تحليل – تحولات سياسية دولية في قضية سورية

هل تختلف المساعي الحالية بحثا عما يسمونه "الحل السياسي" عن سابقاتها؟

هل توجد معطيات جديدة دفعت إلى تجديدها؟

إلى ماذا تفضي هذه المرة بعد الخبرة المعروفة بما سبق منها؟

لا توجد أجوبة جاهزة على هذه الأسئلة، ولكن يوجد كثير من المؤشرات التي يحسن التوقف عندها.

. . .

لم تنقطع الاتصالات الأمريكية الروسية قط حول قضية سورية، ولكن التصريحات الأخيرة (منتصف ٢٠١٥م) بصددها توالت بشكل ملحوظ، ووصلت إلى توافق لتمرير مسألة "استخدام غاز الكلور" مبدئيا في مجلس الأمن، كما اقترنت بتحركات إضافية، آخرها الدعوة الروسية المفاجئة للائتلاف الوطني لزيارة وحوار، وانعقد من قبلها اللقاء الإيراني-الروسي مع ممثلي النظام الأسدي في طهران، ثم لقاء في مسقط، فضلا عما شهدته الدوحة من نشاط ملحوظ وما تردد عن لقاء شهدته جدة مؤخرا بعيدا عن الأضواء وتضمن محادثة مع "علي مملوك"، وتلا ذلك لقاء وزيري خارجية الرياض وموسكو، ومن "أخطر" ما فيه الحديث عن ضرورة استبقاء ما سمي "مؤسسات الدولة" مع تحديدها بالجيش والأجهزة الأمنية، إلى جانب تكرار الحديث عن "خلاف بشأن مصير الأسد".

هل بدأ تحويل مسألة رحيل رأس النظام الأسدي "فقط" إلى "عصا سحرية" لتسويق حل سياسي يكتفي ببعض التعديلات لتجميل وجه أهم "وسائل"‎ الإجرام خلال خمسين سنة مضت؟

. . .

واضح أن ما يسمى "العجلة الديبلوماسية" في سباق مع "العجلة الميدانية" في الشمال السوري وقد وصلت إلى سهل الغاب، وما يتردد عن إنهاء فترة تجميد التحرك في الجنوب، فضلا عن ضربات الثوار في داريا وجوبر، وفضلا عن وصول مسار معركة الزبداني لشبيه ما وصلت إليه معركة القلمون، فمهما استقرت عليه حصيلة هذه المعركة، لم يعد خافيا أنها تستعرض جهارا نهارا مدى الانهيار الذي ينخر في بقايا النظام الأسدي وفي الميليشيات المستوردة، بعد تصويرها سابقا على الطريقة الإسرائيلية أنها "قوة لا تقهر".. وتكتمل الصورة الميدانية عبر مشهد ما دبّ من نشاط عسكري في التحرك التركي، وما أثاره من تفاعلات واسعة النطاق، مع توقع المزيد، هذا رغم "لعبة التصريحات" من جانب الأمريكيين، لا سيما بشأن ما يوصف بالمنطقة الآمنة، وكذلك "لعبة القصف الدموية" واستهداف المزيد من فصائل الثوار مرة بعد أخرى.

. . .

هل يعني ما سبق أن التحركات السياسية غيرت وجهتها تحت ضغوط الوضع الميداني؟ وما مدى حجم هذا التغيير؟ هل يقتصر على بعض المظاهر أم يدخل في صميم القضية؟

لنذكر ما كان في مسلسلات "مساعي السلام" من خلال عنان والإبراهيمي ودي مستورا وفي جنيف الثانية، فآنذاك كان "النظام" يحصل على المهلة الزمنية الدموية بعد الأخرى، ليستعيد سيطرته المتزعزعة على سورية الثورة، ولكن على النقيض من ذلك الآن، يؤكد الوضع الميداني غياب أي مجال لإعطائه فرصة إضافية عبر تدخلات "السلام" الدولية، إلا مع سيل من الدماء، فقد حصل عليها مرارا وأخفق في تحقيق أغراضها، وبعد أن بدا في السنة الرابعة من سنوات قمعه الإجرامي الهمجي أنه خرج من عنق الزجاجة، عاد بعد عام واحد إلى مرحلة الاختناق مجددا.

كذلك تبدلت المعطيات الإقليمية والدولية، فالعلاقة بين السعودية وتركيا اليوم غير ما كانت عليه آنذاك، والتحرك في اليمن نذير بأن القرار الإقليمي لم يعد يطبخ في العواصم الغربية "وحدها".. وموسكو لا تستطيع دون مخاطرة كبيرة التحرك بدعم ربيبها الأسدي بالقوة التي كانت عليها قبل "أزمة أوكرانيا"، وحتى طهران لا تستطيع الجزم بلحظة تحرير طاقاتها المالية المجمدة لتستبق ذلك الآن كما فعلت مرارا وتتابع إنفاقها في "برميل حليف مثقوب".

إن حصيلة المشهد الميداني والميدان السياسي الدولي تؤكد اختلاف ما يجري الآن من جهود سياسية عما سبقها، وتراجع القوى المعنية من العمل لإنقاذ "النظام ورأس النظام"، إلى مستوى "إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا النظام".

بالمقابل لا يصح أن ننتظر الآن التخلي الدولي المطلق عن العنصر الأهم، وهو استمرار العمل للحيلولة بكل وسيلة ممكنة، دون "تحرر الإرادة الشعبية" في سورية تحررا ناجزا.. فانتظار ذلك من قوى خارجية وهمٌ يزينه حسن ظننا بشعارات تنسب إلى العدالة والشرعية الدولية والحقوق الإنسانية والمواثيق الأممية وغيرها، مما يتميز بمحتوى "جيد" جدير بالعمل لتحقيقه، ولكن القوالب السياسية الدولية القائمة الآن تستخدمه.. ولا تسترشد به، ناهيك عن أن تقيد نفسها ومطامعها ببنوده.

رغم ذلك.. ينبغي القول:

١- إنّ تبدل الوضع الميداني ومنه "توحيد بعض الفصائل" وإنجازات ذلك على الأرض..

٢- والتبدل الجزئي في الوضع الإقليمي في اتجاه تحرير نسبي للقرار من الهيمنة الدولية..

هما العاملان الحاسمان في دفع المواقف الدولية إلى خطوة تراجع أولى..

ومن هنا نتساءل: ما الذي يعيق حاليا دفعها إلى خطوة تالية؟ أو نضع التساؤل بصيغة إيجابية: ما الذي يجب صنعه لدفعها إلى خطوة تالية؟

. . .

١- على الصعيد الميداني: مضاعفة الضغوط الميدانية على القرار الإقليمي والدولي..

يتطلب ذلك العمل لتنفيذ مزيد من الخطوات المدروسة "لتوحيد الفصائل" وليس بعضها فقط، في كل مكان، وليس في كل بقعة جغرافية بمعزل عن الأخرى، وبحيث يشمل التوحيد مختلف الميادين، بعد التجارب الإيجابية على صعيد أهداف محددة في غرف عمليات توجه معارك محددة.

ويقتضي ذلك في الوقت نفسه القدرة على حل الأزمات أو حسن إدارة ما ينشب منها موضعيا بين بعض الفصائل الميدانية، وهو ما يفيد فيه التواصل المباشر وليس "الحديث الإعلامي" أو الثرثرة الشبكية، ناهيك عن "حرب البيانات والاتهامات المتبادلة"، مع التأكيد أن المقصود هو "الفصائل الثورية" وليس تنظيما يعادي الثورة، أو يحافظ على ارتباطه ببقايا النظام الأسدي.

٢- على الصعيد الإقليمي: حسن التفاعل مع المتغيرات الإقليمية..

يتطلب ذلك تعزيز القواسم المشتركة الحالية وزيادتها، بين ثوابت الثورة الشعبية ممثلة في قطاعها الميداني، وبين المصالح المشروعة لقوى إقليمية تعلم أو بدأت تعلم مدى أهمية مستقبل سورية في إطار مصالحها الذاتية المستقبلية، وهذا بمنظور ما تمارسه من سياسات وتحركات، ولا يخفى أن المقصود بذلك تركيا والسعودية وقطر في الدرجة الأولى.

ويقتضي ذلك في الوقت نفسه القدرة على كسب المزيد من القوى الإقليمية، وعدم نصب العراقيل من قبيل التركيز على رفض سياسات وممارسات "أخرى" خارج نطاق "القواسم المشتركة" ذات العلاقة بمسار الثورة في سورية تحديدا، فجميع صيغ التعاون الإقليمي والدولي في عالمنا ينطوي على تجاور الاستفادة من "المتفق عليه" مع تحييد "المختلف عليه".

٣- على الصعيد السياسي: استدراك ضعف تمثيل الثورة على مستوى سياسي حرفي

لعل هذه هي نقطة الضعف القديمة الجديدة، وعقدة المنشار في الوقت الحاضر، وهي التي تحجب الإجابة المقنعة على سؤال مطروح منذ فترة: هذا نظام انتهى شأنه.. فما الذي سيأتي بعد اكتمال سقوطه؟

إن استدراك النقص هنا يتطلب ما لا يكفي لذكره بعض السطور في ختام مقالة موجزة، ومن عناوينه الكبرى استخلاص رؤية سياسية مشتركة، مما يوجد حاليا وهو كثير، ولكنه "انفرادي" وبعضه "إقصائي".. وصياغة استراتيجية مشتركة، وأصبح ذلك ممكنا على خلفية التجارب العملية، ثم التوافق على عقد وطني مشترك لتنظيم قواعد التعامل بين الأطراف المتعددة المختلفة، في مختلف مراحل الطريق ما بين حالة الثورة إلى حالة اكتمال تأسيس الدولة المنبثقة عن الثورة، وجميع ذلك يتطلب عودة "الجميع" إلى التعامل البيني المتبادل، على أساس أن الثورة الشعبية في سورية لا تستثني فصيلا ميدانيا ولا تجمعا سياسيا ولا فئة شعبية، فهي ثورة السوريين جميعا، إلا من أبى.. والذي يأبى هو من يحاول إقصاء الآخر أو إلغاء وجوده أو استئصاله، فمن يصنع ذلك يخرج نفسه بنفسه من الحاضنة الوطنية الثورية الجامعة.

نبيل شبيب