بعد الانتخابات النيابية فالرئاسية في تونس، يمكن وضع عنوانين عريضين للتحليلات السياسية والإعلامية، وكذلك للمزاج العام الذي تعبر عنه تعليقات كثير من صانعي الربيع العربي من جيل المستقبل..
العنوان الأول: هنا اندلعت الثورات العربية وهنا استقرت "ديمقراطيا" دعائم عودة العهد البائد..
العنوان الثاني: هنا النقلة الأصلح بمسار التغيير عبر الثورات الشعبية من جولة أولى إلى جولة تالية..
لكل طرف أسبابه الوجيهة من وراء التشاؤم والتفاؤل، أو الإحباط والعزيمة، أو الرؤية السطحية للحدث والرؤية العميقة لطبيعته وموقعه التاريخي.
. . .
تركز مواقف التشاؤم والإحباط والرؤية السطحية على ما يراه أصحابها من سلبيات، محورها أن الثورة الشعبية لم تحقق أهدافها، والمقياس هو "السلطة"، وتميل إلى البحث عمن تحمّله المسؤولية، وأول المستهدفين هم الجهة التي تعلقت آمال جيل المستقبل بها فخيبتها بمنظور المتشائمين.. وهي في تونس حركة النهضة بشعبيتها وتوجهها الإسلامي، ومن تلاقت معه من القوى التونسية الأخرى خلال المرحلة الانتقالية، بغض النظر عن عدم "تطابق" التوجهات السياسية، وهو ما يستحيل تطابقه ولا يعتبر التطابق شرطا للتعاون.
هل أخطأت النهضة أم أصابت في عدم الاستفادة من شعبيتها التي ظهرت للعيان عقب سقوط رأس النظام السابق؟
هل أخطأت في اختيار طريق السياسة "الواقعية" وفق رؤيتها لها في حقبة "ثورية" تتطلب الحسم أكثر مما تتطلب حلولا وسطية؟
هل كانت بحد ذاتها دون مستوى حمل مسؤولية "إدارة الدولة" بعد "الثورة"، أم أنها وهي ترى بلدان الثورات الشقيقة، مصر وليبيا، أو سورية واليمن، قدرت أن الأفضل هو أسلوب اللين أو ما يوصف بانحناء الشجرة للعاصفة، حتى يضمحل مفعولها؟
ربما يجد من يطلب الصواب نصيبا من كل تعليل أعلاه، علاوة على تعليلات أخرى، ولكن لا يفيد كثيرا السؤال: لماذا لم يحصل كذا وكذا، دون أن يقترن بطرح السؤال: ما الذي يجب صنعه الآن، وعلى أي أساس، ولأي هدف؟
. . .
إذا توافرت عناصر الإخلاص، والنية الصادقة، والتطلعات المشروعة إلى "مستقبل أفضل ومستقر"، تتقلص الفجوة كثيرا بين المتشائمين والمتفائلين، أو بين من يرى في اللحظة الآنية "نهاية مسار التاريخ" ومن يرى فيها "منطلق حلقة تالية من المسار".
الثورة.. هي أول حلقة من حلقات مسار "التغيير" وليست هي "التغيير"..
الثورة.. تقلب وضعا من الأوضاع.. ولكن لا تصنع وضعا جديدا مستقرا..
ولكن:
الثورة.. تفجر طاقة كامنة.. وما يليها يوظف هذه الطاقة أو يهدرها..
لا يختلف مسار تونس عن المسارات الثورية التغييرية العربية الأخرى من حيث الجوهر، وهو ما يجمع بينها وسيجمع بين حصيلتها، ولكن توجد أيضا عناصر اختلاف تعبر عن نفسها، ترتبط باختلاف الشروط والظروف والمعطيات، بين بلد وآخر.
لا يخفى في مسار تونس تحديدا أن الوضع الراهن (ساعة كتابة هذه السطور بعد اندلاع الثورة بأربع سنوات) مختلف بواقعه ومعطياته والقوى الفاعلة فيه، عما كان من قبل.
هذا المشهد الشامل بكافة تفاصيله، وليس بأحدها دون الآخر، هو ما ينبغي أن يكون المعيار في التساؤل عن "نسبة" نجاح الثورة بوصفها الحلقة الأولى نحو التغيير، وليس عن "نجاح مطلق".
. . .
الثورة في تونس ثورة الشعب.. فالنجاح أو النصر هو للشعب كله وهو من يصنع النصر، فإن كان ضعيفا أو محدودا أو جزئيا، وجب القول إن الشعب الثائر يحتاج إلى المزيد من بذل الجهود "التغييرية" بمختلف الوسائل الممكنة، كي يكتسب النجاح أو النصر مزيدا من القوة والشمول والانتشار.
ويمكن لمن شاء أن يركز على طرف بعينه، فيتحدث عن حركة النهضة تحديدا، وهو ما يميل إليه أصحاب الاتجاه الإسلامي عموما، ولكن لا يمكن أن نتجاوز هنا أيضا القول، إن النجاح أو النصر، إذا كان ضعيفا أو محدودا آو جزئيا، فيجب صنع المزيد ليكتسب قوة وشمولا وانتشارا.
فليكن التأمل في وضع حركة النهضة مثالا.. مع الحذر من اعتباره هو "وضع الثورة".
كانت حركة النهضة بين المعتقلات والمنافي وفي خنادق الإقصاء السياسي، وخاضت -بعد اندلاع الثورة محليا- جولة أولى على أرض الوطن، وأصبحت بعد هذه الجولة، عنصرا فاعلا، لا يمكن تجاوزه إذا بقي مسار التطورات التالية سياسيا وفكريا واجتماعيا ولم يسقط في مستنقع استخدام وسائل الاستبداد والفساد والقمع والإقصاء.
ليس هذا "انتصارا كاملا" ولكنه جزئي، وهذا أيضا حال القوى الأخرى التي بقيت مهمشة أو ضعيفة أو في مواضع الإقصاء أو تحت المعاناة، لم تحقق جميع تطلعاتها، ولكن تحقق بعضها.
بالمقابل..
لا ينبغي أن نستغرب إطلاقا -ولا أن يسقط الثوار من حساباتهم- حجم الجهود المضادة وتصعيدها من جانب القوى التي كانت في مواقع الاستبداد والفساد أو تابعة لمنظومته أو داعمة له، أو عاملة ومتآمرة من خارج الحدود لبقائه.
إن مسارات التغيير فعل ورد فعل، والحصيلة بعد كل جولة هي تراكم الإنجازات أو تراكم الانتكاسات، وما نراه في تونس هو أول قسط "محدود" من الإنجازات.
. . .
من ينسحب الآن أو ينكفئ أو يتوقف عن بذل المزيد لصالح مسار التغيير يساهم في إجهاض المنجزات الأولى للثورة الشعبية في تونس.. ويسري هذا على سواها.
من يحسب أن وسائل الثورة عند اندلاعها لا ينبغي أن تتغير وتتطور وتتبدل في المرحلة التالية من مسار التغيير، يخطئ بعدم العثور على الوسيلة المناسبة لكل مرحلة واستخدامها.
من يضاعف جهوده ويطورها، ويتكامل من خلالها مع سواه على محور التغيير وليس على محور الرجوع عنه، هو من يمكن أن تعول تونس وشعبها الثائر عليه للمراحل القادمة.
لا يسري هذا على حركة النهضة فقط.. بل يسري على الجميع، ومن يحصر مستقبل تونس في مستقبل النهضة، لا يخدم تونس.. ولا شعبها.. ولا ثورتها، ولا يخدم النهضة أيضا.
هذا بالذات ما نشعر أيضا بغيابه أو تغييبه في مسار الثورات الشعبية الأخرى، بغض النظر عن اختلاف التجليات والمظاهر التطبيقية.
هل يمكن أن تعطي تونس في هذا المجال نموذجا عن "جوهر متابعة مسار التغيير"، مثلما أعطت نموذجا عن "شعبية اندلاع الثورات"؟
. . .
إن الثورات التغييرية ثورات شعبية، تنتقل ببلادنا من حقبة اللون الواحد الذي صنعته منظومة الاستبداد والفساد من أجل بقائها عبر اعتقال الإرادة الشعبية في موقع السلطة، إلى حقبة ألوان الطيف الشعبية المتعددة، التي تجعل الإرادة الشعبية هي المرجعية في صناعة القرار والطاقة لبناء المستقبل..
هذه هي النقلة التاريخية التى ينبغي أن نركز الأنظار والجهود عليها، عندما نشهد في تونس، أو أخواتها من أقطارنا، مشهدا من مشاهد "متتابعة" تاريخيا.
إما أن يكون كل فريق منا لونا من ألوان الطيف الشعبي.. أو لا يكون.
المشهد الراهن دوما مشهد محدد، له مكان زمني محدد، ومضمون موضوعي محدد.. سبقته في تونس مثالا على سواها مشاهد تلت مشهد بوعزيزي، وستليه مشاهد أخرى، وجميعها معا هو ما يصنع "مآلات الحدث"، ولن نجيب في أي مسار ثوري تغييري، أثناء "تكوين مآلات الحدث" على السؤال: أين نحن.. إجابة صحيحة، دون أن نضيف إلى السؤال: من مجموع المسار التاريخي.
إن مسار التاريخ التغييري لم يتوقف قط.. ولن يتوقف في عصر الثورات عند "مشهد تغييري واحد".
لم يتوقف عند "بوعزيزي" ولا عند "ميدان التحرير" ولا حول "المسجد العمري".. ولا في سوى ذلك من المحطات المرافقة والتالية.. ولن يتوقف عند مشاهد انتخابات في تونس.. ولا عند تحركات عسكرية وشبه عسكرية في مصر وليبيا واليمن.. ولا مع المشهد الدموي الهمجي للبراميل المتفجرة والفجور الداعشي والمكائد الدولية في سورية والعراق وحتى لبنان.
مسار التاريخ ماض على جميع الأحوال إلى المشهد التالي.. ومعالمه تتحدد من خلال من "يصل" إلى محطة ذلك المشهد.
سيان أين موقع كل فرد أو مجموعة منا، في سورية وأخواتها، لا يفيدنا ولا يفيد الثورات الشعبية وأهدافها الجليلة، ونحن نتابع ما يحدث يوما بيوم، أن نصفق أو نشتم، وأن نمدح أو نلوم.. فالسؤال الحاسم هو:
هل نكون ممن ينتقلون مع المسار التاريخي المتحرك إلى المشهد التالي؟
هل نساهم في صنعه؟
أم سيحمل عنصر التغيير الثوري في مسار التاريخ سوانا، ونبقى مع من يتركهم خلفه، لغياب نظرتهم إلى المستقبل والعمل من أجله.
في سائر الأحوال.. لا يمكن لأحد أن يتجاوز سنن التاريخ ومسار التغيير، ومن هذه السنن:
المستقبل لما يزرعه الربيع من براعم وشتلات.. المستقبل لجيل المستقبل، وليس لمن بلغوا من العمر عتيا.. وأكل الدهر عليهم وشرب.. وسيرحلون مع عصر الانحطاط، سواء وصلوا إلى السلطة كما في الجزائر وتونس وغيرهما.. أم قضوا أعمارهم أمام طواحين "دون كيشوت" الهوائية.
نبيل شبيب