العليا المشتركة لا تناقضها، وعلى ارتباط كلّ فريق بجذوره لا بترها والتنكّر لها والانطلاق في السبل المتشعبة بعيدا عن الصراط المستقيم.

 نبيل شبيب