معظم المؤشرات على الأرض وعبر حمى الأنشطة الديبلوماسية المتصاعدة بشأن قضية سورية، يرجح أن ما يجري العمل لتنفيذه هو تقطيع أوصال الوطن جغرافيا، دون اقتران ذلك بتجزئة "سياسية رسمية" وهذا ما يستهدف استمرار القتال فترة طويلة. بتعبير آخر أوضح وأصح:
إن إطالة أمد القتال هدف موجود أصلا، وأصبح "التقسيم" هو الوسيلة المرشحة لتحقيقه.
أما الزعم بأن "إطالة أمد القتال" هدف "خارجي" فيستند إلى أن القوى الدولية المعنية سعت طويلا -ولا تزال تسعى- لتغيير الهدف الأصلي للثورة: "تحرر الوطن وإرادة الشعب وصناعة القرار"، ولو أمكن تغييره أو مسخه بعد فترة قتال قصيرة، لانتهت المعضلة الدولية مع قضية سورية.
على هذه الخلفية تبذل الآن جهود ضخمة لتحديد "اتجاه الريح"، إذ يراد نشر الاقتناع بأن الأمور ماضية على كل حال في "هذا" الاتجاه فقط، أي "التقسيم الواقعي وتواصل القتال" فلا جدوى إذن من اتجاه المتمسكين "الحالمين" بانتصار الثورة والرافضين تعنتا أو جهلا "حل الأزمة" مع رأس هذا النظام الأخطبوطي أو بعض بقاياه!
التيئيس من مسار الثورة
نتأمل سريعا بما كان حتى الآن:
١- اندلعت الثورة بعد انتشار "اليأس المطلق" شعبيا من إصلاح دون ثورة..
٢- تحولت إلى "مسلحة" نتيجة الإصرار المطلق" على التحرر، و"الاقتناع المطلق" باستحالته عبر التمسك بتحركات سلمية تواجه قمعا إجراميا فتاكا..
٣- لم تنجح المناورات السياسية المتتابعة في وقف المسار الثوري، بغض النظر عن "خطايا" ذاتية وتدخلات خارجية اقترنت بحقن جوانب عديدة "بفيروسات مرضية خطيرة"..
٤- لم تتغير المعطيات التي حركت المسار الثوري من البداية..
٥- ولم يتغير الحرص دوليا وإقليميا على منع المسار الثوري من هدفه الأصيل: "تحرر الوطن وإرادة الشعب وصناعة القرار" في سورية..
انطلاقا من مجموع ما سبق ينبغي أن نضع عنوان: "التيئيس من استمرارية الثورة" للتعبير بشكل أصح عن المقصود بعبارة: "لا يوجد حل عسكري"، وقد أصبحت "روتينية" في تصريحات المسؤولين، الأعداء و"الأصدقاء".. بمن فيهم من يقدم السلاح، فهو عندهم وسيلة للتحكم باستمرار المواجهة، وأصبح ميدانيا لتشكيل "خطوط تماس" مطلوبة للتقسيم، وزمنيا بقدر ما يحتاج إليه اكتمال التوافق على صيغة إخراج مناسبة وتمريرها.
تقطيع الأوصال ليستمر القتال
يقول الطرح الدولي والإقليمي منذ سنوات:
لا بد من "حل سياسي".. فهذه "أزمة" أو "حرب أهلية" وليست "ثورة"..
ويمكن أن يستمر هذا الطرح سنوات أخرى، ولكن: هذا لا يعني "الجهل" بأنها ثورة شعبية، وأنها تعرضت وتتعرض للتشويه والاختراق ولأفاعيل الفوضى الهدامة..
إن تعميم تحتيم "صيغة المخرج" قبل الوصول إليه، يؤكد أن هذا "ما يراد" الوصول إليه بأي وسيلة.. وبتعبير أوضح وأصح:
ليس "الحل السياسي" مطلوبا لأن ما بين أيدينا "أزمة".. بل يجب أن نسمي ما بين أيدينا أزمة، أو حربا أهلية، وننكر أنها "ثورة"، كي نأخذ بالحل السياسي.. لأنه مقرر مسبقا، ويراد دوليا فرضه، فهو "الهدف" وليس "الوسيلة".
يضاف إلى ذلك السؤال كيف أصبح "التقسيم" مطلوبا الآن:
١- المطلوب حل سياسي "معين" يمنع تحقيق الهدف المحوري للثورة، وليس أيً حل سياسي.. أي المطلوب "نهاية الثورة" بما يسمونه "الحل السياسي" ليكون بديلا عن نهايتها بانتصار ثوري..
٢- لم يتحقق هذا الهدف حتى الآن، لأن وأد الثورات وهي في أوج عنفوانها الشعبي مستحيل، فرغم نشر الفوضى الهدامة لم يتحقق الهدف.. وهذا ما يعني إخفاق جهود التحكم بقنوات التسليح والتمويل والإغاثة الإنسانية، وكذلك جهود إيجاد "فريق معتدل" يحمل وصف "ثوري" ولكن يسمع ويطيع ما يراد خارجيا أكثر مما يراد شعبيا..
٣- كما اتضح أن إعادة إنتاج النظام -كما تردد كثيرا- أصبحت مستحيلة..
٤- فأصبح من الضروري الانتقال إلى مرحلة تالية.. لأن الهدف النهائي: "اغتيال مسار الثورة".. ما زال قائما.
، ، ،
إن الحمى الديبلوماسية تحركات إضافية لمواجهة مفعول تغيرات إقليمية جديدة، ولامتصاص آثارها المحتملة على الساحة الثورية السورية، فأصبح رسم "خطوط تماس التقسيم" وسيلة لتستمر المواجهات التي تعددت "هوياتها" و"ألوانها" على امتداد الأراضي السورية.
يراد تحقيق بلورة جغرافية لمساحات من الأرض "يُحشر" في كل منها فريق: بقايا النظام، داعش، فريق مرضي عنه من الأكراد، فريق أمكن التعاون معه من الثوار، والتضييق على فريق آخر مغضوب عليه من الثوار.. أما المساحة المطلوبة لفريق "معتدل" تجري صناعته وفق تصوراتهم فبقيت غائبة، للعجز عن صناعته بسبب الكشف المتسرع عن الغرض منه، وهو كشف يعبر عن جهل سياسي أو استكبار غبي.
هل يمكن أن تنتصر الثورة؟
كان يتردد الحديث عن هذا التقسيم منذ فترة، ولكن اقترن -وراء الكواليس غالبا- بالقول إن المرجو هو أن تصبح خطوط التماس الميدانية واضحة بما فيه الكفاية لفرض وقف إطلاق النار ومراقبته دوليا، من أجل تحقيق "الحل السلمي" من بعد.. أما الآن فلا أحد ينفي أن مثل هذا التقسيم المحتمل، سيؤجج القتال ويعطيه قابلية الديمومة فترة طويلة، سواء تبدل مجرى خطوط التماس أم لم يتبدل.
إن تصور التقسيم واستمرارية القتال إلى أن يكتمل وأد الثورة في سورية تصور مكتوب عليه الإخفاق سلفا، مهما بلغ شأن القوى الدولية من ورائه.
هذا في منزلة "الزعم" إن لم توجد "أدلة" عليه، إنما يسري وصف "الزعم" أيضا على من يقول إن "التقسيم" حتمي لأن وراءه قوى دولية وإقليمية، ولكن توجد مؤشرات لترجيح زعم على آخر:
١- ما يجري في اليمن في الوقت الحاضر -بغض النظر عن تقويمه بالتفصيل- لا يتوافق قطعا مع ما كان يراد باليمن دوليا.. ولكن يعطي صورة مبدئية عن قابلية أن تحقق متغيرات إقليمية ما كان يبدو "مستحيلا" قبل فترة وجيزة.
٢- الاعتماد الميداني الكبير في اليمن على "أهله"، ممن أطلق عليهم وصف "المقاومة الشعبية" التي احتضنت تدريبها وتسليحها السعودية بنهج سياسي جديد نسبيا، يشير إلى قابلية ما يمكن تحقيقه عن طريق التلاقي الإقليمي -ولو كان جزئيا- مع "القوى الشعبية".
٣- الانتفاضة الشعبية في العراق تكشف أيضا عن حجم الطاقة الشعبية المتفجرة ومفعولها، وهذا رغم الشوط الكبير الذي قطعه مسلسل مخططات الحصار.. فالاحتلال.. فالسيطرة الطائفية الخارجية مباشرة.. علاوة على "واقع" التقسيم الجغرافي وليس مجرد التخطيط له، بالمقارنة مع سورية.
٤- وجدت في اليمن وفي مصر وفي تونس وفي ليبيا، أوكار محصنة لبقايا نظام ساقط أسموها "الدولة العميقة" فاعتمدت عليها مخططات خارجية لإطلاق أعاصير التحرك المضاد لتحررالإرادة الشعبية عبر ثورات الربيع العربي، ولا تزال "المواجهة" سجالا.. أما في سورية فلم توجد "دولة عميقة" أصلا، فالعصابات الأسدية قضت على مقومات الدولة منذ البداية قضاء مبرما، وحوّلت شرايين "الجيش والأمن والمال والاقتصاد والتعليم والإعلام والقضاء" إلى مواقع حصرية بعصابات مدججة بالسلاح والبطش، وهو مكشوفة وليست "عميقة"، ومع انهيارها بين يدي الثورة الشعبية، رغم الميليشيات الهمجية المستوردة، لن يبقى ما يمكن الاعتماد عليه لتحرك مضاد.
هذا علاوة على أن دروس ثورات الربيع العربي الأخرى ستجد مفعولها في سورية التي لم ينقطع مسار ثورتها بعد، ومع تحقيق النصر المحتم بإذن الله، ستعود لتؤثر بدورها على مستقبل بلدان الربيع العربي الأخرى في اتجاه تحرير الأوطان والشعوب وصناعة القرار.
نبيل شبيب