أربعة وخمسون عاما مضت على استقلال تونس برحيل المستعمر الفرنسي عسكريا عن أرضها، وما زلت تونس تبحث عن ذاتها في خضم "أعقد" مسار أطلقته الثورة الشعبية فيها قبل سبع سنوات، وإن لم يكن هو الأخطر "دمويا" بالمقارنة مع مسارات ثورات شعبية أطلقتها ثورة تونس في أكثر من بلد عربي آخر.
ولعل وثيقة قرطاج يوم ١٣/ ٧/ ٢٠١٦م هي المحطة الأبرز في المسار التونسي، وكانت بمشاركة أهم القوى السياسية والاجتماعية، لتحديد معالم ما ينبغي أن تلتزم به حكومة الوحدة الوطنية من بعد، وإن وجدت انتقادات وانتقادات مضادة، منها ما وصل إلى القول إنها مدخل العودة بالبلاد "سلما" إلى وضع شبيه بما كان قبل الثورة الشعبية، ومنها ما اعتبر "سلمية المسار" نسبيا، نجاحا في تونس بالمقارنة مع التحرك المضاد للثورات في البلاد العربية الأخرى، انقلابا وتقتيلا وعنفا وتدخلات دولية مباشرة للحيلولة دون تحرر الإرادة الشعبية.
الوثيقة ركزت على المواجهة المشتركة "الجماعية!" للمشكلات، الأمنية والاقتصادية والمعيشية في الدرجة الأولى، بينما كانت الثغرة الأخطر كامنة فيما حددته تحت عنوان "ترسيخ الانتقال الديمقراطي عبر فرض هيبة الدولة والقانون"، وليست المشكلة هنا في كلمة "الانتقال الديمقراطي" بل في ربطه بتعبير يمثل احتواء النقلة الثورية الشعبية باسم هيبة الدولة والقانون، وهو الأقرب إلى التعابير الموروثة عن عهد استمر ٤٧ سنة، أي منذ الاستقلال حتى الثورة، دون أن يحقق الأمن والحرية والحياة المعيشية الكريمة.
إن تبرير ذلك بضرورة استكمال تركيز المؤسسات، ومقومات الحوكمة الرشيدة، مرتبط بنوايا الجهات السياسية والاجتماعية المشاركة في توقيع وثيقة قرطاج، ولا تشكيك في النوايا ولكن لا يكفي مجرد "الاطمئنان" إليها، ما دام يوجد بين الجهات المعنية من كان جزءا عضويا من نظام ما قبل الثورة، ولم يتغير بسياساته ورؤاه، أو من كان خارج السلطة الاستبدادية الفاسدة، ولكن بقي عاجزا عن إحداث تغيير جذري لتحقيق الأهداف التي اندلعت الثورة شعبيا دون فعله أو إذنه، من أجل تحقيقها.
هل يمكن إعطاء الاحتياجات المعيشية وفق تلك الوثيقة الأولوية على الاحتياجات الأساسية الضامنة بالضرورة لاستقرار تلبية الاحتياجات المعيشية.. أي العدالة.. والحرية.. والكرامة.. والأمن؟
لا شك أن حادثة محمد البوعزيزي يوم ١٧/ ١٢/ ٢٠١٠م، كرمز للثورة وللربيع العربي، توحي بعمق البعد الاجتماعي والمعيشي، ولكنها ترمز في الوقت نفسه إلى أن هذا البعد هو وليد غياب العدالة وجميع ما يتفرع عنها من حريات وكرامة وكذلك من انهيار اقتصادي وظلم اجتماعي.
لقد كان المسؤولون آنذاك يعلمون أن الثورة انطلقت -كسواها لاحقا- طلبا للأمن والحرية أولا.. ولهذا تحرك رأس النظام زين العابدين بن علي قبل فراره إلى المضافة السعودية، فحاول امتصاص شحنة الغضب في الثورة بإجراءات ترمز إلى "افتقاد الأمن والعدل" كعزل وزير الداخلية، وإجراءات ترمز إلى افتقاد الحريات العامة، مثل "فتح مواقع شبكية محجوبة منذ سنوات" مثل موقع يوتيوب.. وأخفقت المحاولة واستمرت الثورة حتى سقوطه.
هذا مما يؤكده الباحث التونسي زهير إسماعيل في مقالته (ثورة الألفية الثالثة في تونس – جدل الحرية والكرامة) في شبكة الجزيرة يوم ٢٥/ ١/ ٢٠١٧م، إذ يجعل الحرية والكرامة في قلب القضية المحورية التي لم تجد حتى الآن جوابا يسمح بالقول: إن الثورة حققت أهدافها، وهذا ممّا يجعلها في منظوره " ثورة الألفية الثالثة".. وإلا كيف يمكن القبول بأن "إنقاذ دولة تونس" بعد الثورة قد أوصل رموز النظام السابق إلى السلطة من جديد (ولم يتغيّر من المشهد سوى أنّهم صاروا يتكلمون بلسان الثورة) كما يقول.. ويضيف بعمق تحليلي بالغ الأهمية: (فبقدر ما كان الانقسام الاجتماعي سببا في كسر عصابة السرّاق، كان الانقسام الأيديولوجي سببا في عودتها وتأجيل الشروع في تنمية البلاد وتحسين مستوى العيش).
الجدير بالذكر أن تعامل الدول الأجنبية مع تونس الآن، مباشرة أو عن طريق بعض "السلطات" الأخرى في البلدان العربية، لا يختلف عما كان قبل الثورة.. ويدرك الساسة والمحللون الغربيون حقيقة الوضع الراهن، كما يؤخذ كمثال من أمثلة عديدة، من قول سراه ميرش تحت عنوان "دولة نموذجية على وشك السقوط" في أسبوعية "دي تسايت" الألمانية يوم ١١/ ٨/ ٢٠١٧م:
(لا يزال للنخب من عهد المستبد زين الدين بن علي نفوذ كبير، ليس بشكل مباشر واستعراضي كالعسكر على ضفاف النيل، ولكنه نفوذ له مفعوله، سياسيا واقتصاديا على السواء).. وتتابع (فيما مضى كانت الدول الأوروبية تتغاضى عن انتهاكات حقوق الإنسان ما دام الاستقرار قائما، والآن يمكن أن يتكرر المشهد -المقصود: مشهد أن التغاضي لم يمنع اندلاع الثورة- على خلفية الجدال الدائر بشأن موجات اللجوء ومخاطر الإرهاب).
. . .
إن المطلوب من المسؤولين في تونس وكذلك كل من يهمه أمر تونس وشعبها وثورتها ومستقبلها أن يضعوا في حساباتهم وأن يعبروا في مواقفهم وسياساتهم، عن أن أسلوب "التهوين" من شأن الغليان الشعبي، وأن اتخاذ خطوات "مترددة" -وإن أعطيت عنوان مرحلية متدرجة- عن تلبية مطالب الثورة وأهدافها، بل اتخاذ خطوات متناقضة مع تلك الأهداف في كثير من الأحيان، جميع ذلك يساهم في مضاعفة الغليان الداخلي، ويمكن أن يوصل إلى اندلاع موجة ثورية أخرى، قد تكون أشد وأوسع نطاقا من ثورة ١٤/ ١٢/ ٢٠١٠م.
إن استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي عام ١٩٦٣م لا يكتمل دون استقلال الشعب وإرادته ودون تحقيق سيادته على أرضه وثرواته وكل من يصل إلى السلطة في بلده.
نبيل شبيب