احتكار الأسلحة المتطورة لا سيما ذات الدمار الشامل، توظيف بعض الحكومات لتجريد منظمات المقاومة من سلاحها، الحملات الإعلامية الموجّهة ضدّ كل صورة من صور المقاومة والصمود إما تحت عنوان "مكافحة الإرهاب" أو بأسلوب نشر التيئيس أو باستخدام أساليب القمع، الحملة الضارية لتبديل مناهج التربية في البلدان العربية والإسلامية في الاتجاه نفسه، ملاحقة من لا يلتزم بالتوجيهات المعروفة للبعد بالحديث عن قضايا الأمة، التركيز على تشويه المصطلحات، مثل تصوير قرارات مجلس الأمن أنها هي "الشرعية الدولية" التي يجب الالتزام بها مهما كانت جائرة، أو تصوير السياسة الواقعية أنها هي الاستسلام لما يصنعه الآخرون من واقع في بلادنا.
هذا غيض من فيض ما نعايشه ونكتوي بحصيلته يوميا منذ سنين عديدة.
الهجوم على خطّ الدفاع "الأخير"
لا نواجه مجرد حملات عسكرية شعواء، بل نواجه أيضا حملات أشدّ ضراوة وعنفا وتنظيما، ويعمل في إطارها عدد أكبر من الجنود المسلّحين من جانب "العدوّ" الخارجي، وأشدّ قدرة على التأثير، لتحرّكهم في أعماق قلوبنا وأفكارنا وسلوكياتنا داخل مجتمعاتنا، وهدف تلك الحملات الضارية هو القضاء -بأسلوب الحرب الاستباقية- على بذور المقاومة في المستقبل، وليس الآن فقط.
نواجه حملات ضارية تقتحم جبهات الخط الدفاعي الأخير في الإنسان الفرد، وعلى مستوى الأمة والمجتمع، لمواجهة النكبات والكوارث المتتالية، وهي جبهات قائمة في البيوت، والمدارس، والجامعات، والمساجد، ودور الفكر، والجمعيات الصغيرة والكبيرة، ناهيك عن مختلف وسائل الإعلام والثقافة، أو ما يوصف بدلك زورا في كثير من الأحيان.
حملات ضارية نعتقد اعتقادا جازما بأنّها ستكون خاسرة في نهاية المطاف، يخسرها من يقف وراءها، ومن يجنّد نفسه ليكون أداة محلية من أدوات تنفيذها، ولكن هل يكفي لصدّها "الاعتقاد" بإخفاقها؟
إن تعبير "حملة" لا يعني سوى أنّنا أمام معركة فُرضت علينا داخل ديارنا، ولا يمكن كسب معركة دون تعبئة، ولا تتحقق التعبئة بتحرّك كلّ فريق في اتجاه، ولا تجتمع القوى على صعيد واحد دون مبادرات عملية منظورة على أرض الواقع، ولا يتأهّل أحد للقيام بمثل هذه المبادرات قدر مَن يُطلق عليهم وصف "نخبة" المفكرين والمثقفين والأدباء، فهل يحملون المسؤولية كما ينبغي؟
حتّى الآن، ورغم كلّ ما عايشناه مع انتفاضات فلسطين، وفي الحروب العدوانية على بلادنا، وما جرى ويجري تحت عنوان "الحرب ضدّ الإرهاب".. حتى الآن لا يمكن القول بوجود مبادرات على مستوى هذه الأحداث، التي تجاوزت مستوى الإصابة العادية، إلى ما نصفه عادة بكلمة الإصابة في مقتل، فلم نعد أمام "قواعد عسكرية" بل أمام ألوان من الاحتلال المباشر، ولا أمام ضغوط اقتصادية بل أمام سياسات إملاء الهيمنة المتبجّحة من جانب وخضوع التبعية العلنية من جانب آخر بل اغتصاب ثرواتنا لتغطية نفقات الحملات ضدنا، ولا أمام "غزو" ثقافي أجنبي بل أمام تجريد الأمّة من مقوّمات وجودها الثقافية وغير الثقافية بمشاركة قوى خارجية وداخلية..
إن لم يتحرّك المفكرون والمثقفون الآن، فمتى يتحرّكون؟
إن لم نتجاوز الآن خلافات التيارات المتعددة فمتى نتجاوزها؟
إن لم ننتقل من أسلوب "الإنشائيات" في خطابنا إلى أسلوب إحياء الوجدان وصناعة الفكر فمتى ننتقل؟
إن لم تظهر في كتاباتنا معالم طرق عملية وأساليب واقعية للتحرّك الشعبي، إلى جانب البحوث والدراسات الأكاديمية وشبه الأكاديمية فمتى تظهر؟
إن لم تصعد "النخبة" الآن بنفسها إلى الدرجة التي وصل إليها الاستعداد للعطاء والبذل من جانب الجماهير، والقدرة على توظيف هذا الاستعداد وترشيده في اتجاه إنجازات حقيقية على أرض الواقع، فمتى تصعد؟
إن لم نرتفع الآن إلى مستوى مبادرات تتجاوز الحدود والقيود والاعتبارات الشخصية والجانبية والانتمائية، وتحدّد أسسا مشتركة للتحرّك، وتثبّت قواعد ملزمة للتعامل، وتبتكر قنوات حرّة للوصول إلى بعضنا بعضا وإلى الجماهير، وتوجد قوالب تنظيمية مناسبة للظروف وكافية لتحقيق الأهداف.. إن لم نرتفع الآن إلى مستوى الحدث الكبير، فمتى، وكيف يزعم من يزعم لنفسه أنّه من "النخبة" ويقبل بالقليل الذي يصنع وإن لم يحرّك به ساكنا، أو يحيِ ميّتا، أو يوجّه حائرا سائلا: ما العمل؟
هل "النخبة" على مستوى المسؤولية؟
من يتحرّك؟
لقد كان ممّا يلفت النظر في أوساط أصحاب القلم الأدبي والفكري والثقافي، أنّ كثيرا منهم يواكب الأحداث بكلمة حماسية، أو قصيدة لاهبة، وأحيانا بفكرة "دعائية" للاتجاه الذي ينتمي إليه، حتى إذا بدأت معالم الكوارث بدأت المرثيات والبكائيات التي دفعت أحد الشعراء للقول بحق: كفانا جلدا للذات!
ثم ظهرت كلمات متفرّقة عن "دور المثقف"، وكادت تضيع بين الكمّ الكبير من الإنتاج الأدبي والثقافي الذي عاد بمن يتابع تلك الأوساط إلى أمواج الاستغراق في مواضيع شتى، ربّما ينتقدها بعضنا ويراها بعضنا الآخر "قمّة ثقافية"، سيّان، فالأهمّ من ذلك أنّ هذه "العطاءات" الثقافية، سواء ما يتحّدث منها عن ثقافة كوريا مثلا أو عن بعض الأحكام الفقهية للمرأة مثلا آخر، باتت توحي بعد حرب العراق مثلا وكأنّ "الاحتلال" نفسه لا يحتاج إلى متابعةٍ مواكبةٍ للحدث بشبيه ما كان أثناء الحرب، وجميعنا يعلم أنّ ما يُنشر على هذا النحو، منشور مرارا وتكرارا بصورة أو بأخرى، فلا إبداع فيه وإن كان جميل العبارة والصياغة، ولا تجديد ولا إصلاح يتضمّنه وإن ارتدى الرداء الإسلامي تذكرة وموعظة.
جميعنا يعلم أيضا أنّ "الواقع" الإجرامي الأجنبي في العراق وفلسطين وسواهما، و"الواقع" الفاسد المحلي الذي مكّن من وقوع النكبات والكوارث، يحتاج إلى الارتقاء بما تسكبه الأقلام الأدبية، وتفجّره العبقريات الفكرية، وتنفخ فيه النفحات الثقافية والفنية، فلا نقف عند محاولة إحياء الضمائر وشحذ الهمم أثناء القصف وسيل الدماء وتراكم الأنقاض، دون الوصول إلى خطوات عملية لتعبئة من عادت ضمائرهم إلى الحياة، وتحفّزت هممهم للعطاء، وتوظيف الحصيلة وتنميتها لمقاومة الاحتلال ومقاومة الأوضاع التي مكّنت من الحرب ومن الاحتلال!
لئن كان الذين عبّروا عن مواقف أدبية وثقافية وفكرية تأثراً بمجرى الحروب، قد انقطع بهم حبل المواصلة، وفترت همم أقلامهم، ورجعوا إلى ما كانوا عليه من قبل، فمنذا نتوقع أن يتحرّك من جمهرة المثقفين الذين دأبوا على فلسفة سياسات التيئيس والانهزامية والتبعية الخارجية والاستبداد الداخلي، أو من صفوف الجماهير التي تواجه ألوان القمع إذا ما حاولت "التظاهر" فحسب؟
إنّنا نحتاج إلى حركة شعبية من وراء الحدود، ونحتاج إلى مقاومة تتنامى على كلّ صعيد، ونحتاج إلى قيادات تولد من قلب العمل ولا تفرض نفسها من خلال الألقاب أو الصوت المرتفع أو عبر وسائل تقليدية يكرّر بعضها بعضا ولا تكاد تتجاوز جدران "النخبة" إلا نادرا، ولن يوجد شيء من ذلك إلا عن طريق ما يطرحه المخلصون من نخبة المفكرين والمثقفين، على شكل مبادرات عملية، وحلول عملية، طرحا عمليا.
والتحرّك المطلوب والممكن لا ينطلق بالضرورة من فراغ، ولا من حالة يأس يراد نشرها بالقوّة العسكرية والتسليم السياسي الرسمي، ولا يبدأ من نقطة الصفر. ونعلم أنّ بين أيدينا عددا من التشكيلات المنظمة المتميزة -بدرجات متفاوتة- بعدم انطلاقها من انتماءات حزبية تقليدية، كما أنّها لا تضع حواجز في وجه التعاون من وراء تعدّد التيارات ووجهات النظر -وهذا ما يجب استمراره والحرص عليه حرصا مطلقا وتنميته وتعميمه- وقد كان من الأمثلة عليه (ساعة كتابة هذه السطور عام ٢٠٠٣م، وهي تنشر مجددا في مداد القلم عام ٢٠١٨م) جهات لفتت مواقفها الأنظار إليها، أو نشأت مواكبة للأحداث، كاتحاد الكتاب العرب في دمشق (قبل الثورة!) والنقابات في مصر والأردن (قبل الربيع العربي)، ولجان المقاطعة الشعبية ومناهضة التطبيع (أثناء الانتفاضات الفلسطينية)، وقد كان لجهودها في حينه أثر واضح فيما رصدناه من بداية أولى للخروج بقضايا الأمّة من أقفاص الأنظمة الرسمية وقيودها، وجدران "النخبة" للوصول بها إلى موقعها الطبيعي، في الوعي الجماهيري للأمة، كمقدّمة لتتولى الأمّة زمام أمورها وتتولّى قضاياها المصيرية بنفسها.
هل يمكن أن تتكرر المحاولة بجهد أشمل وفاعلية أكبر؟
الأمل متجدد دوما في أنّ تنطلق مبادرات عملية، لمرحلة عمل متطوّرة تضيف المزيد إلى محاولات سابقة، من صفوف الناشطين في تلك التشكيلات وأمثالها، وأن يواكبها كل قادر على التعبير عن هذه الأمة وجمع الكلمة حول ما يحقق أهدافها المشروعة، بأن يجعل من نفسه جزءا منها، دعما وتطويرا، وسعيا حثيثا لتجنّب أخطاء الماضي، فلم تعد أوضاع بلادنا تحتمل المزيد من الأخطاء والانحرافات والنزاعات.
نبيل شبيب