لا يزال كثير منا في عصر الثورات وتسارع التطورات يستهين بقيمة العمل الأهلي المدني وجدواه، ويسرد في ذلك ما يراه من تعليلات في مقدمتها، أننا نبني ويهدمون ونشيد ويدمّرون.. ولعل السبب الحاسم من وراء هذه النظرة السلبية، هو تقويم العمل الأهلي المدني كما لو أن قيمته مرتبطة بجعله جزءا من عمل ثوري تغييري سريع، وعدم تقديره كما هو بقيمته الذاتية، دون الانتقاص من شأن ميادين أخرى للعمل، أي تقديره باعتباره مهمة مستقبلية طويلة الأمد، إن لم نحرص عليها اليوم ستواجه الأجيال التالية مستقبلا أشد ظلمة من الحاضر الذي نشكو منه ونقبع تحت أثقاله.
بصيص ضوء.. نزيده أم نطفئه؟
معظم ما يستشري من أمراض ويقع من أحداث ويجري من تطورات في الواقع العربي والإسلامي والدولي يستدعي القنوط واليأس والتشاؤم بمنظور من يريد تحرير الأرض والشعوب من الاغتصاب والاحتلال والغزو والاستبداد والاستغلال، ومن يريد أن يسود السلام مع العدل والأمن مع الحق والوحدة مع الحرية والتقدم مع الأخلاق في بلادنا وعالمنا وعصرنا.
هذا صحيح.. ولكن يجب أن نسائل من يجعل ذلك سببا للتثبيط عن العمل:
هل يمكن الخروج من هذا الواقع الرهيب الجاثم على الصدور عن طريق نشر مزيد من رؤى القنوط والتيئيس والتسليم من جانب جهات عديدة، بعضها جزء من النخب الفكرية والأدبية والفنية والثقافية، ناهيك عما يقترن من ذلك بخطوات التراجع والتخاذل والضعف والعجز على مستوى صناعة القرار وتأمين مستلزمات تنفيذه؟
في نطاق واقع شعوبنا وعالمنا وعصرنا بصيص ضوء تصنعه التضحيات والبطولات عل طريق التغيير، وبصيص ضوء تصنعه أطروحات الفكر والأدب والثقافة والسياسة، الرافضة لاستمرار صراع الاتجاهات داخليا والاستقواء بالعدو خارجيا والتسليم للاستبداد والتفرقة سياسيا والاستمرار على دروب تدمير الطاقات الذاتية خلقيا وأسرويا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.
جميع ذلك "بصيص ضوء" في ظلمات أنفاق ما صنعه التخلّف على كل صعيد وأسبابه الذاتية والخارجية في كل ميدان، ولكن هل يمكن أن يتحوّل بصيص الضوء إلى شعلة، والشعلة إلى منارات على الطريق، والنزر اليسير الذي نلمح إرهاصات المستقبل من خلاله إلى عملية تراكمية حضارية في الاتجاه الصحيح، إذا استمرّ بعضنا على تجاهل "بصيص الضوء" ونشر المزيد من التشاؤم والقنوط واليأس عبر التشبث بنظارات سوداء على عينيه لا يرى من خلالها سوى الظلمات المتراكمة بعضها فوق بعض!
لا يتحقق التغيير الجذري البعيد المدى إذا تشبث كل فريق ممّن يحملون ألوية التغيير بمنظوره الذاتي وحده، والوهم أن ما يصنعه فقط هو الأصل، وهو الحق والصواب، وأن على الآخرين المضي معه إلى حيث يمضي، فنحن في عصر "التخصص والتكامل" ولا تتحقق حركة المجتمعات دون هذين الجناحين معا.
جيل التغيير بين نبعة الماضي ومعايشة الحاضر
نحن نعيق بعضنا بعضا، ومن ذلك ما يصدر أساسا عن نظرتنا لعمل الآخر بمقاييس اخترناها لأنفسنا، دون أن نحمل عناء التساؤل عما يمكن أن يرفع من مفعولها بإثرائها عبر التأمل في مقاييس الآخر، هذا مع أن مهمة التغيير ليست مهمة "فريق" بل مهمة "الجميع".
بل نعلم من خصائص التغيير في مجرى تاريخ الأمم والشعوب وفي مجرى التاريخ البشري عموما، أنه مهمّة أجيال، وأنه لا يكاد يُستثنى من هذه القاعدة إلا حالات نادرة كانت غالبا من صنع الأنبياء حتى خُتمت الرسالات، فما انتقل واقع المسلمين في العهود المغولية والصليبية إلى واقع التحرير إلا عبر عدة أجيال، وما انتقلت راية الحضارة البشرية إلى المشرق العربي والإسلامي، ثم منه إلى الغرب الأوروبي والأمريكي، إلا من خلال تطوّرات عبر عدة أجيال، ولن تتكرّر النقلة الحضارية، القادمة حتما، إلا من خلال تطورات تجري عبر عدة أجيال.
ومهما قيل بشأن هذا العنصر الثابت في مسار الحضارات المتعاقبة، فمما لا شك فيه أن كل نقلة حضارية كانت مختلفة بخصائصها الذاتية ووسائلها عن سابقتها، ولن تتحقق النقلة الحضارية التي يرجوها حملة ألوية التغيير في بلادنا وعالمنا وعصرنا هذه الأيام، من خلال التشبث بخصائص ووسائل تتطابق مع ما كان في نقلة سابقة، وذاك ما يسري سواء بسواء على من يتطلعون إلى تحريك عجلة التاريخ على غرار ما جرى مع بزوغ فجر الحضارة الإسلامية بجولتها الأولى، وعلى من يتطلعون إلى تحريك عجلة التاريخ على غرار ما جرى مع بزوغ فجر الحضارة الغربية المعاصرة بجولتها الأخيرة.
لا بد لمن يريد الخروج من نفق التيئيس إلى ساحة العمل، ومن يريد أن يحوّل بصيص الضوء على درب التغيير إلى مشاعل مضيئة، أن يقوّم بصورة متجددة دائمة ما يصنع هو، وتطويره، بحيث لا يُبقي من ارتباطه بالماضي إلا ما يعطي عمله دفعة إلى الأمام على طريق المستقبل، ولا يبقي في نطاق اقتناعاته وجهوده المرتبطة تلقائيا بانتمائه عقديا وقوميا وتصوّرات ذاتية، شيئا من الشوائب التي تقوّض أهم شروط فاعلية انتمائه، بقدر ما تجعله أسير النزاع مع الآخر القريب، أكثر ممّا تجمعه به في التحرك نحو الهدف البعيد.
القيمة الذاتية رهن بتقدير قيمة الآخر
عند مراعاة اختلاف معطيات كل عصر وظروفه عن معطيات عصر آخر وظروفه لن نجد أي فارق ضخم بين ما نواجهه الآن في ظلمات واقعنا الراهن وضخامة المهام والأهداف القريبة والبعيدة، وبين ما واجهته كل أمّة من أمم الأرض من قبل، في حقبة التخلّف مقابل تقدّم سواها والسيطرة عليها وعلى أرضها ومقدراتها، وقد كانت النقلة الحضارية البشرية تتحقق رغم ما نسميّه اليوم "الهوّة الحضارية" الفاصلة ما بين أمّتنا وهي تعايش إرهاصات حضارية جديدة، وبين ورثة الحضارة الغربية وهم يواجهون معالم بداية النهاية على طريق التراجع والانهيار.
المشهد هو ذات المشهد بمعالمه الكبرى، وعندما تتطابق المعالم الكبرى -وليس الوسائل والتفاصيل- في إيجاد أسباب التغيير اليوم، مع ما كانت عليه في نقلة حضارية سابقة.. تتحرك مسيرة التغيير في الاتجاه الصحيح.
إن في إطفاء "بصيص الضوء" تيئييسا ما نسيء به إلى ذواتنا أولا وما نساهم به أيضا في تقويض كل رافد جديد من الروافد الداعمة لمسيرة التغيير، والمخرج من ذلك هو الرؤية الشاملة للتغيير المطلوب، على كل صعيد موضوعيا وجغرافيا، واستيعاب قيمة كل عنصر على حدة من عناصر ما يتراكم من عطاءات وإنجازات في مسيرة الأجيال.
عندما نتعامل مع "بصيص ضوء" نهضة فكرية وأدبية وثقافية وفنية ومع "بصيص ضوء" إعداد نفساني واجتماعي وتأهيلي لجيل المستقبل، ومع "بصيص ضوء" إنهاء الصراع المتوارث ما بين الاتجاهات المتعددة في الأرض المشتركة، وحتى التعامل مع ما يظهر من "بصيص ضوء" على صعيد من نسميهم "منصفين" في واقع عالمنا المعاصر، فإننا جميعا لا يمكن أن نكون مصدر دعم في اتجاه توسيع نطاق "بصيص الضوء" في اتجاه تغيير حضاري إنساني شامل، ما لم يكتسب كل منا، أفرادا وجماعات، الرؤية الشاملة المستوعبة لهذا الواقع بمختلف جوانبه، والمستوعبة للآخر القريب والبعيد بكل احتياجاته المشروعة، والمستوعبة لأساليب العمل المتعددة القائمة على حسن توظيف القليل من الوسائل والأسباب المتوافرة لتنميته وزيادة مفعوله.
استيعاب الآخر.. بتوجهاته ووسائله
إذا رأينا العمل الثوري متعثرا.. أو رأينا العمل الأهلي المدني بطيئا.. أو رأينا العمل الفكري متقلبا.. فلا بد في تقديره دون تهويل من شأنه ولا تهوين من أن نراه بشروط حقبة المخاض التي نعيش، وهذا ما يسري أيضا على واقعنا جغرافيا، فليس في واقعنا على مستوى كل قطر من الأقطار وليس في واقعنا المشترك، عربيا وإسلاميا وإنسانيا، ما يستدعي الوهم باستحالة تحقيق الأهداف الكبيرة الجليلة المشروعة، إلا بمقدار ما نحوّل أسباب اليأس الموجودة إلى حواجز دوننا ودون التحرك المتواصل والعمل السديد، وبمقدار ما نتغافل عما يعمله سوانا من حولنا فنحوّل علاقتنا به إلى حواجز دون التكامل والتعاون وتنمية أسباب التلاقي على الطريق المشترك.
إن التغيير على المدى البعيد لا يتحقق دون إزالة العقبات الاستبدادية ثوريا، وإعداد إنسان البناء أهليا ومدنيا، وضبط الخطى في الاتجاه الصحيح رؤية وفكرا، وكل انتقاص من شأن أحد هذه الجوانب يعود بالضرر عليها جميعا، وكل تلاق فيما بينها يساهم في مضاعفة الإمكانات الذاتية وحسن توظيف ما يمكن تأمينه من دعم المخلصين.
طريق التغيير مشترك يجمع تعدد التوجهات وأساليب العمل على قواسم مشتركة، ولئن أحرز أي طرف بعض التقدم في مواقعه فلن يدوم له ذلك إلا إذا تم توظيفه في تحقيق هدف النهوض الحضاري المشترك، ومن شروطه الانفتاح على أصحاب الرؤى والتوجهات الأخرى والتركيز على نقاط الالتقاء لا الافتراق.
ومن دون ذلك سيبقى كل إنجاز قاصرا وستكون الحصيلة هي ذات الحصيلة، تفرقة الصفوف، وإضعاف الجميع.. والجميعُ في خندق واحد أمام أخطار داهمة.
يجب أن ننتزع أنفسنا أفرادا وتجمعات، ليس من معضلة تعدّد انتماءاتنا ووسائلنا فقط، بل من قاع اليأس والتيئيس أيضا، ومن المعارك الجانبية الوهمية والحقيقية، ومن تضخيم مواطن الاختلاف وإهمال مواطن الالتقاء، وإلا.. فسوف يتأخر الوصول إلى هدف النهوض الحضاري البعيد، مع كل ما يشمله من أهداف التحرر والعزة والكرامة والوحدة والتقدم، ونبقى على ثقة بأنه لن يستحيل تحقيقه، إنما سيدخل جيلنا في سجل التاريخ على أنه الجيل الذي لم يتعلّم من أخطائه وأخطاء الأجيال السابقة عبر مائة عام وأكثر، ولم يساهم في تمهيد الطريق أمام جيل قادم، يصنع ما عجزنا ولا نزال عاجزين عن صنعه، بدلا من أن نحقق ولو بعض الخطوات الحاسمة على الطريق.
نبيل شبيب