في مسلسل التحركات المضادة للثورات الشعبية وتحرير إرادة الشعوب العربية، شهد اليمن ويشهد حلقة حاسمة، توهم أحداثها باقتراب تحقيق هدف إعادة التسلط من جديد على إرادة الشعب اليمني..
قد يتحقق ذلك فعلا، ولكنه يبقى "مرحلة"، فليست هذه الحلقة خاتمة لمسار التغيير الذي أطلقه الثوار من الشباب والفتيات في اليمن.
. . .
في متابعة الأحداث، أو ظاهر ما يجري منها في اليمن، تنتشر تساؤلات معبرة عن الحيرة:
ازداد الاستقطاب بين شمال وجنوب وعلى مستوى قبلي ومناطقي وطائفي.. فهل يوصل إلى حروب داخلية؟
الحوثيون لا يستطيعون الهيمنة على السلطة في كامل اليمن.. فمن يتحرك فعلا من ورائهم؟
إذا كان المقصود إعادة إنتاج "نظام صالح" الاستبدادي، فما دور الدول التي تبنت خلعه من الرئاسة؟
التدخل الغربي/ الأمريكي يقتصر على غارات ضد القاعدة.. فهل يستهدف القاعدة أم دعم الحوثيين الذين تستهدفهم القاعدة؟
والسؤال الأهم في الحصيلة:
هل يقضي التحرك المضاد الحالي على الثورة الشعبية في اليمن، أم تستعيد قوتها وتتابع طريق التغيير رغم أعاصير التحرك المضاد؟
. . .
لم يبدأ التحرك المضاد يوم ٢١ إيلول/ سبتمبر ٢٠١٤م، أي عند اجتياح الحوثيين للعاصمة صنعاء مقابل تراجع الجيش والشرطة دون مقاومة، بل كانت البداية أثناء الفعاليات الأولى للثورة الشعبية:
١- في المرحلة الأولى من التحرك المضاد مع مطالع الثورة، مع استغلال وصول الشعب الثائر إلى أقصى درجات "الإنهاك" عبر البطش المتواصل، تلاقت القوى الدولية والخليجية على ما سمي "المبادرة الخليجية" فأوصلت عبر "الضغوط" على شباب الثورة، وبدعوى "حقن الدماء" إلى خروج رأس الاستبداد والفساد من منصب الرئاسة.
مغزى تلك المرحلة: الظهور بمظهر التراجع أمام الثورة.. ولكن دون إنهاء وجود الاستبداد والفساد المنتشر في مفاصل الدولة جميعا.
٢- بدأت المرحلة التالية بالعمل من أجل تليين صلابة المد الثوري، فقد ثبتت استحالة مواجهته بالقوة، وكان مما ساهم في "تليينه"
(١) تخصيص جائزة نوبل للسلام لرمز الثورة الشبابية توكل كرمان..
(٢) "نقل" الرمز الأول للاستبداد صالح، من الواجهة إلى الصفوف الخلفية..
(٣) تصوير ذلك أنه يحقق هدف "الشعب يريد إسقاط النظام".
مغزى تلك المرحلة: سلب القوة الشبابية الثورية زخم احتضانها شعبيا، ثم فسح المجال لتحركات سياسية مكثفة تحت عنوان التغيير.. دون صناعة التغيير، فقد بدأ توظيف عنصر الزمن في صالح التحرك المضاد بعد أن كان في صالح مسار الثورة والتغيير.
٣- على تلك الخلفية بدأت المرحلة التالية من التحرك المضاد، من وراء الحوثيين.. ومعهم، بما يتفق مع ما يراد ترسيخه كخارطة جديدة للتوازنات والتحالفات والصراعات الإقليمية.
الغرض في نطاق اليمن: تغيير "شخوص" منظومة الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية"، دون تغيير جوهر سيطرتها على الوطن والشعب، ومع إضافة عناصر "الفوضى الهدامة"، من نزاع بين شمال وجنوب، وتحالفات قبلية قاعدية، وضياع أدوار القوى الحزبية السابقة، فالصراعات تؤدي إلى إضعاف الجميع، وذاك أهم أركان استعادة ترسيح منظومة السيطرة على الجميع.
. . .
قطعت هذه المرحلة الحالية شوطا كبيرا ولكن لم تصل إلى صياغة نتائجها النهائية بعد، إنما لم يعد ممكنا "إعادة" إنتاج النظام المهترئ في حدود تتجاوز أن يكون "طرفا" في الصراعات وليس مهيمنا عليها، وما يسري على اليمن يسري على البلدان الثائرة الأخرى، فبعد إخفاق الأنظمة الاستبدادية الفاسدة فيها، واستحالة استمرار دورها في منظومة "التبعية والهيمنة" أصبح المطلوب دوليا وإقليميا هو سيطرة القوى الخارجية المباشرة على "بيادق" في مفاصل السلطة، مع تطبيق صيغتي "الصراع على النفوذ" و"تقاسم مناطق النفوذ" في وقت واحد، على غرار ما عرفته حقبة "الحرب الباردة" بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي.
بتعبير آخر:
إن الحصيلة التي توصل إليها أعاصير التحرك المضاد للثورات وتحرير الإرادة الشعبية، لا تختلف في جوهرها عما كان سائدا قبل الثورات.. ولم يمنع من اندلاعها.
ولهذا: بقدر ما يستفيد جيل الثورة بشبابه وفتياته من دروس معايشته المباشرة للتحرك المضاد، يمكن أن يتابع طريق الثورة والتغيير.
لم تتغير المعطيات الأساسية، ولم تتبدل موازين القوى، ولن ينقطع "اهتراء" الاستبداد والفساد محليا، وترنّح الهيمنة العالمية دوليا.. وستبقى القوة الشعبية هي الأكبر في نهاية المطاف، ولكن الشرط الحاسم هو أن تبقى "قوة فاعلة"، أي أن تعبر عن نفسها وتطلعاتها وإمكاناتها على أرض الواقع، ولا ترجع إلى حالة "الركون" أو ما يسمى "الطاقة الكامنة"، فهذا ما مكّن من قبل من إطالة فترة الاستبداد والهيمنة الخارجية طويلا.
المرجح في اليمن أن جيل الثورة لن يعود إلى حالة "الكمون".. فقد تذوق ما تعنيه الثورة، ورأى مباشرة ما يعنيه تضييع زخمها الشعبي، ويستطيع مضاعفة خبراته عبر التعامل مع أعاصير التحرك المضاد.. وهو ما يضاعف قدراته على الرؤية الشاملة، البعيدة المدى، وعدم الاقتصار على مجرد "رحيل رأس الفساد والاستبداد" فالثورات الشعبية أكبر من ذلك بكثير، هي ثورات على "أخطبوط" السيطرة وبالتالي على جميع أذرعه الداخلية والخارجية، استبدادا وفسادا وهيمنة أجنبية.. مما يتطلب المتابعة عبر طريق تشهد إنجازات ثورية ونكسات يصنعها التحرك المضاد، ولا غنى للثوار في هذا الطريق عن مزيد من العطاء والوعي، والتصميم والعزيمة، والتخصص والتكامل، والتعاون على الأهداف الكبرى.
. . .
إن ما جرى ويجري في اليمن يتكامل مع ما جرى ويجرى فيما سمي بلدان الربيع العربي جميعا، ويستدعي أن نستخلص في كل يوم ومع كل حدث جديد، مزيدا من القدرة على توظيف كل درس جديد ليكون طاقة إضافية لمتابعة طريق الثورة والتغيير، ومن تلك الدروس في اليمن على وجه التخصيص:
١- أول ما يستهدفه أي تحرك مضاد للثورات الشعبية.. هو إرادة الثورة عبر نشر الوهم بأنها انتهت.
٢- الانتصار هو تحقيق "جميع" أهداف الثورة التغييرية.. وليس تحقيق هدف ما على الطريق.
٣- كل وقفة من جانب الثوار قبل الانتصار يفضي إلى انتكاسة خطيرة.. مهما كان حجم الإنجاز المرحلي.
٤- لا يوجد شيء اسمه "حل وسطي" في مسار الثورة التغييرية.. بل "تحرك مضاد" بعناوين مزورة.
٥- لا يوجد من يمثل الشعب الثائر سوى جيل الثورة.. شريطة تلاقي الجميع على قواسم مشتركة.
٦- جيل الثورة يحمل مهمة مزدوجة.. وتأهيل نفسه للتغيير هو الجانب الأهم فيها من فعاليات الثورة نفسها.
٧- ليس "استمرار الثورة" هدفا مستقبليا.. بل هو المتابعة المتواصلة في واقع تتبدل ملامحه ولا يتبدل جوهره.
٨- الخاسر الأكبر على طريق الثورة والتغيير.. هو من ينحرف عنه علاوة على من يقف في وجهه.
نبيل شبيب