على هامش ما سمي زيارة في موسكو
أيام غزوات الاحتلال الأمريكي لأفغانستان والعراق، انتشرت السخرية من قادة الاحتلال الضخم بعدده وعتاده، الذين لا يجرؤون على أكثر من "زيارات مفاجئة" لجنودهم في الميدان، وكلمة مفاجئة تعني سرية الموعد والبرنامج والمكان، خوفا من "مفاجآت" فصائل مقاومة الاحتلال.. إنما لم يسبق أن جرت "زيارة سرية" بهذه الصورة المذلة للتابع والمخزية للمتبوع، كما جسدها استدعاء موسكو لربيبها، رأس بقايا النظام في سورية حاليا.
الاهتمام الإعلامي أكبر بكثير من قيمة "الحدث".. ويميل معظم المحللين من الساحة الغربية إلى القول: إن بوتين تحدى الغرب عمدا لتثبيت الدور الروسي، ولا يوجد سبب، فالروس شريك في الجهود الدولية لصناعة "مستقبل" سورية وفق الرغبات الدولية، بينما انقسم المحللون من الساحة السورية والعربية بين من يقول إن بوتين يعلن مجددا تمسكه بربيبه حتى النهاية، ومن يقول إنه أبلغه بنهايته رسميا فلم يبق سوى إخراج الفصل الأخير على مسرح السياسات الدولية.
أما بمنظور الثورة:
إذا تحدى بوتين الغربيين أو لم يفعل.. وإذا تمسك بربيبه حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة أو لم يفعل.. يمكن ثوريا أن نتابع ذلك ونتفاعل تفاعلا هادفا معه، ولكن لا يتأثر أو يتبدل جوهر مسار الثورة، فهو من صنع التضحيات والبطولات أثناء الثورة وقبلها ومن صنع المعاناة عبر عقود عديدة وكذلك من صنع الرفض المطلق أن تبقى ثغرة لاستمرار أسباب المعاناة لعقود قادمة:
لا بديل عن مواصلة طريق الثورة في سورية ميدانيا وسياسيا حتى تبلغ أهدافها، وأولها نهاية بقايا النظام الاستبدادي الأخطبوطي غير الشرعي، رأسا وفروعا، مع كافة مستنقعات علاقاته المنحرفة الخارجية.
من أراد الكلام عما سمّي "زيارة".. فهذا فقط موضع الكلام "المفيد" ثوريا.
تعنت "الواقعيين" سياسيا
يحلو لبعض من يتكلمون من داخل روسيا وأقرانها بمفردات التحليل السياسي، وليس بمنطق سياسي، أن يصفوا هذا الموقف الثوري بأنه "موقف متعنت".. فليفعلوا!..
هم يعلمون أن مطالب التحرر، والعدالة، والكرامة، والحقوق المعنوية والمعيشية، والرجوع إلى الإرادة الشعبية.. جميع ذلك الذي يتعنت السوريون في التشبث به على درب التضحيات والمعاناة، هو من صميم "مشروعية" المبادئ الدولية والإنسانية.. أما التعنت المنحرف فهو في إصرار "العدو والصديق" على حرمان شعوبنا من "أهدافها المشروعة" بكل وسيلة إجرامية واستبدادية.
يسوّقون اعتراضاتهم غالبا تحت غطاء "واقعية سياسية مزيفة".. ولا ننزلق إلى جدال فلسفي إذا تساءلنا ببساطة من منطلق "واقعيتهم": إذن.. علام حرر الروس الشيوعيون ستالينجراد، والفرنسيون الديجوليون باريس، وأقرانهم في أنحاء أوروبا وسواها مدنهم وقراهم وأهلهم، في حرب سقط فيها عشرات الملايين من الضحايا.. عندما كانت "الواقعية النازية" هي المسيطرة بالقوة على بلدانهم؟
من أراد "الواقعية" حقا فما كانت يوما عند "الواقعيين" استسلاما لقوة متفوقة مستقرة، بل كانت دوما عملية تغيير لواقع مستقر مهيمن، والوسيلة: إعداد قوة تقاوم وتنميتها واستخدامها.. وهذا بالذات هو نهج الثورة، فأين يريدون الذهاب بثوراتنا؟
بديل يريدونه.. وبديل نصنعه
هل تخلت موسكو عن بقايا النظام الأسدي؟.
ليس هذا السؤال منطقيا ولا واقعيا ولا حتى مفيدا، فهذا الذي يسمى "بشار الأسد" لم يعد يصلح لخدمة أحد، بل بات أسوأ مما تسري عليه قاعدة: "ضرره أكبر من نفعه".. السؤال الوحيد الحاسم لدى موسكو والعواصم الدولية والإقليمية: كيف نصنع بديلا عنه؟
هذا السؤال هو "المحرك" لجميع قنوات التواصل العلنية والخفية مع "الساسة.. والثوار؟، ولمسلسل "جنيف" المنقطع، و"التحالف الدولي" الفاشل، و"الميليشيات المستوردة" المهزومة، وكذلك "الغزو الجوي الروسي"، بل هو المحرك أيضا لحالات عدوانية أخرى شملت "معظم" ما سمي مؤتمرات "صداقة الشعب السوري".
لم يكن الهدف إطلاقا "إنقاذ" نظام اهترأ اهتراءً يستحيل إصلاحه وفق قواعد العابثين بالواقعية السياسية أنفسهم، بل الهدف في كل ما جرى ويجري في الأعاصير المضادة للثورة الشعبية في سورية هو:
الحيلولة دون قيام وضع جديد على دعائم إرادة شعبية متحررة، خارج نطاق دائرة لعبة "الهيمنة الدولية توافقا وصراعا"، والعمل بدلا من ذلك لترسيخ دعائم وضع آخر، يحقق مآرب الهيمنة، وبعض ما يمكن أن ينسجم معها من "مصالح" قوى إقليمية و"مطامع" أخرى.
من أراد حوارا ثوريا حقا.. فالتوافق على "جواب ذاتي" على ذلك الهدف الخارجي هو "المفيد" ثوريا.
المطلوب تصور عام وليس بديلا مفصلا
عندما يطرح المتحدثون باسم القوى الأخرى، سؤالا "تقريريا استنكاريا"، علنا ووراء أبواب مغلقة: أيها الثوار أين "البديل" الذي تطرحونه؟ إنما يبحثون هم عن تشكيلة بديل مقبول غربا وشرقا وشمالا وجنوبا.. بغض النظر عن مدى تمثيله أو عدم تمثيله لشعب سورية.
ليس لدينا جواب مكتمل، ولا يمكن -وإن حاولنا- طرح بديل مكتمل.
البديل يصنعه مستقبل الثورة فيظهر وينمو ويتطور تدريجيا، ولا يصنعه مسارها في مرحلته الأولى الفاصلة بين استبداد وتحرر.. ومن أخطائنا الشنيعة مبالغتنا في الانسياق وراء ما يطلبون، إلى درجة الوقوع في مستنقع "جلد الذات" بصيغة قنوط خطير:
لم نصنع بديلا.. لا نستطيع صناعة بديل.. لا مجال لانتصار الثورة دون ذلك.. علينا القبول إذن بما هو دون أهداف الثورة وإن كانت مشروعة ورغم التضحيات الكبرى.
كلا.. مسار الثورة ليس في حاجة إلى "عمليات ترقيع".. وعمليات الترقيع هي القبول ببديل مختزل، أو متسرع، أو منحرف، يجمع القبول ببعض الاستبداد المحلي والدولي مع "وهم انتحاري" أننا نستطيع التخلص من "بقية" الاستبداد لاحقا!
مسار الثورة في حاجة إلى "عمليات تطوير دائمة" لا علاقة لها بصناعة "بديل" وإن أظهرت بعض معالمه، فالمطلوب الآن هو تصحيح ما وقع من أخطاء ذاتية كانت متوقعة، ولا يجوز استمرارها، إنما دون التعامل مع تلك الأخطاء كما لو كانت "ماحقة قاتلة" فمن شأن ذلك أن "ندفن" الثورة نفسها بأيدينا.
التطوير المطلوب يعني ارتفاع مستوى العمل الثوري والسياسي لنقترب أكثر من بلوغ الهدف الأول: إسقاط بقايا النظام بعجره وبجره وبما يشمل نوعية العلاقات التبعية الخارجية من جانبه.
إن مطالبة الثورة بطرح "بديل مستقبلي" مكتمل الآن هو مطلب تعجيزي.. فهذا يصنع مستقبلا، أما المطلوب ثوريا الآن فهو التصور العام بخطوطه العريضة.
البديل التغييري يتطلب تخطيطا وإصدار قرارات وتنفيذها، انطلاقا من لحظة انتصار الثورة وتثبيت الخطوط العريضة لأهدافها.. إذن: كيف يصنع القرار بشأن بناء المستقبل، قبل الوصول إلى مراكز صنع القرار، أي قبل الانتصار بتحقيق الهدف الأول: إسقاط بقايا النظام؟
ليس مكمن قصورنا أو أخطائنا في مسار الثورة هو عدم عرض "تفاصيل" ما نريد مستقبلا لترضى القوى الدولية والإقليمية عن الثورة -ولن ترضى مهما فعلنا- بل هو في عدم التوافق الثوري، الميداني والسياسي، على الخطوط العريضة "فقط".. ليرضى الشعب الثائر بجميع أطيافه، عن مسار ثورته، وإن لم ترض الأطراف الخارجية.
ولنذكر أن جميع الحركات التغييرية التي سميت ثورات في العالم الغربي كله طرحت تصورات ولم تطرح "هيكلية البديل" بل صنعتها بعد الانتصار، وهذا ما يسري مثلا على "الثورة الفرنسية" التي استمرت تسع سنوات حتى أسقطت "النظام المهترئ"، وفق الرؤية العامة، أي الخطوط العريضة، لعصر التنوير، أما البديل فلم تستقر دعائمه الهيكلية فعلا إلا بعد خمسين سنة.
نحتاج في عملية بناء المستقبل على أسس وطيدة، في سورية وأخواتها، إلى جهود كبرى، فردية وجماعية، ولكن ما نحتاح إليه الآن.. في هذه المرحلة، ليس مهمة مستحيلة، ولا مهمة ضخمة، فالبذور موجودة، وهي التي فجرت الثورات، وكان التعبير عنها شعبيا مبسطا: حرية.. كرامة.. عدالة.. حقوق.. والمثال عليها في سورية ما انطلق على ألسنة "المتظاهرين في سوق الحريقة في دمشق"، أي قبل انطلاق الثورة الشعبية جماعيا في آذار/ مارس ٢٠١١م، فكان هتافهم الأول "الشعب السوري ما بينذل" كناية عن مطلب الحرية والكرامة، وهتافهم الثاني "حرامية حرامية" كناية عن رفض الفساد الذي يقوم الاستبداد عليه ويعتاش منه لنفسه وفي علاقاته الخارجية.
من أراد عملا ثوريا آن أوانه، بغض النظر عن لقاءات القوى الدولية والإقليمية حاليا، وبغض النظر عن واجب متابعتها والتواصل معها.. فإن العمل المجدي هو "التواصل" الثوري الميداني والسياسي، للتوافق على صياغة "مشتركة ملزمة" للخطوط العريضة للثورة منطلقا وأهدافا بعيدة، وضوابط ملزمة للمسار المشترك حاليا، أي حتى إسقاط بقايا النظام المهترئ وارتباطاته التبعية الخارجية.
بعد ذلك فقط يكون لكل حادث حديث، ولكل طارئ مستقبلي مسار تشريعي تضبطه الإرادة الشعبية المتحررة.
نبيل شبيب