المشهد يثير الاستغراب والازدراء وإلى حدّ ما بعض الإشفاق، أن تجتمع مرّة بعد أخرى جماهير غفيرة من الرجال والنساء "البالغين العاقلين"، بدءا بالمسؤولين السياسيين وانتهاء بالصعاليك، في قاعات كبرى، ويقف "الخطباء" فينادونهم أنّ "يا أيهّا المجانين والمجنونات"، فيصفقون ويطربون ويتمايلون ذات اليمين وذات الشمال وقد أخذت الخمرة بعقولهم. أن يحدث هذا مرّة عابرة يمكن أن نعتبره "شذوذا" عن العادة، أمّا أن يتكرّر عاما بعد عام، منذ عدّة قرون، وإن تبدّلت وتعدّدت أشكاله، فأمر يستدعي التساؤل، ما الذي أفسد الأذواق وقلب المفاهيم رأسا على عقب؟
نشوة الجنون
الأرجح أنّ البداية كانت في مدينة فرانكفورت الألمانية في القرن الرابع عشر الميلادي، وكان من أسباب الملابس التنكّرية أنّ حاكم المنطقة أصدر عام ١٣٥٥م أمرا بمنع الملابس التنكرية خشية من حوادث فوضوية، فتحدّاه "المجانين" في احتفالاتهم. وفي هذه الأثناء أصبح لهذا الضرب من الجنون مواقع عديدة في أنحاء العالم، وباستثناء ريودي جانيرو في البرازيل، تعتبر منطقة نهري الراين والماين بألمانيا مركزا رئيسيا. ولا حاجة لوصف تفصيلي لِما يجري في احتفالات الكرنفال، بل تكفي بعض الإشارات العابرة، ومنها أنّ قيمة ما يشتريه "المجانين" في ألمانيا وحدها من ملابس وأدوات تنكرية تصل إلى مئات الملايين، ومنها أنّ أجهزة الشرطة تستنفر العاملين فيها، فحوادث السير بسبب المجانين المخمورين في الدرجة الأولى تسجّل رقما قياسيا، يفوق في كلّ عام العام الذي سبقه، وهذا ما يستنفر بدوره المستشفيات وأطباءها فتعمل بأقصى طاقتها، لنجدة المصابين في حوادث السير، أو داخل قاعات الاحتفال، ويغلب أن يكون الضحايا من الشبيبة والناشئة، فهؤلاء يجدون من "حرية" التردّد على الحانات وتعاطي المشروبات أثناء الاحتفالات، أكثر ممّا يجدونه عادة في بقية أيام السنة، ويساهم تهوّرهم في زيادة تعرّضهم للخطر.
وكلمة "كرنفال" هي الشائعة في وصف عيد الجنون والمجانين هذا، ولكنّ مناطق أخرى تطلق على المناسبة نفسها وصف "ليلة الصيام"، وكلمة كرنفال نفسها ذات أصل إيطالي، وتعني "وداعا أيّها اللحم"، إشارة إلى صيام النصارى عن تناول اللحوم ابتداء من يوم معيّن في السنة، ولكنّ المشاركين في جنون الكرنفال لا يصومون، فقد اضمحلّ الالتزام بالتعاليم الكنسية منذ زمن بعيد، وجنونهم لا يقتصر على ليلة الصيام فقط، بل يبدأ قبل شهور، وعلى وجه التحديد في الساعة الحادية عشرة والدقيقة الحادية عشرة من اليوم الحادي عشر من الشهر الميلادي الحادي عشر، ويستمرّ الجنون على " دفعات " تبلغ ذرواتها الأخيرة في الأسبوع الأخير قبل حلول موعد الصيام، بعد زهاء ثلاثة شهور.
يوصف يوم الخميس الأخير قبل حلول موعد الصيام بأنه "ليلة صيام النسوة"، ويقال إنّ ذلك يعود إلى تمرّد النساء على أزواجهنّ قبل قرون، بعد عجزهم عن تأمين ما يكفي من دخل مادي لهنّ، فخرجن يشتغلن، ثمّ يحتفلن وحدهنّ دون الرجال بعد العمل، ويرمز إلى هذا التمرّد الآن، أنّ في الساعة الحادية عشر والدقيقة الحادية عشرة من ذلك اليوم، يتوقف العمل في الدوائر والمؤسسات والمحلات التجارية وغيرها، وتسيطر النساء على الرجال، فلا ينبغي لأحدهم أن يمتنع عن الاستجابة، سيّان ما يفعلن، وتغزو النساء مجالس البلدية فيسيطرن عليها.
ولكنّ الاحتفال الحقيقي يبدأ مساء، كالمعتاد بالرقص والسكر، فينتهي إلى ما ينتهي أمثاله من الاحتفالات، ويستمرّ ذلك في الأيام التالية، حتى يبلغ مداه يوم الاثنين الذي يسمّى اثنين الورود، فلا يكاد يرى المرء رجلا مسنّا إلاّ وشوّه وقاره بلون يصبغ وجهه، أو وردة على رأسه، أو رداء مزركش مضحك على منكبيه، وتتحوّل الشوارع والمحلاّت العامّة إلى ساحات للتحرّش بين الرجال والنساء، صغارا وكبارا، وإلى حانات كبيرة، علاوة على الحانات المكتظة بروّادها، ويرافق ذلك مواكب كبرى من عربات بأشكال تستهزئ بالساسة والسياسيين وقضايا الساعة، تعبر عددا من الشوارع الرئيسية في المدن بعد أن تشهد القرى مواكب مشابهة في اليومين السابقين. ومرّة أخرى تتحول ليلة الثلاثاء إلى ليلة خمر وعربدة، يُستحلّ فيها ما قد لا يُستحلّ في بقية العام، وإن أصبح كلّ أمر مستحلاّ في كلّ وقت من العام، فقبل سنوات معدودة كان يقال إنّ حوالي نصف حالات الحمل غير الشرعية يقع في فترة الكرنفال ونصفها الآخر في احتفالات رأس السنة الميلادية، ولم يعد لهذه التقديرات قيمة، فقد بات الفساد الخلقي والانحلال الاجتماعي منتشرا على امتداد العام، في مجتمعات باتت تسنّ القوانين للتعامل مع المثليين ومع ظاهرة الأولاد غير الشرعيين وقد باتوا -وفق الأرقام الرسمية، عدا ما يسمّى الأرقام السوداء- يزيدون على ثلث المواليد في تلك المجتمعات.
محكمة المجانين
تغلب هذه المشاهد على جزء من الصورة الكرنفالية يشار إليه أكثر من سواه، لارتباطه بالحرية، فيما يشبه التغطية عن حرية الانحلال الأظهر للعيان. فمن العادات أيام الكرنفال، أو من الطقوس فيه، ما يسمى محكمة المجانين، وتعود إلى ذكرى معركة حربية وقعت عام ١٣١٥م، عندما أصدر القيصر فريدريك آنذاك أمرا إلى أخيه الدوق ليوبولد ليتحرّك ضد السويسريين ويكبح تمرّدهم عليه، فدارت المعركة في منطقة مورجارتن، وحملت اسمها، ويُنسب إلى أحد المواطنين في بلدة شتوكاخ آنذاك قوله، هذا وضع غريب لا يعجبني، فقد قيل لنا كيف نقتحم سويسرا، ولا أحد يقول لنا كيف نتمكن من الخروج منها، وأصبح منذ ذلك الحين مهرّج القصر، وبلدة شتوكاخ تقام فيها محكمة المجانين سنويا مع حلول موسم الكرنفال، وأمام عشرات الألوف من المتفرجين المجانين، يتولّى واحد وعشرون منهم أمر المحكمة، وكان من أحكامها في إحدى السنوات أن تتخلى آنجيلا ميركل (رئيسة حزب المسيحيين الديمقراطيين ثم المستشارة الألمانية لاحقا) عن جميع مناصبها، والعمل خادمة في بيت المستشار السابق هلموت كول، في إشارة إلى مشاركتها في التحوّل من تأييده -وكانت وزيرة في حكومته وممّن أوصلهم إلى مناصب سياسية- وانقلبت عليه في حزبه بعد أفول نجمه.
والمغزى السياسي الكامن في قالب النكتة اللاذعة، أساس ما يسمّى جلسات الكرنفال، بما يلقى فيها من كلمات وأهازيج، وأساس تصميم العربات المزركشة بما ينصب عليها من تماثيل، تعبر غالبا عن المشكلات السياسية والاجتماعية في الحياة العامة، وقد يكون أمر جنون البقر تارة، و"الإرهاب" تارة أخرى، والعنصرية ضد الاجانب تارة ثالثة، والعولمة تارة رابعة، وهكذا.
متنفّس الضياع
يوم الثلاثاء، عشية بدء الصيام، يرمز المجانين إلى وداعهم للتحلّل باسم التحرّر، بحرق "دمية الكرنفال" وطقوس أخرى غريبة، تثير الدهشة، أنّ مثل هذا يحدث في هذا العصر، في قلب مجتمعات تعتبر نفسها متطوّرة متقدّمة طالما استهزأت بعادات شعبية مستغربة في "مجاهل افريقية" فجعلت منها قصصا تروى وأفلاما تُشاهد وأدلّة مزعومة على سيادة حضارة "الرجل الأبيض"!
ولارتباط الكرنفال بالأيام الأخيرة قبل فترة الصيام مغزاه، فمن البداية كان المقصود هو التمرّد على القيم الخلقية والدينية التي حوّلتها الكنيسة في العصور الوسطى إلى "سلطة استبدادية" على الأصعدة الاجتماعية لا السياسية فقط، وهذا ممّا جعل مفهوم التحرّر السياسي والتحرّر الفكري منذ أيام الثورة الفرنسية -وقد اقتبس مفكّروها الكثير من القيم القويمة للحضارة الإسلامية المزدهرة- يقترن بالانحلال الخلقي والاجتماعي، حتى بات من العسير التمييز بين تلك القيم المقتبسة القويمة، وما أضافوه إليها من شوائب وأفكار عقيمة.
كان لا بدّ مع افتقاد الضوابط العقدية أن تصل هذه المسيرة إلى أقصى درجات الحضيض التي وصلت إليها في الوقت الحاضر، وهو ما تسارعت خطاه في السنوات الماضية جنبا إلى جنب مع ظاهرتين رئيسيتين، إحداهما الثورة التقنية وما أوجدته من وسائل لم تكن متوافرة من قبل، والثانية تنامي السيطرة المادية على صناعة القرار في مختلف الميادين، بما فيها الفكرية والاجتماعية والخلقية، فالكرنفال ككثير سواه من التقاليد والظواهر الغريبة، بات جزءا من النشاطات الاقتصادية الكبرى، ومصدرا من مصادر زيادة ثراء أصحاب الثروات المتحكّمة في الأرض الغربية، ثمّ انطلاقا منها في أنحاء العالم، ممّا يزداد حدّة هذه الأيام تحت عنوان "العولمة".
على أنّ الكرنفال في الوقت نفسه بات أيضا ميدانا من ميادين التعبير عن الضياع الفكري والفراغ الروحي، حتّى أنّ بعض علماء النفس يحاولون "فلسفته" بأنّه شكل من أشكال تقمّص شخصية أخرى ولو لفترة زمنية قصيرة، فرارا من الواقع الذي يعيشه الفرد ولا يشعر بالارتياح فيه. ولعلّ التعبير الأصحّ هو القول بالانفلات من البقية الباقية من "قيود القيم" مع أنّها اضمحلّت حتّى أفقدت الكرنفال وظيفته هذه، فبات اللجوء إلى الخمرة فيه هروبا إلى جنون الانفلات الصاخب من الإحساس بالعجز عن التغلّب على الانقباض الصامت القاتل.
وما يزال يوجد عدد كبير من سكان المدن المعروفة أكثر من سواها باحتفالات عيد المجانين فيها، يهربون منها في تلك الفترة بالذات لقضاء إجازاتهم بعيدا عن صخب لا يحتملونه، وجنون لا يستوعبونه، والواقع أنّه لا يوجد ملجأ يلجؤون إليه، فالضياع والفراغ ظاهرة واسعة الانتشار في سائر أيام السنة، وفي مختلف الأماكن، وتكاد تصرخ في وجوه من لا يزال فريسة الانبهار بحياة غربية يعاني منها أهلها ولا يجدون الأدوية لأمراضها الاجتماعية والخلقية الفتّاكة، وكأنّ دعاة الدخول إلى "جحر الضب" كما يصنع الغربيون حذو النعل بالنعل، يريدون أن تصل الأمور بأهل بلادهم إلى مستوى الجنون فعلا، بعد أن انتشر فيها من مظاهر تقليد الغربيين ما يهدّد بأفدح الأخطار في الحاضر والمستقبل.
نبيل شبيب