في البداية تساؤلات لمن يرى واقعنا حبيس اللحظة الراهنة:
– من كان يحسب عندما انطلقت مسيرات العودة في غزة أنها ستستمر وتتصاعد شهرا بعد شهر وربما عاما بعد عام رغم فداحة الألم والتضحيات؟
– من كان يتحسس وطأة جرائم الانقلاب الإقليمي والدولي على الثورات الشعبية العربية وكان يستشرف رغم ذلك أن الجزائر ستتبع الركب بثورتها الشعبية الكبرى من فوق ما جرى ويجري لإخمادها؟
– من كان يتابع بألم أيام العدوان الأمريكي الإجرامي ضد أفغانستان ويتصور رغم ألمه أن الدولة المتعجرفة المارقة إنسانيا ستجلس مع "طالبان" بالذات على مائدة مفاوضات مباشرة من أجل "تأمين" انسحابها من البلد الأضعف عالميا بمختلف المقاييس؟
– من كان يتوهم صدق قمة "اللاءات" الشهيرة في قمة الخرطوم العربية سنة 1967م، ثم يتخيل أن تونس ستشهد سنة 2019م قمة عربية تجمع أصحاب لاءات متعجرفة ضد تحرير إرادة الشعوب وتحرير الأرض بل وضد تحرير أعناق أنظمتهم من أغلال التبعية الذليلة للعدو الأجنبي تحت مختلف المسميات؟
إن العجز عن استشراف المستقبل لرؤية موضوعية تتجاوز آفاق الحاضر هو أخطر العقبات في وجه العمل الهادف.
وكل سؤال نطرحه عن مجرى الأحداث يشهد أن الاستغراق في التفاؤل أو في التشاؤم نتيجة تأثير اللحظة الآنية يحول دون رؤى استشرافية قويمة للمستقبل القريب والبعيد، ويؤدي إلى القعود وانتظار حصيلة عمل من ينفذ مخططاته هو لمستقبلنا وفق رؤيته الخادمة لأهدافه هو، ولطالما كان ولا يزال يدوس من أجل تحقيقها على أهدافنا ومصالحنا ولا يعبأ بقيم ومبادئ إنسانية ولا بمواثيق واتفاقات عالمية.
إن أحداث التاريخ عجلة جارية، يحركها من يعمل، ويفرض النتيجة على سواه، ويستحيل أن تتوقف عجلة التاريخ ما دار الليل والنهار، فمن يضع نفسه في قفص اللحظة الآنية شعورا وتفكيرا، مكتفيا بالاطمئنان إلى إيجابياتها أو بالغضب والنقمة على سلبياتها، يضع بنفسه أغلالا على فكره ويديه وقدميه فلا يفكر ولا يعمل ولا يتحرك.
بقينا جيلا بعد جيل نردد عن وعد آثم صدر عن "وزير خارجية بريطاني" أنه لا مشروعية لهدية آثمة يمنحها من لا يملك لمن لا يستحق.. ولا جدوى من ذلك ولو بقينا عشرات الأجيال نردده ونردد ما يشابهه هذه الأيام بصدد آثام "رئيس أمريكي" في قضية فلسطين وسواها.
وكانت المقاومة الحقيقية تعلمنا دوما أن من يريد شيئا يمكن – رغم ما نزعم عن انسداد الآفاق – أن يصنع شيئا، وسيصل أو يصل أحفاده ولو كان الثمن كبيرا.. ويقابله الثمن الأكبر عندما لا يصنع شيئا، ولا جدوى من استمرار جدال عقيم حول زيف ما سمّي زورا محور الممانعة والمقاومة بدلا من التركيز على تقويم ما نتبناه من مقاومة حقيقية مشروعة.
كذلك فقد بقينا سنة بعد سنة وعقدا بعد عقد نردد الكثير عن آثام السفاحين في سورية ومصر واليمن وليبيا والعراق إلى آخر القائمة.. ولا جدوى من ذلك ولو بقينا مزيدا من السنين نردده ونردد ما يشابهه في مسار التحرك المضاد للثورات الشعبية الأكبر منا ومن قفص اللحظة الآنية الذي نحشر أنفسنا وراء قضبانه ولا يحجب عنا ولا عن سوانا انكشاف عورات انهزاميتنا وأخطائنا.
لا جدوى من التفاؤل وحده ولا التشاؤم وحده ولا الكلام وحده.. دون متابعة مسيرة المقاومة والتحرير في قضية فلسطين وسورية وكل بقعة من بقاع الأرض الصاخبة بآهات الإنسان.
لا جدوى من تراكم مزيد من آثام من يقول في حدود قفص اللحظة الراهنة: وماذا نملك؟ وكيف نعمل؟ ومن يبادر؟ ومن يقود؟ وهو لا يتساءل بحثا عن جواب جاد يتجاوز أسلوب الجدال المحض، بل يكاد لا يطرح معظمنا مثل هذه الأسئلة إلا بصيغة استنكارية لتبرير العجز والقعود وحتى الانحراف، وتبرير ما نساهم به من قسط في واقع يقول "إن بأسنا بيننا شديد" دون خطوة عملية كافية لمواجهة نتائج شدة بأسنا على بعضنا، بالقفز حقا فوق أنانياتنا.
لن تعود فلسطين لأهلها إلا رغم الغاصبين، وليس عبر تطبيع ولا تحالف ولا حوار مع مغتصبي فلسطين في أرضها وفي واشنطون وما يتبع لها، دون التشبث بالأهداف الجليلة الأصيلة.
لن تتحرر سورية واليمن ومصر وأخواتها إلا رغم المستبدين والفراعنة والمجرمين وداعميهم، وليس عبر تفاهم ولا تواصل ولا حوار مع أي منهم، دون التشبث بالأهداف الجليلة الأصيلة.
ولن يسلك سبيل التحرير الطويل الشديد.. إلا من يرى حقيقة الحاضر بين يديه، فلا يتوقف لحظة عن العمل للتغيير، عبر التلاقي مع "الآخر" من شركائه في موقع من مواقع طريق التغيير الحقيقي، وطريق توحيد الرؤى والصفوف على "المشترك" وليس على "صواب ما أرى".
هذا بالذات ما يفرض أولا تحطيم قضبان قفص اللحظة الآنية، لرؤية معالم مخاض ما سيكون بعد حقبة الانهيار وإننا نعلم عن ذلك الكثير عبر دروس حضارية كبرى في مسارات تاريخ البشرية من قبل، وهي من مصادر استشراف آفاق المستقبل لأحفادنا.
إنها عناصر صدق المعتقد، وإخلاص النية، والإبداع في العمل.. تلك التي تجعل من في "الخندق" محاصرا، يرى أقدام جيل المستقبل في قصور قيصر وكسرى.
نبيل شبيب