منحدر التعامل مع قضيّة فلسطين خلال العقود الماضية منحدر خطير، يعرفه الجميع، فهو مرئيّ رأي العين، لا سيما وأن السلطات باتت تخشى من مجرّد أن يدور الحديث العلني عن قضية فلسطين بحرية، خارج إطار القالب المراد فرضه فرضا على الفكر واللسان، على وعي الفرد الفلسطيني والعربي والمسلم، وكأنّ ذلك القالب ما بين كامب ديفيد ومدريد وأوسلو وما بعدها قائم على مسلّمات مطلقة، لا تقبل النقد ولا التشكيك ولا النقاش، مع أنّ ظاهر تلك المسيرة وباطنها بات صهيوني التدبير، أمريكي التصنيع، فليس لنا -أو ليس لمن يتبناه في بلادنا- سوى التنفيذ.
اغتيال الوجدان اغتيال للموضوعية
إذا كان الأمر أمر زعيم أو زعماء ومنظمة أو منظمات يتحركون “استعجالا” للنتائج بسبب موازين “العجز الراهن” فالقضايا الكبرى لا تقاس بأعمار الأفراد، ولا تفرض عليها من أجلهم حلول، أي حلول، لاسيما إن كانت وخيمة العواقب على أجيال مقبلة وعلى البلدان والشعوب التي ننتمي إليها جميعا.
إلى زمن قريب لم يكن وضعنا مع قضية فلسطين، على هذا النحو، ولم يكن “تفكيرنا” بها على هذا النهج، الذي يعبّر عن مأساويّته تجنيد أنفسنا ضد بعضنا بعضا، على مختلف المستويات.
إنّ ما حدث على ساحة قضية فلسطين من تغيير، أعمق مدى بكثير من قرارات سياسية يومية، ولقاءات علنية وسرية، واتفاقات توصف بالشرعية الدولية أو لا توصف، فما يراد بالقضية وأهلها من أبناء فلسطين ومن العرب ومن المسلمين، أبعد مدى حتى من السيطرة على الأرض أو الاقتصاد أو القرار السياسي والأمني، كما كان في عهد الصليبيين أو كما شهدت وتشهد قضايا أخرى، طالما تقلّبت عليها الدول وموازين القوى من جيل إلى جيل، إنّما المراد عبر المشروع الصهيوأمريكي أن تتمّ “السيطرة” على آلية ما يصنع القرارات، وما يصنع التغيير في حياة الشعوب والأمم، يراد التحكّم بأرضية الفكر والوجدان لدينا، والتي ينبت منها كل قرار، بهذه الصياغة أو تلك، وهذا الاتجاه أو ذاك.
وقد تم بالفعل قطع عدد من مراحل التغيير بهذا الاتجاه الذي ينطبق عليه وصف “عملية غسيل دماغ جماعية” وتظهر من ورائه معالم آلية توجيه كبرى، متكاملة محليا ودوليا.
شهدنا مراحل التغيير تلك في تاريخنا المعاصر، فلا تحتاج رؤيتها إلى بحث وتنقيب.. فقبل فترة وجيزة جدّا من عمر التاريخ المديد ووفق مقاييس قضايا الأجيال، كانت قضية فلسطين قضية مصيرية مشتركة، ومُسخت أوّلا إلى قضية الاتجاه القومي الاشتراكي المسيطر، ثمّ إلى قضية دول مواجهة وأخرى مساندة، ثمّ إلى قضية الفلسطينيين وحدهم، مع سلخ ما يخرج عن هذا العنوان لوضعه تحت عنوان صراع عربي إسرائيلي في البداية، فعنوان “صراع الشرق الأوسط” لاحقا، وأخيرا تحت عنوان “نظام شرق أوسطي” في ظلّ مشاريع سلام تكتب صياغتَها السياساتُ الصهيوأمريكية وحدها، فإلى أين يمضي هذا المنحدر بعد؟
إنّه منحدر خطير، وخطورته ظاهرة للعيان بغضّ النظر عن اختلاف المنطلقات وتباين التيّارات، فالناس يفترقون ويلتقون عند عرض أمر من أمور يحتاج إلى رأي فتتعدّد الآراء، إنّما لا ينبغي أن يكون الاختلاف حول تسمية الأشياء بمسمّياتها الحقيقية، أو تحديد ما تراه العين المجرّدة كوقائع ثابتة، وإلاّ انفرط العقد كما هو حالنا الآن.
من هنا يمكن القول، إنّ الأخطر من مسيرة التراجع والهزائم والتسليم رغم عواقبها الوخيمة في الحاضر والمستقبل، هو منطق التزوير والتسويغ لتلك المسيرة، عبر ما يجري الترويج له على أوسع نطاق، وبصورة تتناقض مع كلّ منطق قويم.
باتت الهرولة على ذلك المنحدر تُصوَّر وكأنّها هي الأصل، أمّا الرجوع إلى أصول القضية فهو التطرّف، وباتت تُصوّر كأنّها هي السبيل المنهجي، أمّا الحديث عن مواجهة واقع باطل والعمل على تغييره فمرفوض أو موضع السخرية فكأنّه ضرب من ضروب الخيال والأوهام، شأنه في ذلك شأن الحديث عن استرجاع حقوق مغتصبة في حيفا ويافا وعكا والقدس والرملة، أو عن تحرير كامل التراب الفلسطيني من البحر إلى النهر، أو عن المطالبة بنجدة حقيقية ونصرة صادقة لمن يتعرّض للقتل والتعذيب والاعتقال من البشر وللاغتصاب والتهويد والتدنيس من المقدّسات.
الفارق كبير بين قول أهل التسوية إنّهم يرون أوضاعنا أوضاع عجز لا تسمح بتحرير حيفا ويافا وأخواتها قطعا، والأجدى هو العمل على انتزاع أكبر ثمن ممكن للتنازل عنها، وبين قولهم إنّ تلك الأراضي وسواها ممّا احتلّ عام ١٩٤٨م أرض “إسرائيل” ابتداءً وإنّ من بقي فيها من أهلها هم “عرب إسرائيل”، ولا نكون واقعيين إلاّ بحرق أوراق تاريخ ألفي سنة قبل ميلاد إبراهيم عليه السلام، وألفي سنة بعد وفاة سليمان عليه السلام، ولكن علينا آنذاك حرق أوراق “التوراة الراهنة” أيضا، باعتبار ما فيها من نصوص تتعارض مع دعوى يهود اليوم بفلسطين، وتروي ما تروي عن موقف يهود من داوود وسليمان، وقد كفّروهما، ولم يتركوا في النصوص الحالية للتوراة أسلوبا من أساليب الشتيمة والاتهامات والافتراءات الكاذبة إلا واستخدموه بحقهما (سلام الله تعالى عليهما وعلى سائر الأنبياء والمرسلين).
ثمّ هم يطالبون اليوم بإرثهما التاريخي، فلئن صنعت الصهيونية ذاك، فكيف يراد من إنسان عاقل، ناهيك عن إنسان عاقل عربي عموما أو مسلم عموما، أن يجاريها فيما تصنع، فيضع نظّارتها لرؤية حقائق التاريخ مزوّرة مزيّفة، ثم يزعم أنّه لا سبيل إلى الأمن والسلام إلا هذا السبيل!
بل يزعم أيضا أنّ من يرى وجود سبيل آخر، وإن كان محروما من المشاركة في صناعة القرار مثله، فعليه البقاء بين جدرانه الأربعة فلا يخرج برؤياه على الناس، وأقلّ ما يصنع به هو الاتهام (في نظر صاحب الاتهام) بالحماسة والعاطفية، حتّى بات مجرّدُ أن تتحرّك المشاعر والأحاسيس، أو مجرّد مخاطبة أحاسيس الإنسان في بلادنا ومشاعره أمراً “خطيرا” مرفوضا، كأنّما لا يمكن أن نكون منهجيين موضوعيين قادرين على صناعة مقدّمات التحرّك وإعداد أسباب مادية ملموسة لبلوغ أهداف واضحة جلية، إلاّ إذا قتلنا قبل ذلك وجداننا بأيدينا، وعطّلنا النخوة في قلوبنا، ووأدنا عواطف أبنائنا وبناتنا عن الغليان ونحن نريهم دماء إخواننا وأخواتنا -وهي بعض دمائنا- كما نراها تسيل، وأعراضنا تُنتهك، وحقوقنا تُغتصب، وأوطاننا تمزّق، وقضايانا تحرق، وتاريخنا يُزوّر.
هذا.. رغم أنّنا نواجه بالمقابل عدوّا أو جملة أعداء، يسخّرون الأفلام والمسرحيات والمهرجانات ومختلف ألوان الإنتاج الأدبي والفني، دون أن يتعرّضوا إلى الاتهام بوهم الحماسة والعاطفية فيما ينسجونه من أساطير تستهدف تهييج أحاسيس التعاطف مع باطلهم وعدوانهم، وإيهام القريب والبعيد بأنّهم مظلومون يستحقون يقظة “ضمير العالم” لنصرتهم وتأييدهم فيما يصنعون، حتى ولو بلغ من الإجرام أقصى مداه، بدءا بتهشيم العظام في الأرض المحتلة، مرورا بإلقاء القنابل العنقودية والانشطارية والمسمارية وغيرها على الأرض المجاورة، وانتهاء بما ثبت أنّهم يرسلونه من أسباب نشر الفاحشة والأمراض داخل أرضٍ “عقدوا السلام” مع القائمين على حكمها، وعلاوة على إعدادهم للمزيد من أسباب العدوان والتوسّع والاغتصاب والتهويد، عبر ما يطوّرون ويخزّنون من سلاح فتّاك وما يوجدونه من أسباب التغلغل في المنطقة حولهم حتى الأعماق!
العودة.. إلى إنتاج أدبي شعري ونثري، وإنتاج فني بمختلف ضروب الفن، والعودة إلى التذكير بآيات الله وسننه في خلقه، وإلى ما كان في الماضي، وما نتطلّع إليه في المستقبل، من أحلام وأمنيات، ومن أهداف وغايات تبدو لجلالها في منزلة الأحلام والأمنيات، والعودة إلى تربية الجيل على الارتباط بقضاياه المشتركة بما فيها قضية فلسطين المركزية جغرافيا وتأثيرا، ارتباطا يتجاوز الحدود والجنسيات.. هذه العودة التي يمكن أن تساهم بإحياء الوجدان، وتجنيده، واستنفار إنتاجه لتعبئة الطاقات وتوظيفها توظيفا مدروسا، هي في مقدّمة الواجبات التاريخية في المرحلة الراهنة من مجرى المسيرة الزمنية في حياتنا وحياة الأمم.
أمّا الدعوة إلى الموضوعية والمنهجية، فهي دعوة سليمة في أصلها بلا جدال، ضرورية دون ريب، ولكن شريطة ألاّ تتحوّل إلى معول هَدْم، من خلال اقترانها -كما وقع في التعامل مع قضية فلسطين- إلى دعوة لقتل الإحساس والوجدان، فقتل الإحساس والوجدان هو البداية لقتل الأمّة، ولتمييع الأهداف، ولسلب الإرادة، وكذلك للقضاء على مختلف الجهود المنهجية والموضوعية، الضرورية لابتكار الوسائل المناسبة وتطويرها وشقّ السبل الموصلة إلى الغايات العزيزة العادلة، في مختلف الميادين لا في قضية فلسطين فقط.
نبيل شبيب