أصبح المشهد السوري وتداعيات الثورة الشعبية في صدارة تأزم العلاقات الروسية الغربية، ورغم ذلك لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان أن لهذه العلاقات ميادين أخرى، تجمع بين المصالح والمطامع والخلافات، كما أن المشهد السوري نفسه لا يقتصر ضمن هذه العلاقات على الجوانب الخلافية منه، إنما توجد قواسم مشتركة أيضا لا يستهان بها، وفي سائر الأحوال لا تمثل الثورة وأهدافها على محور تحرير الإرادة الشعبية والأرض الجغرافية، مصدرا حاسما لمعايير الخلافات والعلاقات المتأزمة، بما في ذلك الجانب الإنساني المروع الذي يضعه الجانب الغربي في مقدمة طرحه التضليلي للقضية دوليا.
إلى أين يمضي الغربيون
في محاولات استشراف ما ستسفر عنه التطورات في المستقبل المنظور، لا يفيد أسلوب "الجزم" أن هذا الأمر أو ذاك سيحصل أو لا يحصل، أو القول إن هذا الطرف لن يتراجع عن كذا أو لن يجرؤ على كذا، ففي ميدان العلاقات الدولية تبقى سائر الاحتمالات قائمة للممارسات السياسية، وكذلك العسكرية، وتبقى التعليلات أيضا جاهزة لتبرير الإقدام عليها في هذا الاتجاه أو ذاك. ومن يحاول التحليل واستشراف الخطوات التالية يمكن أن يجد بين يديه أيضا ما يبدو في صيغة معلومات قطعية، ويكون "تسريبها" متعمدا، أو تكون مجرد إشاعات للتضليل في الدرجة الأولى.
إن أي طرف يريد أن يخدم قضية سورية وشعبها هذه الأيام يحتاج إلى الحذر الشديد، ووضع جميع الاحتمالات في حساباته، فإن رجح أحدها على سواه، لا يغفل عن قابلية حدوث ما لا يتوقع.
انتقال الخلافات إلى العلن أمر مشهود، إنما هي من الجانب الغربي "علنية الكلام" فقط وليس الأفعال، حتى ساعة كتابة هذه السطور يوم ٩/ ١٠/ ٢٠١٦م، عقب سقوط مشروعي قرار متعارضين في مجلس الأمن الدولي، وتبادل أشد الاتهامات بين الطرفين.
المواقف الغربية وما يواكبها من "شبه معلومات صحفية" وحتى اللقاءات والمشاورات المفاجئة، جميع ذلك في مستوى تلميحات لا تؤكد شيئا بصدد إقدام الأطراف الغربية على إجراءات "عسكرية" ما، سواء في صيغة عمليات عسكرية مباشرة أو حتى في حدود رفع مستوى ما يصل من أسلحة نوعية لبعض فصائل الثوار.
يمكن التكهن بأن هذا من قبيل التمويه على قرار بتحرك عسكري مضاد، ولكن يمكن التكهن أيضا بأنه لمجرد امتصاص الغضب على مستوى الرأي العام الغربي تخصيصا.
ولا يعني ذلك بأن القرار يدور حول "دعم" الثورة أو عدم دعمها، ولكن يمكن تسويق ذلك للجهات الداعمة للثورة والمنخرطة فيها، جنبا إلى جنب مع تسويق ما يهم المسؤولين الغربيين أكثر، وهو ألا يظهروا أمام شعوبهم -أي ناخبيهم- بمظهر العجز عن التصرف تجاه التمدد الروسي "عالميا" مع ما يتخذه من طابع استفزازي "مهين" لأولئك المسؤولين.
يسري ذلك على عموم الدول الغربية المعنية، ويسري تخصيصا على المسؤولين الأمريكيين في نطاق المعركة الانتخابية الجارية، بغض النظر عن "أوباما" نفسه وإخفاقاته الدولية، فالعمل على تحسين موقع الحزب الديمقراطي في الانتخابات هو العامل الأهم في اتخاذ القرار.
إن القرار الغربي هو دوما قرار تغلب دوافعه السياسية الداخلية وأهداف الهيمنة الدولية فيه على جميع الدوافع الأخرى، بغض النظر عن المواثيق العالمية والحقوق الإنسانية قديمها وحديثها.
. . .
بمنظور الثورة في سورية وجميع من يتحدث أو يتصرف من هذا المنظور، لا ينبغي في أقصى الحالات توقع ما يتجاوز حدود خطوات عسكرية "تأديبية" تجاه موسكو، لإعادة الاعتبار للسياسة الخارجية الأمريكية "الممتهنة" في الوقت الحاضر.
قد يميل بعضنا إلى "التمني" أن يبلغ ذلك مستوى ضربة عسكرية تقضي على بقايا النظام المتسلط على سورية، ويرجح كاتب هذه السطور أن يتجنب الغربيون ذلك، فما يزالون عاجزين عن صناعة بديل، ولو نصف مناسب بمعايير المصالح والمطامع الغربية في معادلة الهيمنة والتبعية.
وقد يميل بعضنا إلى "التمني" أن يصل القرار الغربي -على الأقل- إلى مستوى تمكين الثوار من الحصول على أسلحة نوعية لا سيما ما يشمل مضادات الأسلحة الجوية الإجرامية المستخدمة ضد شعب سورية وثورته، ويرجح كاتب هذه السور أن يبقى ذلك -في حال الإقدام عليه- ضمن حدود مدروسة بعناية فائقة من حيث النوعية والكمية، بحيث لا يبدل موازين القوى على الأرض تبديلا جذريا، ولكن يخفف قليلا من وطأة معاناة المدنيين التي بلغت حدا لا يمكن تجاهل تأثيره في المجتمعات الغربية، رغم قصور الإعلام الغربي نسبيا.
يبقى أن انتقال الخلاف الغربي الروسي إلى العلن، وارتفاع حدة تبادل الاتهامات، بعد إقدام موسكو على التصعيد النوعي والكمي لعدوانها، قد اقترن بالتلكؤ المقصود، فاستغرق من الوقت ما أعطاها واقعيا ولا يزال يعطيها فرصة تحقيق إنجازات عسكرية مرئية، ولم تنجح في ذلك، فرغم ثقل المعاناة الشعبية عبر التقتيل العشوائي والتدمير الممنهج وحصار التجويع والتعطيش والإصابات دون علاج، لا يزال مجرى المواجهات الميدانية المباشرة على الأرض في طور الكرّ والفرّ، مما يعتبر بميزان فوارق القوة العسكرية أقرب إلى معجزة يصنعها الثوار المسلحون المقاتلون رغم ما يعيق تحركهم من ثغرات في الجبهة الداخلية تنسيقا أو تسلحا أو مشاغلة بطعنات غادرة في ظهورهم.
إن مجرى الأحداث يؤكد اليوم مجددا أن العوامل الذاتية تبقى هي العوامل الحاسمة في مسار قضية سورية وثورة شعبها.
زمام المبادرة
ليس صحيحا أن الأطراف السياسية والمدنية العاملة تحت مظلة الثورة، وكذلك المغتربون والمشردون عن الوطن السوري، لا يستطيعون صنع أكثر مما يصنعون حاليا، بذريعة حجم "اللعبة الدولية"، وانتقال زمام المبادرة في توجيه مسار الثورة إلى "غير السوريين"، وضعف الإمكانات الذاتية ودور الممولين، وما إلى ذلك من أسباب تساق لتبرير "ضعف" التحرك الذاتي.
إذا صح القول بأن بعض التبدل في السياسات الغربية يأتي نتيجة ضغوط الرأي العام الغربي، أي "الناخبين" وأصحاب التأثير فكريا وإعلاميا وممارسة لأنشطة الدفاع عن حقوق الإنسان، فإن هذا يضاعف البراهين على مدى القصور الذاتي عن الإقدام على مبادرات في حدود المستطاع، تواصلا وتوجيها وتحريكا لمفعول الرأي العام الغربي المعني.
إذا صح القول إن "حجم التناقضات" بسبب تعدد الاتجاهات والرايات في جسم الثورة، لم يعد كما كان في أعوام سابقة، فإن هذا أيضا يبين مدى القصور عن الإقدام على مبادرات جادة من أجل تحريك المزيد من التلاقي على القواسم المشتركة للهدف الثوري الشعبي الأصيل المطروح منذ اللحظة الأولى: تحرير الإرادة الشعبية من وصايات محلية ووصايات خارجية، ومن لا يصنع ذلك اليوم لن يجد فرصة متاحة لصنعه غدا، وإن سنحت فلا يتوقع منه أن يكون مؤهلا ليستفيد منها إذا لم يتحرك الآن تحت تأثير المعاناة الكبرى.
المشاركة في مبادرات كبرى على "المسرح الدولي" لا يصل أحد إليها إذا لم يتحرك دوما لصنع مبادرات قادر عليها في الموقع الذي يشغله وبالإمكانات التي يملكها، وهذا مما يضع جميع من يعمل لقضية سورية وثورة شعبها هذه الأيام وجها لوجه أما مسؤوليته، وهو الأقدر على تحديد ما يستطيع القيام بها.. إذا صدق مع نفسه وشعبه وثورته، وهذا أيضا مما يمتحن مدى صدقنا في طلب النصر ورفع المعاناة في أدمعنا أدعيتنا.
نبيل شبيب