تحليل – طريق النخب إلى جيل التغيير

نشر هذا المقال في شبكة الجزيرة يوم ١٢/ ٩/ ٢٠٠٥م تحت عنوان (إلى متى النخب في واد وجيل المستقبل في واد؟) آنذاك وفي هذه الأيام من أواخر ٢٠١٧م، بقي الفارق الأكبر بين عطاءات النخب يركز على "العقيدة والفكر"، بعيدا عن إبداع المنهج والتطبيقات العملية، وعلى "تشخيص" أمراضنا، دون طرح العلاج الناجع إلا قليلا، لا سيما ما يتطلب البدء بأنفسنا.

ما زالت الحاجة إلى النخب ودورها في الريادة والقيادة حاجة ماسّة ملحّة، وهو ما يتطلب الاستماع إلى جيل المستقبل ومعايشته، ليتجاوب مع ما تطرحه ويرتقي به، فآنذاك سيطلب قيادتها، بدلا من رد فعله سلبا على محاولة "فرضها فرضا" كما يغلب على العلاقة بين النخب وجيل المستقبل منذ سنين وسنين.

هذا هو المغزى من هذا المقال وهذا هو المرجو من العودة إلى نشره بشيء من الاختصار، بعد بضعة عشر عاما حافلة بأحداث ذات أبعاد مصيرية.

. . .

بناء المستقبل لا يتحقّق إلاّ جماعيا، فلا مستقبل لفئة، أو تيّار، أو طائفة، أو تنظيم، أو فرد من الأفراد، بمعزل عن مستقبل سائر الفئات والتيّارات والطوائف والتنظيمات والأفراد الآخرين. قد يختلف العاملون وهم يعملون فيتحقّق الإنجاز ويكمل بعضه بعضا، ويقع الخطأ ويجد التصحيح، إنّما يستحيل العمل عند انتظار الشروع فيه إلى ما بعد تجاوز الاختلافات، فتغييبها هو المستحيل.

العمل الجماعي يتطلب أرضيّة مشتركة تنضبط بقواعد مشتركة من المنطلقات والمسيرة والأهداف، والتعامل من وراء الاختلاف بتلك القواعد.. والسبيل إلى ذلك هو الحوار للتفاهم لا الإقصاء، مما يشترط  أن تُفهم الكلمة عند سامعها أو قارئها على نحو مطابق لمقصد قائلها أو كاتبها، سواء اتفق الطرفان على تأييد مضمونها أم اختلفا.

 

مدار الكلمة الاصطلاحية

مسؤولية بذل الجهود لتجاوز فوضى المصطلحات هم الراغبون في حوار جادّ وهادف بين التيّارات الموجودة في دائرتنا المعرفية الحضارية، للتأسيس لحقبة مستقبلية تستقرّ بقدر ما يغيب تجاهل مقصد "الآخر" واستخدام تعابير عدائية أو تضليلية، في قوالب الاتّهام والتخوين والتخويف.

 

الحديث عمّا نريد معا، يتطلّب وقفة عند ما يمكن من التحرّك المشترك، مع وجود معطيات إيجابية وسلبية، نتيجة صراع عدّة عقود ماضية، ومن أدوات الخروج منها ضبط استخدام الكلمة أداة للتفاهم على رؤية موضوعية، مع التبسيط قدر الإمكان، والتخلي عن مزاعم احتكار فهم الكلمة الاصطلاحية والوصاية على استخدامها، في ميادين صناعة الرؤية والقرار سياسيا واقتصاديا، وفي ميادين الثقافية والفكرية والأدبية والفنية والقيمية والاجتماعية أيضا.

 

النخب والشعوب

من أهمّ جوانب استيعاب المرحلة التاريخية المعاصرة والتعامل مع معطياتها العمل على رَدْم الفجوة الكبيرة بين ما يُسمّى النخب وبين جماهير الأمّة، لا سيما جيل المستقبل منها.

ورغم مؤشرات أولية لتجاوز الصراع المطلق ونشأة محاور متعدّدة للحوار يبدو أن ساحاته تقتصر على فئات محدودة العدد بمعزل عن عامّة الشعوب، لا سيّما جيل الشبيبة الذي يمثّل النسبة الأكبر من السكان، والذي يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل.

ليس صحيحا تعليل هذه الفجوة بتعميم الاتّهام القائل إنّ العزوف عن القراءة والمتابعة الجادّة هو جوهر مشكلة عزلة النخب جماهيريا.

لا تختزل أسباب هذه العزلة بتحميل المسؤولية للجماهير، بل توجد عوامل عديدة أهمها إدراك أنّ الوصول بأفكار مَن ينتسب إلى تلك النخب أو ينسب نفسه إليها بإبداع أدبي وعطاء ثقافي وطرح فكري، من مسؤوليته هو، وتفرض عليه مراعاة واقع القارئ المستهلك واحتياجاته، في مضمون إنتاجه وأسلوب تعبيره.

ومن المغالطات الزعم القائل إنّ هذا يهبط بمستوى الإنتاج، فقيمة الإبداع أو الفكرة أو الطرح الجديد ليست قيمة ذاتية بمعزل عن الوسط الذي ينتمي القلم إليه ويستهدفه، بل تعلو بمقدار ما يتمكّن صاحب القلم من الوصول بأرقى ما يستطيع عطاءه إلى أوسع قطاع ممكن من الوسط الاجتماعي الذي يحتضنه ويعتبر نفسه فيه من النخبة.

إنّ النماذج المعروفة من الإبداع العالمي، التي تجاوزت الحدود وانتشرت في القارات الخمس ترجمةً وتفاعلا، لم تصل إلى هذا المستوى عبر مضامين وأساليب متميّزة بخصوصيّتها، بل نتيجة قدرة أصحابها على الجمع بين الإبداعِ مضموناً يمسّ احتياجات إنسانيّة جامعة، والعطاءِ أسلوباً تستوعبه وتتفاعل معه أعداد كبيرة من أبناء الأسرة البشرية.

وإنّ تقديم الأفكار -بغضّ النظر عن قيمتها الذاتية- في قوالب تعبير مستعصية على الفهم إلاّ عند قطاع محدود من النخب نفسها، يساهم في بقاء تلك النخب وعطاءاتها فيما تسمّيه -وهماً- برجها العاجي، بعيدة عن الشعوب وهمومها وتطلّعاتها المستقبلية. ومَن يتابع ما يُطرح حديثا من كتابات تحت عناوين متعدّدة للحوار الفكري الإيجابي المنبعث مجدّدا في هذه المرحلة، يمكن أن يرجّح بقاء قسط كبير منه في واد، وجيل المستقبل في واد آخر، وكأن النخب تطرح ما لديها في مواجهة بعضها بعضا فقط.

 

إلى من نتكلّم ونكتب؟

في الأوساط "العلمانية" تساهم في هذه الظاهرة كثرةُ استخدام بعض الكتب المنشورة حديثا مفرداتٍ من قبيل: "ميتافيزيقي، أنثروبولوجي، أبستمولوجيا، بروميثيوثي، كوسموبوليتي، هرمينوطيقا، سيميوطيقا.." أو من قبيل "عضواني، مواطنوي، طوباوي، دولتانية، تاريخاني، قيامي، جنساني.." والقائمة طويلة.

ويشير سياق الكلام أنّ الكاتب ينطلق غالبا من أنّ القارئ، الذي قد يعلم بوجود تلك الكلمات، لكثرة تداولها بمعانيها السطحية أو الشائعة، يجب أيضا أن يكون عارفا بخلفيّاتها الفلسفية، وربّما بتناقض استخداماتها بين الكتّاب أنفسهم، ثمّ عليه التسليم بما يقصده هو -أي الكاتب- من معانيها، هي وأمثالها، وأمثالُها كثير، وإلاّ فكيف ينتظر من القارئ أن يتفاعل معها وفق استخدام الكاتب لها؟

ليس القارئ هو المسؤول الأوّل عن ضمان شروط فَهْمِ ما يُطرح فكرا وأدبا وثقافة حوله، فليس "التعليم" جوهر ريادة النخب بل هو التفاعل الحي مع الواقع واحتياجاتنا فيه.

شبيه هذا يسري على النخب في الأوساط "الإسلامية"، وهي بين تبسيط ما تطرح إلى درجة تفقد عطاءها مغزاه، وبين تناقل عطاءات الأقدمين بلغة ومضامين لا تصل أصلا إلى جيل المستقبل في عالم معاصر، ناهيك عن تلبية احتياجاتهم فيه.. الآن.

 

ما هو المطلوب؟

لدينا كمؤشرات كبرى على المطلوب من النخب على سبيل المثال:

– ما قال به علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه (حدّثوا الناس بما يعرفون)، كتاب العلم/ صحيح البخاري.

– وما قال به عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (ما أنت محدّث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلاّ كان لبعضهم فتنة)، مقدّمة صحيح مسلم.

– ولدينا أيضا بالمقابل ما يُنسب إلى الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور – Arthur Schopenhauer (توفي ١٨٦٠م) ومن ذلك كأمثلة:

"إذا أردت إلقاء خطبة ناجحة، استخدم كلمات مألوفة، لقول الأشياء غير المألوفة".

"الذكيّ في المحادثة من يفكّر بمن يتحدّث إليهم أكثر من تفكيره بما يتحدّث عنه، فإن صنع ذلك، تأكّد له أنّه لن يقول ما يندم عليه لاحقا".

"كثرة الاستشهادات تزيد حقّ الكاتب أن يُنظر إليه أنّه امرؤ واسع الاطلاع، ولكنّها تُنقص نسبة أصالة عطائه.. وما قيمة الاطّلاع دون عطاء ذاتي!".

"الذين يؤلّفون خطبا صعبة، مظلمة، معقّدة، مزدوجة المعنى، لا يعلمون على التحقيق كيف يقولون ما يريدون قوله، إنّما لديهم وعي ضبابيّ يصارع حول فكرة ما. ولكن كثيرا ما يريدون أن يواروا عن أنفسهم وعن الآخرين، عدمَ وجود شيء لديهم ليقولوه".

. . .

ولكن.. لعلّ مِن الكتّاب مَن يريد فعلا استثارة إعجابٍ مصطنع لدى القارئ، ممزوجٍ بالرهبة تجاه علوّ كعب(!) صاحب القلم، المبدع في عالم اللغة والتعبير، وسعة أفقه في عوالم الفلسفة والثقافة أو التراث. قد يوجد مَن يظنّ حقيقةً أنّ هذا الانطباع المصطنع يوصل إلى الاقتناع تسليما بالمضمون دون استيعابه، لا أن يشكّل النصُّ حاجزا بين كاتبه وقارئه. هذا ناهيك عن سبك العبارات سبكا يتفنّن فيه صاحبه في التصنّع والتنطّع والتعقيد، كما تغتال صياغتُه تواضعَ العلم اغتيالا، بسكّين تعالي معلّمٍ شاخَ وشاخ علمه على تلاميذ صغار بين يديه، وبخنجر التكبّر اعتدادا بالنفس وتعصّبا.

 

معطيات المعرفة الذاتية

ولا يستوي الحديث دون الإشارة إلى أن مشكلة من لا يبدعون الجديد ليضيفوه إلى التراث، تقابلها مشكلة من يرفضون التراث ابتداء، فتنشأ هوّة بينهم وبين من تكونت شخصيته الحضارية على الوعي المعرفي الذاتي، وهنا تضاف أزمة توطين فكر مستورد، دون مراعاة كيفية توطينه إن لم ينسجم مع معطيات المعرفة الذاتية، وهذا أبعد من مجرد استخدام مفردات أجنبية تُكتب بحروف عربية، بدلا من استخدام ما يغني عنها لغويا أو اشتقاق ما يقابلها من مفردات مبتكرة يأنس اللسان العربي لها، وتستحسنها النفس لسهولة انسيابها في نسيج اللغة الذاتية.. ويعلم المتمرسون في الترجمة باستحالة تعريب مصطلح أجنبي تعريبا قويما بمجرّد كتابة اللفظة الأجنبية أو نطقها بحروف عربية.

إن الإبداع يفقد قيمته عندما يتوقع الكاتب المبدع من عامّة القراء أن يحمل كلّ منهم تحت إبطه عدّة معاجم وقواميس، ليفهم ناهيك أن يتقبّل ما يطرحه المبدع.. فضلا عن وجود من يريد أن ينسلخ القارئ من جلده المعرفي الذاتي ليستوعب -عبر المستهجَن من الألفاظ والغريب من المصطلحات- ما يراد صبّه صبّاً في عقله وقلبه!

هنا يكمن السبب الجوهري في شكوى صاحب تلك المفردات والأساليب من غربة أفكاره جماهيريا، وفي اتهامه الجماهير بالعزوف عن القراءة أو انخفاض مستوى الوعي أو الانغلاق تجاه أفكار "إنسانيّة عالمية" أو ما شابه ذلك.

هذا جانب من جوانب عديدة أخرى تتعلق بمن يعمل قصدا على التغريب اللغوي والفكري، فيعزل نفسه عن أهله في أمّةٍ لسانُها عربي، ومكوّنات فكرها وتاريخها وأحاسيسها وأذواقها هي مكوّنات منطقتنا الحضارية، الشاملة بتأثيرها سائرَ سكّانها، على اختلاف انتماءاتهم العقدية والقومية.

 

إنّ قيمة الإبداع، تضيع وإن كانت عالية، في أيّ إنتاج أدبي أو ثقافي، إذا كان مضمونه بعيدا عن اهتمامات الفئات المستهدفة به، وما دام المبدعون يكتبون لبعضهم بعضا فلا يمكن أن يجدوا جمهورا من عامّة القراء، ولا يمكن لإنتاجهم أن يترك أثرا كبيرا، سلبيا أو إيجابيا، على صعيد المجتمعات التي ينتمون إليها، وإن أثاروا فيها موجات تعلو وتهبط مع تقليعات ما، منها ما يعتمد على الغرائز أو الشهوات أو العواطف وحدها، بل ربّما حصل بعضهم على جوائز التقدير والتكريم داخل نطاق أوساطهم نفسها غالبا، أو من جانب أوساط غربية يعجبها إنتاجهم فتوظّفه عبر الجوائز، لتدعم المزيد من ترويج ما يخدم التغريب. وما يسري على صعيد الإبداع الأدبي والثقافي يسري على صعيد العطاء الفكري.

إن النخب لا تصنع التغيير عبر تبادل الأفكار فيما بينها، سواء اختلفت عليها أو توافقت، إنّما عبر الوصول بأفكارها إلى الشعوب التي تصنع هي التغيير في نهاية المطاف.

نبيل شبيب