تحليل – بين تصعيد العدوان الروسي وتفاقم مأساة التشريد

نعايش حاليا صخبا أوروبيا بصدد موجات "الترحيب.. والتعذيب" أثناء استقبال فريق محدود نسبيا من ملايين المشردين من سورية وفي سورية، وقد تجاوزوا نصف تعداد أفراد شعبها الثائر.. ولهذا الصخب أسبابه، ولكن يكاد يطغى على آلام المآسي الفردية والجماعية في ملحمة التشريد نفسها، كما طغى التفاعل مع صورة "إيلان" على الساحل، وكل طفل ضحية يستحق أقصى درجات التفاعل، ولكن غاب في الوقت نفسه ما يعنيه السيل المتدفق من المشاهد "المرعبة" لمئات ألوف الضحايا من الأطفال السوريين على امتداد السنوات الماضية.. ومما يساهم في تغييبها أن السياسة المعاصرة، تحرم نشر "صور حقيقية مرعبة" قدر الإمكان تجنبا لتأثيرها "النفساني الإنساني" على الرأي العام.

ونعايش أيضا صخبا غربيا وروسيا مفاجئا بصدد الدور الروسي العسكري في سورية، وهو صخب غيّب بدوره ما دار من جدل حول ما يسمى الحل السياسي في جنيف ثالثة.. ويستغرب هذا الصخب عند مقارنته بالصمت المطبق تجاه ما تجاوز الواقعة الروسية الحالية أضعافا مضاعفة، سواء في شكل ضخ العتاد المتطور والهمجي الملوث بدماء الضحايا أو في شكل ميليشيات إيرانية بمسميات عديدة لم ينقطع مسلسل جرائمها في سورية منذ زعزعت حناجر الثوار الأوائل كرسي الربيب الإيراني في دمشق.

ثم يقال إن الغرب بزعامته الأمريكية "لا يتدخل!".. بلى، يتدخل بالأسلوب الذي يحقق أهدافه العدوانية مع تجنب الخسائر المباشرة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، بما في ذلك التدخل عبر الوعود الكاذبة، والصمت حيث ينبغي الاحتجاج، والاحتجاج حيث ينبغي التصرف.

 

سياسة "الميوعة السياسية"

من طبيعة الصخب السياسي والإعلامي أن يثير غبارا حول ما يصنع على أرض الواقع، ومن ذلك ما يشير إليه السؤال:

كيف أصبحت داعش ذريعة علنية بعد أن كانت ذريعة ضمنية في ممارسة الحصار السياسي والعسكري الدولي للثورة الشعبية في سورية، للحيلولة دون انتصار الإرادة الشعبية؟

يوجد ‎تبدل أساسي في واقع السياسات الدولية، لا سيما الغربية، وعليه شواهد عديدة تدور حول محورين اثنين، متزامنين ومتكاملين:

المحور الأول: اتخذ الكشف عن تصعيد حجم الدور العسكري الروسي في سورية صورة عملية واضحة، من عتاد وأفراد وقواعد.. أما "الرد" الغربي الرسمي فاتخذ صيغة مائعة، وليس في السياسة الواقعية الدولية "ميوعة" غير مدروسة ومقصودة.

من تجليات الميوعة السياسية: الإعراب عن "قلق" أمريكي وأطلسي.. فهل يتوقع أن تتجاوز قيمته قيمة الشعور بالقلق المتكرر على لسان الأمين العام للأمم المتحدة، وهو يعرب عنه بتكرار ممل، كلما حضر محفلا دوليا يتعلق ببعض أفاعيل التحرك المضاد لتحرر الإرادة الشعبية العربية، كما في مصر بالانقلاب والإعدامات والقمع.. أو في ليبيا بالتدخل الخارجي والمكر.. أو في سورية حيث تلتقي الموبقات جميعا.

ومن تجليات الميوعة السياسية أيضا: تساؤل فرنسي رسمي، برنة استفهام "الجاهل" -وليس وزير خارجية فرنسا "جاهلا"- عما يمكن أن يؤدي إليه ذاك التحرك الروسي العسكري المكثف من تعقيدات "للأزمة"!‎

ولا ينتظر أن تخرج دائرة ردود فعل غربية أخرى على  الحيز "المتوافق على سياقه" من الميوعة السياسية.. هذا مع الأمل في أن يخيب هذا "التوقع"، عسى يثبت وجود رمق من روح في جسد "المجتمع الدولي" وضميره ومواثيقه وشعاراته.

 

تغيير المواقف يبدأ بمقدمات

المحور الثاني: صدرت تصريحات غربية رسمية جديدة بشأن مصير "رأس أخطبوط الفجور الاستبدادي في سورية".. من ذلك جرعة أخرى من تصريحات أمريكية قابلة للتقلب أكثر من "الخطوط الأوباماوية الحمراء الشهيرة".. من علاماتها الحديث عن "استحالة وجوده في مستقبل سورية".. أما تحديد كيف وإلى متى، فلا داعي له ما دام الغرض مجرد "جرعة تطمين كلامية" تجاه الطرف السعودي تخصيصا، بسبب الاتفاق النووي، وليس بسبب سورية، ومثل سابقاتها لم تقترن جرعة التصريحات الجديدة بأي موقف واضح حازم أو إجراء عملي صغير أو كبير.. ولكن اقترنت بتصريحات أوضح وأصرح مما مضى على ألسنة مسؤولين أوروبيين، حلفاء للأمريكيين في السراء والضراء، كان منهم مثلا الرئيس النمساوي ووزير خارجيته، ووزير الخارجية البريطاني، والجميع يتحدث "فجأة" عن اعتبار "الأسد" شريكا واقعيا أو اضطراريا في الحرب ضد الإرهاب الداعشي.

توجد مؤشرات كثيرة أخرى.. والمهم هو جوهر التبدل الجاري، والمقصود: الانتقال حاليا إلى مرحلة "علنية أكثر مما مضى"، في مراحل خط سياسي عدواني لم يتبدل كثيرا منذ اندلاع الثورة الشعبية في سورية.

إن خلفية "كواليس" هذا التوجه السياسي بمحاوره المذكورة جميعا، يمكن أن تظهر قريبا في صيغة مؤتمر أو بيان أو قرار، عنوانه روسي المصدر: "تحالف يضم الروس والغربيين وإيران وربيبهم الأسدي" ضد الثورة الشعبية بذريعة الحرب ضد داعش.

 

شماعة داعش

مع تأكيد الهدف الأكبر والأشمل، وهو "تحرير إرادة شعب سورية من الاستبداد الهمجي الداخلي والهيمنة العدوانية الأجنبية" نبقى في حدود ما سبق من معالم المرحلة الحالية للوقوف عند أمور مبدئية:

الأمر الأول: ليست علاقة العداء أو التوافق بين داعش وأي جهة محلية أو إقليمية أو دولية معيارا للموقف الثوري منها، حربا أو مهادنة، بل المعيار هو انحراف تصوراتها عن ثوابت الإسلام وإنسانية الإنسان.. وانحراف أعمالها عن طريق الحق عبر حربها المباشرة ضد الثورة الشعبية وفصائلها وحاضنتها الشعبية في سورية.

هذا -ولا شيء سواه من اعتبارات دولية أو إقليمية- يجعل الحرب ضدها مفروضة، وهو ما تنطلق منه كبرى الفصائل المسلحة وإن تباينت ممارساتها لاعتبارات ميدانية يقدرها أهل الميدان فحسب، بشأن "كيفية" المواجهة وحجمها وتوقيتها.

الأمر الثاني: أي طرف خارجي يريد "فعلا" الحرب ضد داعش، وليس مجرد قول ذلك ذريعة لأغراض أخرى، لن يحقق هدفه دون مشاركة مباشرة وشاملة من جانب الفصائل المسلحة، وهذه مشروطة بالاعتراف بدورها ومكانتها في الثورة وفي مستقبل سورية، وبدعمها المباشر.

بالمقابل يستحيل أن يتحقق هدف تلك الحرب بالاعتماد على بقايا النظام الأسدي والميليشيات المستوردة، هذا لو صدق من يمارسونها رغم أنها أقرب إلى توجيه "ضربات غير موجعة.. وغير حاسمة" منذ بدأت قبل أكثر من عام حتى الآن.

الأمر الثالث: تضخّمَ تيار التشريد السوري باتجاه أوروبا الغربية "نسبيا" بعد أن استهلك المشردون طاقات تركيا والأردن تخصيصا، والتشريد من صنع همجية بقايا النظام الأسدي والميليشيات المستوردة والسلاح الروسي وتحت تأثير الخذلان الفاضح والتخاذل المتواصل في الرد، غربيا وإقليميا، وليس لداعش نصيب من مأساة التشريد إلا في حدود وضع نفسها واقعيا -بغض النظر عن التفاصيل- شريكا لبقايا النظام الأسدي في توجيه الطعنات الغادرة للثورة الشعبية.

بتعبير آخر: لا قيمة لربط مشكلة التشريد بالحرب ضد داعش، سواء من حيث التصعيد أو من حيث نوعية التحالفات القديمة والجديدة، ولا قيمة للتعامل مع "مشكلة التشريد" أصلا دون استئصال أسبابها من الجذور، بالقضاء على بقايا النظام الأسدي وتحالفاته الخارجية، وإفرازاته الداخلية، ومنها داعش، فجميع ذلك هو ما أوجد التشريد ومآسي التشريد إلى جانب الفظائع الأخرى المشهودة داخل سورية.

. . .

لا بد من متابعة ما يجري في الساحة الإقليمية والدولية واستيعابه، ولكن:

ليس القابضون على جمر الثورة الشعبية في سورية مسؤولين عما يصنع الأسديون والإيرانيون والروس والغربيون.. ولكنهم مسؤولون عما يصنعون هم.

ولا يملك القابضون على جمر الثورة الشعبية في سورية إملاء ما يجب صنعه على أعدائها و"أصدقائها".. ولكن يملكون أمر أنفسهم وما يمليه حرصهم على تحقيق أهداف الثورة الشعبية التغييرية التاريخية.

ولا يبدو أنه يوجد خلاف كبير بشأن الثورة نفسها ومسارها ولا ما يطرأ عليه من جانب هذا الطرف أو ذاك، ولكن تبقى الخطوة الحاسمة على طريق التحرير هي ترجمة التوافق على تشخيص المشكلة إلى رؤية استراتيجية ومخطط عملي والتزام تنفيذي، مما يتلاقى عليه القابضون على الجمر.. قبل أن تحترق الثورة بين أيديهم، وقد يفوز كثير منهم بإحدى الحسنيين، ولكن يبقى أن النصر في هذه الحياة الدنيا هو المطلوب في كل رؤية وتخطيط وتنفيذ.

نبيل شبيب