اقرأ أيضا: القسم الأول من هذا المقال (١) ماهية جنيف ومسؤولية الفصائل
لم يعد يجدي الاستغراق ولا التيه في التفاصيل والجدال بأسلوب تدافع المسؤولية حول ما أوصل مسار الثورة إلى ما هو عليه الآن، ويكفي أن ندع ذلك لكتب التاريخ والدراسات "الأكاديمية"، إنما السؤال الملح هو السؤال عن طريق نسلكه للخروج من أنفاق القنوط والألم والحيرة، مع اليقين بأنه لا يوجد وضع عسير إلا ويوجد معه مخرج ميسر، عندما تتوافر الإرادة والعزيمة والنظرة الصائبة.
ابتداءً.. أيّ نظرة مستقبلية لمتابعة طريق التغيير، لا تغني عن استمرار أداء واجب الأعمال الآنيّة لتخفيف المعاناة، لا سيما وأن توسيع نطاق المعاناة وإطالتها بات منذ فترة سلاحا همجيا لاستنزاف طاقات الدعم وطاقات العاملين في هذا القطاع، ومضاعفة القنوط وإنهاك الأهل المشردين والمحاصرين وشغلهم بأنفسهم وضرورات معيشتهم عن عمل مباشر في طريق الثورة والتغيير.
ليست هذه الأعمال الآنية الواجبة موضوع الحديث هنا، ولا تغني بالمقابل عن ضرورة رؤية سبل العمل للتأثير الآن ومستقبلا على "عجلة التغيير" التي يحركها حاليا سوانا، على كل حال، سواء قعدنا أو تحركنا، والمفروض أن يساهم تحركنا في دفع تلك العجلة في اتجاه نتطلع إليه وينسجم مع الأهداف المشروعة لثورة انطلقت لانتشال الإنسان من ظلمات القهر والحرمان والاستبداد والفساد والتبعية الأجنبية.
. . .
سبق وقيل مرارا وتكرارا إنها ثورة فتحت بوابة التغيير ويستحيل إغلاقها.. وقد وصلت إلى مفترق طرق يعمل سوانا للتحكم فيه وفيما بعد، ولهذا أصبح المطلوب أولا استيعاب أين نحن، وماهية التغيير المطلوب ونقاط التقاطع والتناقض مع ما يراد صنعه لنا، كي يكون تحركنا وفق رؤية سليمة ومنطلقات واقعية.. فأين نقف في اللحظة الراهنة؟
١- سورية (والحديث لو انفسح المجال لا يقتصر عليها) لم تعد كما كانت قبل عدة أعوام أو عقود.. ولن تكون.
٢- التغيير في سورية يجري على قدم وساق، تصنعه قوى أجنبية ولا يهمها سوى استئناف سريان مفعول معادلة التبعية والهيمنة (الدولية والإقليمية) بعد أن قطعتها الثورة الشعبية.
٣- لن نجد المخلصين القادرين على الإسهام في صناعة التغيير أو تخفيف الضرر المتوقع فيه حاليا، إذا بحثنا عنهم بين من أخطؤوا الطريق، سواء بعد اندلاع الثورة أو من قبل.
٤- لن يفيد سلوك طريق يكرر محاولات شهدتها الأعوام الأولى للثورة، وأخفقت على كل حال.
. . .
إن عماد متابعة طريق التغيير الذي فتحت الثورة أبوابه هو جيل المستقبل الذي احتضن الثورة من البداية، وكان هو وقودها في الدرجة الأولى.. وهو الذي يملك أكثر من سواه طاقات تؤهله لحمل مسؤولية التغيير أيضا، ولكن جيل الثورة، أو جيل المستقبل، لم يعد متجانسا كما كان لحظة اندلاع الثورة، بل أصبح يوجد على أرض الواقع:
أولا:
فريق في الداخل السوري يقبل بالعودة إلى وضع يعيد إنتاج بعض ما انهار من أركان الاستبداد والفساد كما كانت قبل ٢٠١١م، ولم يستوعب أن هذا بات مستحيلا وأن مجرد استبقاء بقايا من الاستبداد والفساد مستقبلا يعني التمكين لمضاعفة القديم من موبقاته بلا حدود..
الخطر الأكبر على هذا الفريق أن يكرر الوقوع في مثل ما وقع فيه بعض أسلافه لا سيما وقف تطوير العمل لهدف بعيد، بعد ما يوصف بأحداث الثمانينات من القرن الميلادي الماضي.
ثانيا:
فريق مشرد في المغتربات القريبة والبعيدة لم يعد يهمّه بعد المعاناة سوى الاستقرار الآمن، ويوجد من يعمل بقصد أو دون قصد لنشر أوهام محورها: "حياة المغترب بديل معيشي يغني عن الوطن الأصلي"، وعمادها الزعم أن الحياة الكريمة هي: "عمل وطعام وشراب وقوانين تنظم العلاقات المجتمعية"، وأنه لا يستدعي ذلك بالضرورة وجود رسالة يحملها الإنسان في حياته ووجود حقوق أساسية حاضنتها هويته "الإنسانية" مع هويته الأصلية بموجب الجغرافيا والتاريخ..
الخطر الأكبر هنا ألاّ يعرف هذا الفريق من جيل المستقبل حقيقة "الاغتراب" إلا بعد فوات الأوان، فيتحوّل آنذاك كما تحوّل سواه من قبل اندلاع الثورة إلى "بقايا من الماضي" منفصلة عن "عالم معاصر".
ثالثا:
فريق يعاني في الداخل السوري من تصعيد الاضطهاد والحصار ومن انقطاع المسيرة الثورية، يستوعب أن "معالم الواقع" حوله قد تبدلت، وأن الطريق الذي مضى ثائرا عليه أصبح مسيرة تغيير، تتطلب أدوات جديدة وإمكانات مختلفة، ولا يفترق عنه -رغم البعد الجغرافي- فريق مشرد في المغتربات يدرك استحالة "الاستقرار الآمن" مجردا عن العمل لرسالة التغيير، حتى وإن كانت الحصيلة من نصيب أبنائه وأحفاده من دونه.
إن منطلق طاقات التغيير التاريخي المنتظر هو هذا الفريق من الداخل والمغترب، وهنا توجد ثروة إمكانات نوعية قابلة للتوظيف لسلوك درب التغيير.
. . .
ويبقى التساؤل الملح عن كيفية التحرك على طريق التغيير.
من شأن التوجيهات العامة من أهل العلم والفكر أن تجد الاستجابة بقدر صلاحيتها بموازين محتوياتها وأساليب صياغتها ونشرها، وليس من خلال "تنظيمات" تعمل لفرضها داخل نطاقها وخارجها، وهذا أيضا شأن الخطوط العامة التي يمكن طرحها والتوافق حولها، أما التفاصيل فقابلة للتحديد والتطوير المتجدد بعد ظهورها على أرض الواقع، ولا تظهر إلا من خلال مبادرات العمل نفسه، ومن الخطوط العامة المقصودة:
١- الوعي الفردي والجماعي مع تنمية العلم والمعرفة، هو البديل عن أولويات الولاء للانتماءات.
٢- صناعة القرار للمؤهلين من جيل المستقبل، والمشورة غير الملزمة لأصحاب الخبرات السابقة.
٣- التأهيل المنهجي والكفاءة التخصصية، وتعدد مصادر تمويل الأنشطة وفصلها عن بعضها بعضا.
٤- التشبيك مع التخصص والتكامل، بديلا عن تنظيمات محكمة إلا في حدود ضرورة تخصصية موضوعية.
٥- الإدارة الحديثة مع التخطيط والشفافية في التطبيق في مقدمة كل منهج عمل لكل نشاط من الأنشطة.
٦- القيادة الجماعية لكل عمل على حدة، مع فصله "تنظيميا" عن أصحاب الرؤى التوجيهية العامة.
٧- مواكبة العمل لمتغيرات العالم والعصر عبر تحديث وسائل العمل في مختلف الميادين.
٨- استقلالية الأنشطة البحثية والفكرية والإعلامية والسياسية عن سواها من الأنشطة العملية.
. . .
يرجى أن يتنامى التواصل بين المؤهلين من جيل المستقبل لتحريك عجلات النقلة بين مسار الثورة ومسار التغيير، ونقطة البداية هي التي يصنعها من سبق تعارفهم فأوجد أسباب الثقة المتبادلة فيما بينهم، ولا تنقصهم طاقات إبداع أنشطة عملية، إنما يصنعها الشروع فيها وفق الإمكانات الفعلية والتخصصات والمؤهلات التي يعرفونها عن بعضهم بعضا، وإن كانت محدودة دون إغفال تنميتها المتواصلة، وهي التي تحدّد تلقائيا معالم الخطوات العملية للتواصل والتشبيك والمبادرة.
لا يعجّل حدوث النقلة المرجوّة "عقد مؤتمرات كبرى واستعراضية" بالطرق التقليدية، ولكنها "نقلة حتمية" بحكم سنن التاريخ، ويستحيل استمرار وضع المراوحة الحالي طويلا ما بين مسار الثورة ومسار التغيير، فمن ينتظر سينتظر طويلا وقد يفوته قطار التغيير، ومن يبادر يصبح جزءا من نسيج صناعة التغيير والتأثير فيه في الاتجاه الصحيح، بدلا من أن نصبح جميعا "ضحية" تغيير يصنع سوانا نسيجه.. وهو ماض لهذا الهدف على كل حال.
والله وليّ التوفيق.
نبيل شبيب