جيل التغيير في حاجة إلى الوعي والمعرفة، علاوة على المهارات المكتسبة عبر التأهيل للإدارة الحديثة مثلا، ولفنون التعامل مع الأزمات والمحن مثلا آخر، وللتخطيط مع الرؤية السديدة مثلا ثالثا، فجميع ذلك وما يكمله من مهارات ضروري ليتمكن جيل التغيير من العمل الهادف لتحقيق التغيير، ولكن.. ما هي المحاور الكبرى للمعرفة والأسس الكبرى للوعي المطلوبين؟
يتطلب الحديث في ذلك الاستفاضة، ويمكن الاقتصار بقصد الإيجاز على جانب واحد مثالا لسواه، وهو ما كان يشار إليه في حقبة سابقة -أو في نطاق جيل سابق- بعنوان الأصالة والمعاصرة وما شابهه من عناوين، وغالبا ما كان تفسير ذلك منصبا على عنوان المعرفة الدينية التراثية والعلوم الإنسانية الحديثة، ولكن لم نكن في هذا وذاك نحقق المطلوب لأسباب عديدة، من بينها ما يدور في نطاق محورين كبيرين:
المحور الأول:
١- المعرفة الدينية التراثية تركزت على جهود تقيدها أوضاع الأنظمة وسياساتها..
٢- خارج هذا النطاق لم تنضبط الجهود غير الرسمية إلا نادرا بضابط التوازن بين "التخصص" و"الحد الأدنى من العام المشترك"..
٣- التخصص التراثي مطلوب وفق قاعدة {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} ويمكن أن يصل بعض ذلك النفر إلى مستوى الاجتهاد والإفتاء بما يناسب معطيات ومتطلبات واحتياجات معاصرة حديثة..
٤- أما الحد الأدنى من العام المشترك، فيشمل فيما يشمل متخصصين وربما متفوقين في علوم أخرى غير التراثية، وإن غلب علينا في وصفهم فهم "متواضع" باستخدام كلمة "العامة"..
٥- المقصود بتعبير "الحد الأدنى من العام المشترك" قريب مما شاع وصفه بـ "ما يُعلم من الدين بالضرورة".
المحور الثاني:
١- الدعوة إلى العلوم الإنسانية الحديثة فقدت مفعولها نتيجة غلبة سياسات "الولاء" للأنظمة..
٢- انعكس مفعول "الولاء" على صياغة المناهج، ثم على السياسات التنفيذية عبر توظيف الكفاءات العلمية والمهارات التخصصية..
٣- وانعكست العواقب في ألوان من المظالم والفساد، وفي ظواهر بالغة الخطورة، كهجرة الأدمغة واستيراد المستشارين الأجانب..
٤- وقد سيطر هذا الخلل على المخططات وتنفيذها في مختلف الميادين..
. . .
مقابل ذلك يحتاج جيل التغيير في واقعنا المعاصر إلى "التوازن" بين جناحي المعرفة التراثية والعلوم المعاصرة.
في ميدان المعرفة التراثية:
١- نحتاج إلى "طائفة" من جيل التغيير من الشبيبة، إناثا وذكورا، يتخصصون في علوم ما نطلق عليه التراث الإسلامي عقيدة ونهجا وحضارة إنسانية، فتكون هذه الطائفة تدريجيا مرجعا لسواها، أي بمنزلة "أهل الذكر" عند الحاجة للسؤال عن التفاصيل أو المستجدات فيما يسري عليه: "إن كنتم لا تعلمون"..
٢- ونحتاج في الوقت نفسه إلى حد أدنى مشترك من المعرفة الدينية التراثية لعموم أفراد الجيل، والقاعدة في ذلك هي تحصيل القدر الكافي -وليس الأقصى- الذي يعطي الفرد من العامة القدرة على التمييز بين الصواب والخطأ بشأن ما يقول به المتخصصون من علماء شرعيين في مختلف الفروع التخصصية تحت عنوان التراث الديني عقيدة ونهجا وحضارة إنسانية.. وإن كان الفرد من العامة لا يعلم ما يكفي لتعليل قوله..
٣- إن هذا التمييز العام هو ما نستخلصه من أمثلة عديدة من سيرة الرعيل الأول، كالمجادلة، والفتاة المعترضة على تزويجها دون موافقتها، وتأبير النخل، والأعرابي الذي ميّز الخطأ في تلاوة آية قرآنية دون أن يكون حافظا للقرآن الكريم، وما شابه ذلك مما يكشف أن مستوى المعرفة الدينية لدى "العامة" لم يشمل التفاصيل بل تركز على فهم الكليات الكبرى للمبادئ وانعكاساتها الاجتماعية التطبيقية، كمبدأ العدل.
في ميدان العلوم الإنسانية الحديثة:
١- نحتاج إلى "طوائف" من جيل التغيير من غير المتخصصين "شرعيا"، يتخصص كل منها بطريقة مشابهة في علم من علوم العصر، ونجد فعلا الأطباء والمهندسين وغيرهم من ميادين علمية وتقنية، إنما نفتقر إلى ما يكفي عدديا وتفوقا نوعيا في ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تفرعت إلى حد كبير، ومن عناوينها العلوم السياسية، وعلوم الاجتماع، وعلوم الإدارة، والإحصاء، والتخطيط، والإعلام وهكذا.
٢- لا يكفي مجرد الإلمام التخصصي في كل مجال من هذه المجالات، بل نحتاج إلى التفوق والإبداع كضرورة من ضرورات النهوض والبناء.
٣- هنا لا بد من الجمع المتوازن بين جهود "دراسية جامعية" وأخرى "تأهيلية نظرية" وثالثة "تدريبية عملية"، مع مراعاة أن كل جانب علمي كان "تخصصا" بحد ذاته، فتفرّع وما يزال يتفرع حديثا إلى تخصصات متعددة.
في ميدان الوعي:
لا بد من "الوعي" باعتباره المحور الثالث أو الدعامة الثالثة مما يحتاج إليه تكوين جيل التغيير لنفسه:
١- لا يتحقق تحصيل "الوعي" من خلال دورات تثقيفية أو تعليمية تلقينية، وليس هو علما بالمعنى الاصطلاحي للكلمة، بل هو "سلوك" يستند إلى المستوى العلمي الذاتي ويتفاعل مع حوادث وتطورات ومتغيرات ومستجدات تتبدل، وهذه في حركة دائبة مستمرة، في تطور يتسارع في عالمنا المعاصر بأضعاف ما كان عليه تسارعه في عصور سابقة.
٢- لا يتحقق الوعي بالقدر الكافي -ناهيك عن الدرجة المثلى- دون تلاقي الجهود الفردية والجماعية على رفع مستواه باطراد مع مواكبة ما يتغير باستمرار على أرض الواقع، ومع تنامي القدرة للتمييز بين الصواب والخطأ في رباعية "الاستيعاب" ثم "الوعي" ثم "الموقف" ثم "التصرف" تجاه أمر من الأمور، وذلك من جانب الفرد الواحد منا، أو الجماعة التي يتحرك فريق منا في إطارها بحكم تعدد التخصصات الوظيفية.
٣- أدوات تلاقي الجهود هي التواصل والحوار، والعطاء والأخذ، والكلام والاستماع، والتصويب المتبادل، والتنسيق والتعاون، مع الحرص على مشتركات الرؤية الجماعية أكثر من الحرص على فرض الرؤية الذاتية، ويوجد المزيد من هذه المواصفات السلوكية الفردية المطلوبة من الفرد سواء كان في موقع المشاركة في عمل ما أو في موقع قيادته.
٤- هذا بالذات ما يعود بنا إلى جذور مشكلاتنا:
إن أزمتنا مع أنفسنا ومع قضايانا وعالمنا وعصرنا هي أزمة قيمية سلوكية في الدرجة الأولى، وبقدر ما نحقق من النجاح في تغيير أنفسنا على هذا الصعيد، نتمكن -المقصود: يتمكن جيل التغيير- من الشروع في المضي على طريق امتلاك زمام ما يحتاج إليه في ميدان المعرفة والوعي، وهو أساس حسن التصرف الهادف المنتج انطلاقا من قدرات وإمكانات مادية وإن كانت قليلة، وهذا -والله أعلم- بداية طريق التغيير الحقيقي وفق ما نردده من مواصفات، أي الجذري والشامل والحضاري الإنساني.. وما شابه ذلك.
نبيل شبيب