تحليل – الواقعية المقلوبة

من أشدّ ألوان التزييف الراهن في التعامل مع قضية فلسطين لونان، أحدهما تزييف وقائع التاريخ والأحداث المعاصرة على السواء، واللون الثاني هو الانطلاق من تلك الكتابة المزيّفة للتاريخ والواقع، وكأنّها باتت من البدهيات المسلّم بها، لتصوير ما نمارسه من تسليم وكأنّه هو بالذات عين ما يعنيه مصطلح “الواقعية السياسية” الذي تتحدّث عنه القوى الدولية كشعار مرفوع، مع تصوير ما نصنعه عبر التسليم والخضوع، وكأنّه مجرّد سياسة واقعية نمارسها، مثلما يمارسها سوانا فحسب!

أقل ما يقال في هذا وذاك إنّه تزييف وتضليل، فهذا اللون من “السياسة الواقعية” لا وجود له ولا يمارسه على هذا النحو أحدٌ في عالمنا المعاصر سوانا!

 

من صور تزييف التاريخ على سبيل المثال دون الحصر، عدم الاكتفاء بتسمية الكيان الباطل باسمه الذي انتحله لنفسه “إسرائيل” كما نسمّي سائر الأشياء الباطلة بمسمياتها دون أن يتبدّل جوهرها، بل المضي إلى تغيير مناهج التدريس في بعض بلادنا وإلى تبديل مفردات أدبياتنا الثقافية والفنية والفكرية، لإطلاق تلك التسمية، كما لو كان لها مشروعية تاريخية على أرض فلسطين، التي سكنها منذ ستة آلاف سنة اليبوسيون والكنعانيون والفيلستينيون والموآبيون وغيرهم، ولم يفارقها أو يفارقها أحفادهم من بعد في أيّ عهد من العهود.

لم يستقر سلام ولا وئام بعد، ورغم ذلك بدأت عملية واسعة النطاق لغسيل الدماغ، الناشئة عبر تشويه “وقائع” تاريخية ثابتة، وليس تشويه “آراء” أو إسقاطها!

ليس لهذا كلّه علاقة بخلاف بين ماضين في مشروع التسوية السلمية إلى درجة الوقوع في مطبات متتالية نتيجة الهرولة، وبين رافضين إلى درجة الاستعداد للاستشهاد، ففي حالتي القبول والرفض، لا يمكن في الأصل تبديل واقع تاريخي ثابت، لجعل جزء من فلسطين، على الأقلّ في حدود الاغتصاب الأوّل عام ١٩٤٨م، هو “إسرائيل” تاريخيا، ولتثبيت “حق تاريخي” مزعوم بدلا من الإقرار بأنّ ما يسعى إليه فريق من صانعي القرار، الحاليين، تحت عنوان التسوية، ليس إلا حصيلة مرحلة أفرزتها هزيمة عسكرية وسياسية وفكرية، تجاه بني إسرائيل بفلسطين هذه الأيام!

 

الأشدّ في ميزان التاريخ من ذلك، أنّ هؤلاء الذين نزوّر وقائع التاريخ ونتجاوز حقائق العقيدة من أجل سلم موهوم معهم، هم الذين يفترون في أدبياتهم الدينية وغير الدينية، بدءا بالتوراة بوضعها الراهن بين أيديهم، مرورا بالتلمود وسواه، يفترون على جميع الأنبياء، حتى على سليمان وداوود عليهما السلام، فيتهمونهما بالزنى والكفر والخداع والتضليل، وسوى ذلك، ثم يمضون إلى افتراء آخر، من خلال ادّعائهم وجود “حق” لهم بفلسطين، استنادا إلى انتسابهم إلى دولة التوحيد التي أقامها داوود وسليمان، النبييْن البريئيْن من تلك الافتراءات، عليهما وعلى سائر الأنبياء الصلاة والسلام.

 

أي منطق بمقياس التاريخ البشري أو العقيدة، وبمقياس المنطق أو القانون الدولي يمكن الرجوع إليه، لاستيعاب ما يقول به أدعياء “الواقعية السياسية” في بلادنا في عملية تزييف التاريخ؟

ولئن زعم الصهيونيون ما يزعمون ليوظّفوه في خدمة أغراضهم العدوانية، فهذا منتظر منهم، دون الإقرار به، ولكن أن يجاريهم في ذلك ساسة ومفكّرون ومثقفون يتكلّمون -أو من المفروض بهم أن يتكلّموا- باسم الطرف الضحية، فهو ما لا يمكن استيعابه ولا الإقرار به بحال من الأحوال، سيان هل اعتبروه من مقتضيات “السياسة الواقعية” أم لم يعتبروه!

 

المثال الثاني على التزييف المعاصر: يزعم “الواقعيون” المحدثون أنّ الصهيونيين الذين يمتطون ظهر الدين اليهودي ويسيئون إليه بما يرتكبون من جرائم بحق الإنسانية، اليهود، والذين يريد “الواقعيون” أن تُعقد معهم معاهدات سلام وتعاون، وتقوم بين بلادنا وبينهم علاقات طبيعية، وأن ترتبط مصالحنا بمصالحهم، وأمننا بأمنهم، وأن يرتبط وجودنا ومستقبلنا بنظامهم “الشرق أوسطي”.. يزعمون أنّ أولئك قوم لا يريدون سوى السلام والأمن والعلاقات المصلحية، فهم ليسوا على نهج ما ورد في نصوص التوراة التي يعتمدونها، أو في كتابات مؤسّسي حركتهم الصهيونية الحديثة من عهد هرتزل وجابوتنسكي إلى عهد نيتانياهو وبيريس، أو ما طبقته ممارسات “إرغون وشتيرن وهاجانا” من عصاباتهم الإرهابية. 

أو يقول “الواقعيون” إنّ هذا “الحرص على السلم” ينطبق على الأقل على “الحمائم” أمثال رابين وبيريس وباراك، أي ينطبق على مبتكري تهشيم العظام، ومرتكبي مجزرة قانا، وناشري النسبة العظمى من المستوطنات القائمة على أنقاض ما هدّموا من بيوت شرّدوا عنها أهلها الأصليين!

أمّا مَن يُذكّر بتلك النصوص وتلك الممارسات، من داخل صفوف العرب والمسلمين فهو متّهم عند أولئك “الواقعيين” بالبعد عن الواقعية، وبالإغراق في الأوهام والمخاوف، هذا إذا لم يصل الاتهام إلى مستوى “التطرف والأصولية والتعصب وتشجيع الإرهاب إلى آخره”.

ومن العسير الردّ ردّا “منطقيا” على مثل تلك المزاعم المادحة ليهود، والاتهامات الموزعة علينا، فأصحابها أشبه بقوم لا يرون ولا يسمعون ولا يقرؤون، رغم أنّ بعضهم على الأقل يدّعي لنفسه أنّه يمثل “النخبة” من بين المثقفين والمفكرين والتي لا يفارقها الصواب، كما فارق بزعمهم “الغالبية من غير تلك النخبة”، أي الكثرة الكاثرة من المفكّرين والمثقفين ومن عامّة العرب والمسلمين!

 

من أراد حقّا أن يتعامل مع “الواقع الراهن” لا الواقع التاريخي لليهود أو للصهيونيين، وأراد معرفة ما يفكّر به يهود “مسيرة السلام” الآن، فعليه بما يخطّطون له وما يكتبونه وينشرونه، جهارا نهارا، ولن يحتاج إلى بحث طويل، ولا إلى تفسير وتأويل، ولكن يحتاج ألاّ يكون ممّن ينطبق عليهم قول جولدا مائير مثلا، عندما سئلت ما إذا كانت لا تخشى أن يقرأ العرب ما يُنشر على لسانها فأجابت: “هؤلاء قوم لا يقرؤون وإن قرؤوا فهم لا يفهمون”!

ورغم سائر ما سبق تبقى خطورةُ تزييف وقائع التاريخ أو أحداث الحاضر المعاصر خطورة محدودة، فهو ينكشف، لكل ذي بصر وبصيرة، آجلا أو عاجلا، وبأسرع ممّا يظنّه ممارسوه، ومهما تكرّر عرضه وتعدّدت الأساليب والوسائل، إذ لا يخفى على أحد أن الخلل الحقيقي الذي يسمح لفترة من الزمن بتصوير الباطل حقا والحق باطلا، إنّما يرجع في الدرجة الأولى إلى استمرار وجود خلل خطير في إطار المعادلة ما بين حرية الفكر والسلطة السياسية في بلادنا، فهو الذي يوسّع نطاق ما يُمنح من إمكانات للمسموح به من التزييف، مقابل شدّة الضيق والتضييق على قنوات المسموح به من التوعية المنهجية بمختلف مقاييسها الوطنية والقومية والدينية والواقعية المحضة!

ولكن يبدو أنّ الأخطر من نشر ذلك التزييف هو قول من يقول مباشرة أو غير مباشرة، إنّ من السياسة الواقعية الانطلاق من الواقع الإسرائيلي والدولي المهيمن، فلا مجال للمكابرة والمعاندة، وخير للعرب والمسلمين بعد هزائمهم المتكرّرة أن يحصلوا الآن على ما يمكن أن يحصلوا عليه سلما، قبل أن يخسروا المزيد!

ويمكن الردّ على هذا المنطق في فهم “الواقعية السياسية” فهما معوجّا.. بالحجّة المنطقية، ولكن هل يجدي ذلك ونحن لا نواجه أسلوبا “آخر” في الفهم والاستيعاب والتفسير، يمكن قبوله أو دحضه وفق قواعد المنطق والنقاش، بل تكمن المشكلة الأكبر في وجود “نفسية انهزامية” ينطلق منها ذلك الأسلوب ويبني ما يبنيه عليها.

وممّا يثير الأسى والاستغراب هنا، أنّ أصحاب المنطق المعوجّ المذكور يريدون أن نتعامل على هذا النحو مع القضية، وأن نفرض على الأجيال المقبلة نتائج تعاملنا نحن معها، فنسلّم لواقع قائم فرضته علينا الصهيونية المعاصرة ومن وراءها من قوى دولية، وهم يتجاهلون أمرين على الأقلّ:

– أنّ الصهيونية ظهرت قبل قرن ونيّف، فكان أنصارها يتحرّكون آنذاك على أرضية واقعٍ أشدّ وطأة عليهم بما لا يقارن من وطأة الواقع القائم الآن على العرب والمسلمين. كانوا جماعات ومنظمات متفرّقة متعادية، في عالم تسيطر عليه قوى دولية تعتبر اليهود وكلّ ما يمتّ إليهم بصلة وباءً يجب استئصاله، ولم تكن “واقعيّة” الصهيونيين آنذاك تتحدّث بمنطق التسليم، بل بمنطق التغيير، ولم تكن تسعى لمعاهدات “سلام وأمن وتعايش” بل عمدت إلى تغيير الواقع، ابتداء من تلك الوعود “الخيالية.. المستقبلية” كوعد بلفور للحصول على أرض لا يملكها صاحب الوعد لصالح من لا يحقّ له أن يملكها!

– وأنّنا لا نرى في واقع المعاملات الدولية الراهنة على كلّ صعيد، ممارسة لنهج “الواقعية السياسية” بأسلوب يماثل أسلوب التسليم الذي يراد لنا أن نمارسه باسم الواقعية. إنّ كل طرف من أطراف عالمنا المعاصر، وضع لنفسه ثوابت ذاتية لا يحيد عنها، وأهدافا بعيدة يتطلّع إليها، وقدّر ما يملكه الآن من معطيات وطاقات ذاتية، وما تملكه الأطراف الأخرى ممّن يصادقه أو يخاصمه على السواء، وشرع في التحرّك، لتغيير الواقع، في اتجاه تحقيق أهدافه هو، مرحلة بعد مرحلة، فإن واجهتْه نكسة لم يتوقّف، وإن بلغ مرحلة من المراحل التالية لم يتوقّف أيضا، فهو كسائر الأطراف في عالمنا المعاصر، يدرك أنّ “الواقع القائم” ليس واقعا ثابتا، بل هو واقع “آنيّ”، متغيّر باستمرار، ويدرك أنّ التسليم -ولو لفترة محدودة- للحظة تاريخية بعينها من مجرى ذلك الواقع الآني، لا يحفظ له “موقعا ثابتا”، بل يعرّضه لوضع متجدّد باستمرار، ويجد نفسه أمام الأشكال المتعاقبة من حوله للواقع الذي يصنعه الآخرون، دون مشاركته، وعلى حساب ثوابته وأهدافه وحاضره ومستقبله!

تلك هي “الواقعية السياسية” في عالمنا المعاصر، القائمة على التغيير باستمرار، وليست هي قطعا تلك “الواقعية” الانهزامية التي يراد إقناع العرب والمسلمين بها، على كل صعيد وفي قضية فلسطين على وجه التخصيص.

 

وقضية فلسطين قضية مصيرية، بالنسبة إلى أهلها الأقربين، ومصيرية بالنسبة إلى المنطقة المحيطة بها، وإلى عامّة العرب والمسلمين، حكومات وشعوبا، مهما اختلفت التيّارات والتوجّهات وتعدّدت الرايات والأسماء، ولهذا فلا بدّ من تقويم التعامل معها على أنه تعامل مصيري، ومن تثبيت أنّ العودة بها إلى موقعها الأصيل شرط لا غنى عنه، ليس لتحرير فلسطين وشعبها ومقدّساتها فحسب، بل ولتحرير الإرادة السياسية والشعبية في بلادنا عامّة، وللتمكّن من تحقيق ما نصبو إليه من أهداف عزيزة كريمة في مختلف الميادين، وليكون لنا في خارطة العالم المستقبلية مكان يسمح بالتأثير لا التأثّر فقط، وبصناعة القرار لا الخضوع لنتائجه فحسب، ولكيلا نعيش غدا على هامش الهامش، بعد أن أصبحنا -في نفق ما صنعته مسيرة كامب ديفيد ومدريد وأوسلو- نعيش على هامش حياة البشرية في عالمنا المعاصر.

نبيل شبيب