تحليل – داعش في الاستراتيجية الأمريكية

من الغباء اتهام أوباما بالغباء السياسي في تعامله مع أوضاع المنطقة العربية والإسلامية، فعلاوة على أن القرار الأمريكي قرار "مؤسسات" وليس قرارا فرديا، لم تشهد الأعاصير الأمريكية المضادة لثورات الربيع العربي ما يشير إلى أن واشنطون تتراجع فعلا عن الهدف المحوري لها في المنطقة: الهيمنة.

 

داعش وواشنطون

على هذه الخلفية يمكن السؤال عن السياسة الأمريكية تجاه "داعش"، وهنا لا يصح القول إن "الاستراتيجية" الأمريكية في الحرب ضد التنظيم أخفقت أو ترنحت، وقد كان الإعلان عنها مقترنا بالحديث عن "سنوات عديدة"، وهو ما يعني ضمنيا أن يكون لتنظيم داعش دوره فيها، وسيان ما حقيقة نشأته وإدارته، وهل هو مصنوع محليا أو دوليا استخباراتيا، أم أنه صنع نفسه واستعرض انحرافاته ذاتيا، من الثابت في هذه الأثناء أنه أصبح بما يصنع على أرض الواقع ورقة دموية رئيسية في نطاق "الاستراتيجية الأمريكية" الشاملة للمنطقة بمجموعها.

طالما تحرك التنظيم في هذا الإطار -كما كان في حينه في تدمر- لا يتلقى ضربات عسكرية، بل قد يتلقاها من يواجهه ويهدد دوره من فصائل الثورة في سورية خاصة كما كان آنذاك في ريف إدلب..

وعندما يتمدد في نطاق جغرافي "محدد"، لا يتلقى ضربات جوية عسكرية، لا سيما في العراق، كما كان في الرمادي، إلا بقدر ما يستجيب نظام العراق المرتبط بإيران لمطالب أمريكية، أي بات توظيف تمدّد التنظيم في نطاق المساعي الأمريكية جاريا لرسم الخارطة الجديدة للهيمنة الأمريكية، وهو ما يشمل التعامل مع الأنظمة الإقليمية جميعا..

وإذا تجاوز التنظيم رقعة جغرافية معينة فوصل إلى رقعة أخرى "مخصصة بالمنظور الأمريكي" لسواه، يتلقى ضربات جوية عسكرية مدروسة، ومن ذلك ما كان في عين العرب/ كوباني، ليستقر الوضع على النحو المرسوم في "الاستراتيجية" الأمريكية..

الحصيلة هي تمكين داعش سواء اتفاقا أو توافقا من أن يصبح قوة مسلحة فاعلة في المنطقة، وبالتالي يستخدم وجود التنظيم وما يصنع كورقة ضغط على القوى الأخرى لتستجيب إلى الأطروحات الأمريكية، ومنها حكايات تدريب "المعتدلين" في سورية لمواجهته وليس لتحقيق أهداف ثورية شعبية.

وتوجد شواهد عديدة أيضا على أن داعش وحالش يتحركان في مجرى الأحداث وكأنهما جبهة واحدة، وسيان هنا أيضا هل يوجد اتفاق مباشر أو توافق "واقعي"، وكان أظهر الشواهد في ساحة القلمون، فأثناء تصدي الفصائل الثورية للتحالف الحالشي-الأسدي، تتحرك داعش لتوجيه طعنات في الظهور.

 

بذور تمرد إقليمي؟

بعض الدول الإقليمية، وعلى وجه التحديد تركيا والسعودية، تستشعر أن الخطر الذي تواجهه لا يكفيه توصيف "داعشي" و"صفوي" و"إرهابي" وما شابه ذلك، فالعنصر الأمريكي بات مشاركا في تحريك هذا الخطر أو توظيفه لحصاد نتائجه، ولا يعني تعدد مصادر الخطر بالضرورة وجود "تحالف" بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكن يمكن أن تتأرجح العلاقات "المصلحية" في نطاق خارطة الخطر الإقليمية من درجة التعاون بين مصادره حتى درجة المواجهة المفتوحة، وهذا مع ما بين هذين الحدّين من درجات أخرى، للتنسيق أو حتى مجرد الامتناع عن عرقلة تحركات الطرف الأخر.

إن جوانب عديدة من استراتيجيات الهيمنة الأمريكية تجاوزت "خطوطا حمراء" وجودية بالنسبة إلى الدولتين، تركيا والسعودية، رغم علاقاتهما الأقرب إلى التحالف مع الدولة الأمريكية، ومن عناوين هذه الخطوط الحمراء قضية اليمن جنوب السعودية وقضية الأكراد جنوب تركيا، بينما تشهد ميادين أخرى، لا سيما سورية والعراق وليبيا ومصر، تداخل متناقضات عديدة وواسعة النطاق من صنع طبيعة "المرحلة الانتقالية" ما بين استراتيجية "ما بعد سايكس بيكو" واستراتيجية "ما بعد اندلاع الثورات الشعبية التغييرية" فيما سمي الربيع العربي.

من التناقضات مثلا ما يصنعه التحول الأمريكي من حالة "تطويع" المشروع الإقليمي الإيراني عدائيا بالحصار، إلى حالة "تطويعه" تعايشا وتفاهما..

في هذا الإطار يأتي تضخيم دور داعش أو تركه يتضخم، لانتزاع "تنازلات" من جميع الأطراف بحجة مواجهته، بدءا بعنوان "تدريب معتدلين" في سورية، مرورا بتحالف عسكري جوي يضرب أو لا يضرب وفق المخططات الأمريكية، انتهاء بالعمل على تبرير فرض "وضع جديد" في سورية يختلف عن الوضع الذي يراد شعبيا أن ينبثق عن الثورة الشعبية.

ومن التناقضات أيضا عدم شمول التقارب التركي السعودي الوضع في مصر رغم أنه أصبح صارخا ومحرجا لمن شارك في تحريك التحول‎ الانقلابي المضاد، ويلفت النظر هنا أن الإبادة الجماعية للآخر بمسلسل محاكمات هزلية استبدادية لم يجد أكثر من "قلق أمريكي" مع تدفق الدعم المباشر بالسلاح والمال للانقلابيين.

ويوجد مزيد من التناقضات، التي تؤكد أن المرحلة الانتقالية الإقليمية واسعة النطاق وبعيدة الأهداف.

 

المسار التغييري في سورية

إذا كانت الأحداث المشار إليها تدور على محور مطابخ "الاستراتيجية" الأمريكية، فإن الثورة الشعبية في سورية تبدو وكأنها الوحيدة التي لم تصل "الجهود المتواصلة الضخمة" لتطويع مسارها بصورة قاطعة ونهائية.. أو بتعبير آخر: لا تزال توجد طاقة الرفض الثوري للتطويع الخارجي، وهي تنبض بدرجة من الدرجات وتحتاج إلى نبض أقوى في المرحلة المقبلة.

لم يعد خافيا أن نهاية وجود النظام الأسدي بدأت تتحول إلى واقع ملموس، ولكن هذا ما يقترن حاليا بارتفاع وتيرة العمل للتحكم الخارجي بما يجري داخل الجغرافيا السورية، وبعيدا عن التفاصيل يبدو المشهد العام في صيغة تحويل أرض سورية الثورة إلى مناطق منفصلة عن بعضها بعضا، وإن لم تكن عملية "التقسيم في دويلات متعددة" جاهزة للتنفيذ، والمقصود هو الدفع في اتجاه سيطرة قوى "مختلفة" على مناطق مختلفة، ولكل منها امتداده الجغرافي الخاص.

على النقيض تماما من المزاعم القائلة إن أحد المطالب الرئيسية للقوى الدولية هو "الحفاظ على مؤسسات الدولة" -وهي منهارة واقعيا- نجد على أرض الواقع كيف يتزامن انهيار البقية الباقية من النظام الأسدي، بتوزيع الأرض نفسها ما بين:

"فريق" من الأكراد لا يخفي عدم ولائه لوحدة جغرافية وطنية في سورية..

فريق كبير من الفصائل الثورية لا يسهل "القضاء" عليه، وأصبح يتقارب ويتعاون ويفرض وجوده..

فريق من الفصائل الثورية يعتمد على دعم خارجي أكبر ويسيطر على جنوب البلاد عمليا..

بقايا التحالف الحالشي-الأسدي في بقايا شريط ما زال قائما من الساحل حتى دمشق وبقع أرضية متناثرة..

الحصيلة:

١- إن الثوار المرتبطين بتحقيق إرادة شعب سورية للتحرر والسيادة المستقلة سيجدون أنفسهم في نطاق صراع إقليمي ودولي على تقسيم مناطق الهيمنة الأجنبية، وصراع محلي للحيلولة دون تحقيق الأهداف المشروعة للثورة الشعبية.

٢- قد يسفر المخاض السياسي في الاتصالات المتجددة بين موسكو وواشنطون، وفي العواصم الإقليمية لا سيما الرياض وأنقرة.. قد يسفر عن وضع جديد ليس فيه للأسديين مكان، ولكن سينقل الثورة الشعبية من مرحلة الصراع الدامي ضد بقايا النظام وداعميه، إلى صراع سياسي مقترن باستخدام القوة المسلحة لتحقيق الهدف الأهم من "إسقاط النظام" وهو إيجاد وضع سوري جديد قائم على الحرية والكرامة والعدالة وعلى السيادة الحقيقية والاستقلال الناجز.

٣- إن مسار الثورة في سورية على أبواب مرحلة جديدة شاملة للمنطقة، وليس على أبواب "نهايتها"، وإن مجرد انتشار الشعور المخادع بذلك، يؤثر تأثيرا سلبيا للغاية على مواصلة العمل على تحقيق الأهداف التغييرية للثورة الشعبية.

من هنا يزداد الإلحاح على السؤال الجوهري المطروح عن "رؤية ثورية مستقبلية مشتركة" تجمع عددا من العناصر الأساسية، وعلى رأسها عنصران أساسيان تنبثق عنهما جميع العناصر الأخرى:

١- توافق الرؤية المستقبلية بخطوطها العريضة والمرحلية الحالية بتفاصيلها بين صناع القرار السوريين، ميدانيا وسياسيا، وإيجاد آلية منضبطة لتجسيد ذلك على أرض الواقع.

٢- اعتبار الوصول إلى استقلال القرار السوري هدفا لأي عملية سياسية بمثابة الخط الأحمر كهدف استكمال إسقاط بقايا النظام الأسدي.

نبيل شبيب