تحليل – تغييب القضاء المستقل أثناء الثورات.. يقضي عليها

العدالة هي أمّ  القيم والحاضنة لكافة الحقوق الإنسانية.. ولئن غلب ذكر الحرية والكرامة على أهداف الثورات الشعبية في سورية وأخواتها، فلا يخفى أن الحرية لا تجد طريقها إلى التطبيق كما ينبغي دون العدالة، وأن الكرامة لا يستقيم ضمانها دون العدالة، وهذا ما يسري على كافة الحقوق البشرية الأخرى.

بالمقابل إذا تحققت العدالة في واقعنا، وسادت مكان الظلم والطغيان والتمييز والبغي والتعدي، فذاك ما يفتح الطريق لتنتشر في حياتنا الحرية والكرامة وكافة الحقوق المعنوية والمادية الأخرى.

لهذا -والله أعلم- يتكرر ذكر العدل والعدالة ويتكرر التحذير من الظلم والطغيان، في النصوص الشرعية، في القرآن الكريم والحديث الصحيح.

ليست العدالة "كلمة مجردة" ولا تتحقق دون البنية الهيكلية القضائية، بالمواصفات التي لم يعرف عالمنا المعاصر بعضها إلا حديثا، ويمكن أن نستخرجها من النصوص الشرعية حيث وردت كلمة "حَكَمَ" ومشتقاتها ومرادفاتها، فأصل معنى حكم.. هو قضى بين الناس، ولا يخفى علينا مثلا ما تعنيه قصة الخصمين بين يدي داوود عليه السلام، أو قصة أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه مع خصمه اليهودي بين يدي القاضي العادل، والأمثلة كثيرة.

 

صور نموذجية وواقع مؤلم

ما أصعب الحديث عن البدهيات بشأن العدالة والقضاء، وعن هذه الصور التاريخية النموذجية المعبرة وأمثالها، ونحن نعايش ما صنعه ويصنعه الانحراف والزيف والتزوير والظلم من خلال غالب ما سمّي زورا وبهتانا أجهزة قضائية في بلادنا، كسورية ومصر..إنما الأشد وقعا على نفوسنا هذه الأيام، أن تقوم الثورات الشعبية لرفع الظلم وإقرار العدل، ثم لا يجد الشعب الثائر أثناء الثورات معالم سبيل يشقه الثوار لتأسيس نواة سليمة ينبثق عنها قضاء قويم، رغم أن افتقاد مؤسسة "العدل" في جسم الثورة، يعني عدم الاطمئنان إلى مستقبل الدولة المراد بناؤها عبر الثورة.

في سورية تخصيصا يوجد عدد كبير من القضاة ومن المحامين، وجدوا عند اندلاع الثورة مخرجا لإنقاذ أنفسهم مما فرض عليهم في صيغة "شبكة محاكم" ليس لها من العدالة نصيب، وجملة قوانين "تشرعن للجريمة" على حد تعبير شيخ الحقوقيين هيثم المالح ووفق خبرته ودراسته، فنزع أولئك القضاة والمحامون عباءة النظام الاستبدادي الفاسد، واستبشروا خيرا في أنهم سيلبسون قريبا "روب" القضاء، وأن الأبواب فتحت بين أيديهم ليساهموا عبر تخصصاتهم الحقوقية في التمهيد الضروري الآن، من أجل قيام دولة العدالة والحرية والكرامة والحقوق مستقبلا.

هل تحقق ذلك خلال في هذه الأثناء؟ هل تحقق ولو نسبيا؟ ما هى العوائق في وجه تحقيقه؟ من المسؤول عن عدم تحقيقه؟ ما الذي يعنيه الوضع الراهن وما السبيل للخروج منه؟

إن استمرار غياب الجسم القضائي العادل النزيه المقنن المنظم في البنية الهيكلية للثورة، لا يؤدي إلى استفحال انتشار المظالم والجرائم فقط، بل هو في الوقت نفسه معول يساهم في هدم أركان الثقة الشعبية والحاضنة الشعبية للثورة.

لا علاقة لهذا الغياب أو التغييب بضغوط دولية وإقليمية وما يتفرع عنها.. فجوهر المشكلة كامن داخل البنية الثورية الذاتية، ولن نعطي لأنفسنا وشعوبنا والعالم من حولنا مؤشرات ذات مصداقية كافية، بصدد ما نريد تحقيقه تحت عنوان العدالة، ما لم نعمل -الآن- لقيام أجهزة حقوقية قويمة، تضع لنفسها تشريعات وأنظمة وآليات تضمن سلامة عملها عبر قضاء نزيه ومحاماة حرفية، مع الحد الضروري من مراعاة متطلبات الظروف الاستثنائية في فترة الثورة.

 

إشكالية السيطرة باسم الثورة.. على القضاء

ليست العوائق عوائق خارجية.. بل عقبات سياسية وثورية ميدانية وتمويلية.

كل طرف "سياسي" يتحدث باسم الثورة يزعم أن "الجسم القضائي" يجب أن يتبع للجسم السياسي.. يعني أنه لم يتخلص بعد من إرث "السلوك الأسدي" المرفوض شعبيا وثوريا وعقليا وبمختلف المعايير.

وهذا ما يسري على كل زعامة أو قيادة في الميدان الثوري المسلح، لا سيما عندما يسعى كل طرف على انفراد أن يكون له "قضاته"، وتكون له رؤيته التشريعية الذاتية، وتكون له هيئته "الشرعية"، فكأننا نريد تقسيم سورية والثورة الشعبية في سورية بعدد ما يوجد من كيانات سياسية وفصائل ثورية.

ليست ظروف الثورة ولا متطلباتها الاستثنائية سببا جوهريا لادعاء "العجز" عن إيجاد قضاء عادل الآن كنواة حقيقية لقضاء دستوري قويم مستقبلا، بل هي قضية "تغييب" المعايير الضرورية لذلك، سيان هل نطلق عليها وصف الإسلامية أو السياسية أو الثورية أو العالمية.. فالحصيلة واحدة.

المطلوب من أجل الثورة والوطن والشعب: ‎قضاء مستقل حرفي نزيه منظم.

والواقع القائم هو أن كل فريق يريد أن يوجد قضاء "تحت إمرته وتابع له".. ولا يصنع ذلك سوى قضاء "صوري" شبيه بذاك الذي يضيع مغزى الثورة دون إزالته، بل ومحاسبة المسؤولين عما ارتكبه بحق الإنسان والأوطان، لأنه كان جزءا من النظام الأسدي المتهالك، أي كان "تحت إمرته وتابعا له".

لا يمكن أن نتحدث عن "العدالة" هدفا دون تطبيقها في واقع الثورة.. ولا نطبقها بإعادة إنتاج ما كان تابعا منحرفا مرفوضا وإن أطلق عليه وصف "قضاء".. وكان خاضعا لسلطان القوة، فكان بذلك أحد الأسباب الرئيسية.. لتراكم المظالم، وتراكم الغضب، وتراكم الآلام.. وبالتالي لاندلاع الثورة.

 

تفاقم الخطر يفرض التصرف الآن

لنكن على جانب من الصدق المفروض مع أنفسنا:

لقد تعامل معظمنا منذ بداية الثورة مع العدالة.. والقضاء المستقل كما لو كان الأمر من قبيل الترف الفكري أو السياسي أو الثوري.. حتى إذا رحل من رحل من الشهداء، وتحول بعض "القادة" إلى التصرف بمعيار ما أصبح لكل منهم من أسباب قوة سياسية أو ثورية ميدانية، انهارت "الصيغة الثورية الجامعة" لإيجاد قضاء مستقل، وحل مكانها ما لا يحصى من الأطروحات المتعددة المتباينة المتفرقة، فتمزقت الثورة نفسها، وغابت العدالة، فاضمحلت الثقة الشعبية، ولولا أن الحاضنة الشعبية تملك صبرا لا حدود له، فلربما سلكت سبيل إطلاق ثورة على الثورة.

لهذا يجب أن يخاطب جميعُنا جميعَنا:

نعلم بمدى خطورة المرحلة الحالية من مسار الثورة..

ونعلم بمدى ضرورة ضخ دماء تجديد ثورية في عروقها..

ونعلم بحجم ما تصاعد من الشكاوى من أوضاع شاذة وسلوكيات مرفوضة..

ونعلم أيضا.. أن الثورة في حاجة إلى موجة قوية دافعة وكافية لاستمرارها على أيدي هذا الجيل، قبل أن يأتي الله بقوم آخرين يتابعون الطريق..

ولكن نعلم أيضا أنه لن يتحقق ما نريد لاستمرارية الثورة ما لم يكن إيجاد نواة صالحة لقضاء قويم، في صميم المهام المطلوبة والخطوات العملية الضرورية، عبر العمل التخصصي الجادّ والهادف، والأهم من ذلك العمل المستقل عن إملاءات يمليها تعدد الانتماءات والتوجهات والارتباطات التمويلية والخارجية، أو تمليها ظروف اللحظة الآنية لغلبة هذا الفريق أو ذاك على بعض أسباب القوة العسكرية أو السياسية بين يديه.

يجب أن يخاطب جميعُنا جميعَنا:

(١) لا يجوز في هذا الإطار أن تقول أي هيئة سياسية، بدءا بالائتلاف الأكبر من سواه بين الأجسام السياسية، إن "القضاء" المطلوب يجب أن يتبع للجهاز السياسي.. ثم يترتب على ذلك دعم بعض القضاة وتغييب آخرين، وبالتالي يمنع السياسيون -وهذا مرفوض..مهما كانت التعليلات- نشأة قضاء مستقل، مع علمهم وعلمنا جميعا، أنه لا يكون مستقلا حقا إلا إذا كانت له الصلاحية والقدرة على النظر أيضا فيما يصنعه أولئك السياسيون وتصنعه هيئاتهم، ليقول كلمة الفصل في شأن مدى الالتزام القانوني ومدى الالتزام بأهداف الثورة والشعب والوطن.. وهيهات أن يكون قادرا على فعل ذلك بشأن هيئة سياسية "يتبع" لها؟

(٢) لا يجوز في هذا الإطار أن يقول هذا الفصيل المسلح أو ذاك مثلا: هذا قاض يتبع لنا.. ويجب أن يكون في اللجنة الفلانية للتحكيم أو متابعة المخالفين أو ما شابه ذلك.. فتبعية القاضي لأي فصيل تفقده مصداقيته، وندمّر محور ما يقوم عليه وصفه بالقاضي، لا سيما إذا كان هذا الانتماء منطويا على إمكانية تعيينه وفصله، وصرف راتبه وقطعه.

(٣) يجب أن تتركز جهود الجميع.. على المبادرة أن يصنع القضاة والمحامون والمتخصصون الحقوقيون بأنفسهم ولأنفسهم -بالتشاور مع سواهم.. وليس بالتبعية لسواهم- الجسم القضائي المستقل عن الجميع، وأن يضعوا هم لائحة عملهم وما يتفرع عنها، وأن يتضمن ذلك كافة ما يتعلق بالشؤون القانونية، والتنظيمية، والإدارية، إلى جانب ما يتعلق بكيفية النظر في مختلف القضايا وطريقة التعامل معها في إطار مراعاة ظروف الثورة، ولكن مع عدم إغفال المواصفات النهائية المستقبلية في نطاق "دولة المستقبل" المرجو بناؤها على طريق التغيير الذي فتحت الثورة أبواب العمل له.

 

مصداقيتنا مهددة

الثورة ثورة شعبنا.. وما نصنعه للثورة نصنعه لشعبنا ووطننا ومستقبلنا، ونتطلع من خلاله لمرضاة الله عبر الإخلاص وتحري الصواب. وفي الوقت نفسه نقول:

ليس للثورة مصداقية شعبية، ولا مصداقية خارجية، ما لم تحمل الآن خصائص ما يراد بناؤه من خلالها في المستقبل.. والجسم القضائي في المقدمة من ذلك البناء.

من دون ذلك يفقد الثوار ويفقد السياسيون.. ويفقد المفكرون والمنظرون والمخططون وأصحاب الأقلام، مصداقيتهم شعبيا وتاريخيا.

أما ثورة شعب سورية.. فقد أخذت مكانها في جبين التاريخ من لحظة اندلاعها الأولى، وستتجاوز بإذن الله كل من ينفصل عن مسارها أو ينحرف، وستتجاوز أعاصير التحركات المضادة لإرادة الشعوب، وسيبقى الانتماء لها والعمل من أجل دعم مسارها نحو النصر الموعود والتغيير المنشود، هو الطريق المفتوحة اليوم أمام من يريد أن يخدم نفسه في الدنيا والآخرة.

نبيل شبيب