(هل من فوارق بين الأوضاع العربية الحالية على خلفية ما يجري في السعودية وسواها وبين ما كانت عليه يوم نشر هذا الموضوع في ٧/ ٤/ ٢٠٠٤م؟)
بعض الدول العربية تحرّكت وتتحرّك وفق أساليب عتيقة، أكل الدهر عليها وشرب، وسعت وتسعى لوضع قضية الإصلاح تحت عنوان علاقات الأنظمة مع القوى الأجنبية، وليس تحت عنوان العلاقة مع الشعوب، فإذا تراخت القوى الأجنبية في ذكر المطالبة بالديمقراطية -وهي مطالبة مخادعة لتحقيق أغراض ذاتية- تبخّر الحديث الرسمي والإعلامي المحليّ عن ضرورة الإصلاح، وإذا ألحّت القوى الأجنبية بغرض ممارسة ضغوط ما، اتّخذت موقفا معاكسا، وصار من يطالب بالإصلاح من داخل صفوف المعارضة متهما بتبنّي المطالب الأجنبية. وبتعبير آخر، الإصلاح بمعنى اتخاذ إجراءات حقيقية من أجله، مرفوض في الحالتين، ولكن هل يمكن الاستمرار على ذلك طويلا؟
حتمية الإصلاح – التهرّب من الإصلاح – تحديد الإصلاح المطلوب
حتمية الإصلاح
لم يعد يوجد ما يستدعي تعداد الأدلّة على ما أصبح عليه حال الدول العربية منفردة ومجتمعة، وسبق أنّ شهدت أزمات شديدة، ولكنّ معظمها لا ينطبق على الحالة الراهنة، إذ كان من قبيل اختلاف ثنائي بين الدول، أو بتعبير أصحّ بين الأنظمة الحاكمة فيها، ممّا بات يمثّل -للأسف- حالة مزمنة منذ زمن بعيد، وربّما كان الجديد في هذه الحالة العربية أمرين:
أوّلهما أنّها أصبحت حالة متردّية مكشوفة أمام الشعوب، لم يعد يمكن معها التمويه على الأوضاع ببيانات وتصريحات بأيّة صياغة. وهي حالة مكشوفة أمام المسؤولين أيضا، فلم تعد تفيد المراوغات عبر وسائل الإعلام المقرّبة من الحكومات، مباشرة أو عن طريق الإيحاء، ومنها مراوغات تصوّر الوضع كأنّ "الحاشية" أو فريقا منها مسؤول عن التردّي، وليس رأس السلطة في كلّ بلد على حدة.
الأمر الثاني أنّ البند الأهمّ على جدول أعمال الحالة العربية الراهنة، أو المفترض أن يوضع فيه، قد فرض نفسه على أرض الواقع بإلحاح، وهو بند إصلاح العلاقات بين الأنظمة والشعوب من جهة والعلاقات العربية-العربية من جهة أخرى. فلم يعد خافيا أنّ استبعاد هذا الموضوع بالذات لعشرات السنين الماضية، كان من وراء تفاقم الكوارث العسكرية والسياسية، جنبا إلى جنب مع الهوّة الخطيرة القائمة ما بين ثراء مبطر وفقر مدقع، إقليميا وقطريا، دون أن يؤدّي الثراء إلى تقدّم اقتصادي قائم على الإنتاج والتصدير وليس على الاستيراد والاستهلاك، ودون أن يؤدّي الفقر المدقع إلى إزالة ظاهرة الفساد بدلا من استشرائها والتهامها لطاقات عدد من البلدان المصنّفة تحت عنوان النامية أو الفقيرة.
إنّ هذين العنصرين معا يجعلان مسألة "الإصلاح" مسألة حتمية، وليس مجرّد موضوع خيار وبحث واتفاق على حدّ أدنى وحدّ أقصى، وبالتالي فهي تحتاج إلى خطوات عملية، وليس إلى مناورات سياسية ينطلق غالبها من تقدير كل حكومة للوضع داخل بلدها، أو لوضعها في نطاق تعامل القوى الدولية مع المنطقة.
التهرّب من الإصلاح
البلدان العربية تغرق أنظمة وشعوبا، وحالة الغرق واضحة للعيان، وعند استخدام كلمة "إصلاح" المنتشرة سياسيا وإعلاميا، لا يغيب عن الأذهان أنّ المطلوب واقعيا هو "إنقاذ السلطة" وليس عملية "إصلاح" فحسب، ولكن حتى كلمة إصلاح المطروحة يجري التعامل معها من زاويتين تستدعيان التساؤل ما إذا كان التفكير يدور حول ما تعنيه الكلمة في الأصل.
الزاوية الأولى: التساؤل المتواصل هل هذا مطلب أمريكي أم مطلب عربي؟ ومن المؤلم أنّ كثيرا من المتسائلين وصل بهم عدم الثقة بالنفس أو بالأوضاع القائمة، إلى درجة التأكيد أنّ الحديث عن الإصلاح لم يكن ليدور أصلا، لولا أن طرحته الحكومة الأمريكية من منطلق تصوّراتها ومطامعها في المنطقة ودوليا، وهم يدركون –أو نحسبهم يدركون- أنّ هذا الطرح يزرع وتدا إضافيا وخطيرا بين الشعوب وبين أيّ عملية يحتمل صدورها عن الدول العربية تحت عنوان الإصلاح، وأقلّ ما في هذا الطرح المعوج أن ينتشر الاقتناع شعبيا، بأنّ الحكومات العربية لم تتأثّر بالمجازر والنكبات العسكرية والسياسية، ولم تتأثّر باليقظة الشعبية، ولكنّها تتأثّر وتتحرّك وفق التوجيهات أو التهديدات الأمريكية!
والزاوية الثانية للتعامل مع كلمة الإصلاح أنّ الحكومات العربية، سواء التي تحرّكت بتأثير مطالب أمريكية أو بتأثير مطالب شعبية وواقعية، ما تزال تبذل الجهد الأكبر في اتجاه الامتناع عن الإصلاح على نطاق سياسي واسع، والاكتفاء بعمليات تجميل موضعية، وتأخير أيّ خطوة جذرية فعّالة إلى أبعد وقت ممكن.
مرة أخرى يجب التأكيد أنّ المنطقة العربية لم تعد تقف أمام خيار يسمح لها بمثل هذا القدر من "الترف الإعلامي والسياسي" في معالجة قضية "الإصلاح" المصيرية، ناهيك عمّا يرتبط بها من قضايا كبرى.
تحديد الإصلاح المطلوب
المشكلة الأكبر التي نواجهها عربيا مشكلة الإرادة السياسية الغائبة أو المغيّبة، وضرورة استحضارها من جديد، وهذا ما يسري في مسألة "الإصلاح" وسواها.
لم يعد يمكن الاستمرار على التعامل مع مطلب من مستوى "الإصلاح" كما لو أنّه مسألة "قرار" من قرارات السياسة اليومية، نحتاج إلى صياغته في بيان ما بصورة مناسبة، ونحتاج قبل ذلك إلى "الاقتناع" بضرورة الحديث عنه أصلا، ثمّ إذا دار الحديث هبطنا به إلى مستوى مشكلات تقليدية عابرة، فجعلناه مادّة للأخذ والردّ والشدّ والجذب.
الإصلاح بمعنى وضع حدّ لمسيرة طويلة أوصلت إلى الانهيار على مختلف المستويات، يتطلّب إرادة سياسية على مستوى ما يفرضه من قرار حاسم تمتدّ أبعاده مسافة زمنية كبيرة، كما تمتدّ آثاره في مختلف الميادين.
لهذا بالذات لن يمكن الارتفاع بقضية الإصلاح إلى المستوى المطلوب ما دامت الحكومات القائمة تتعامل معه كما لو أنّه "منحة" تريد إعطاءها، إكراها تحت ضغط أمريكي، أو طوعا من قبيل المنّ على الشعوب ممّا تملكه هي من دونها!
هذه النظرة الضيّقة هي التي تجعل كلّ حكومة من الحكومات العربية تبحث عن "القدر" الذي تريد هي أن تقبل به من مشاريع الإصلاح المطروحة، ولا بدّ أن يكون مختلفا عن القدر الذي يريده سواها، فهي تربطه بنوعية ارتباطها هي بالإرادة الأمريكية، أو تربطه بمدى شعورها هي بالأمان تجاه شعوب لم تتحرّك -حتى الآن- لانتزاع حقوقها وحرياتها.
لا بدّ لاستيعاب المطلوب تحت عنوان الإصلاح، من أن ننزع عن طرح قضيّته رداء أمريكيا، فالإصلاح مطلوب مفروض سواء وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أم لم توجد، وفارق كبير بين التعامل مع الإصلاح عبر منظور أمريكي ملتصق التصاقا بمشاهد العدوان الأمريكي القديمة والحديثة، وبين وضع "العامل الأمريكي" في قضيّتنا الذاتية نحن من الإصلاح، في موضعه، فهو عامل عدواني، أو ضغوط، أو عرقلة، أو دعم، وفي سائر الأحوال عامل خارجي، أجنبي، يستحيل الاطمئنان إليه بقدر ما ندرك أنّ ولادته –كولادة كثير من المشاريع الأمريكية الأخرى سواه- كانت في رحم مطامع الهيمنة الأمريكية العالمية.
على أنّ العودة بطرح قضية الإصلاح إلى موقعها "الذاتي" الأصلي، تفرض أيضا رؤية الإصلاح الحقيقي المطلوب واقعيا للخروج من حالة الانهيار المكشوفة الراهنة، أو بتعبير آخر لن يكون الإصلاح على المستوى المطلوب، إلاّ عندما نتخلّى عن التفكير به كما لو أنّه مجرّد قرار، أو مجرّد "نتيجة" لقرار سياسي يتمّ النظر فيه وقبوله أو رفضه في مؤتمر قمّة، أو في لجنة من اللجان، أو في مشاورات سياسية ما، بدلا من استيعاب "الإصلاح" كعملية تحوّل كبرى، وحتمية تفرض نفسها ذاتيا في مجرى أحداث تاريخية، وتطوّرات جارية واسعة النطاق، وتفرض بالتالي أن تتحرّك الحكومات في الاتجاه الصحيح مع ما تتطلّبه تلك الأحداث والتطوّرات، وإلاّ فسوف تجد نفسها منفصلة كليّة عنها، وكذلك عن الشعوب، وتتحوّل حالة الانكشاف إلى حالة انهيار مطلق.
ليس الإصلاح هبة من الهبات من جانب السلطة، بل هو في وضعنا التاريخي الراهن "فرصة أخيرة" أمام السلطات.
إنّ ما ينبغي أن يفضي إليه الإصلاح في نهاية المطاف إذا تمّ التحرّك على طريقه فعلا، هو "الوضع الطبيعي" الذي يتضمّن سيادة الشعوب، وحقّ تقريرها هي في رسم معالم سياسات بلدانها هي، وحقّ اختيار من يتولى تنفيذ إرادتها هي، وحقّ توظيف ثرواتها وطاقاتها هي لتحقيق مصالحها هي، وفق مبادئ ومناهج ومخططات وأساليب وعبر أجهزة وآليات ترتضيها هي، وحقّ العمل في خدمة قضاياها المصيرية وقضايا معيشتها اليومية هي، وحق ممارسة حريّاتها على كل صعيد كما تريد هي.
هذا ممّا يجعل الإصلاح المطلوب عملية شاملة، من أجل "إنهاء أوضاع شاذة"، على صعيد التعامل بين السلطات المحلية، والسلطات والشعوب، أو بين الحكومات إقليميا، وهي أوضاع -لأنّها شاذة- لا تتوافر في ظلّها الظروف الطبيعية المطلوبة في الأصل، وأثبتت حصيلة استمرارها على مدى عقود عديدة، أنّ استمرارها لفترة أخرى من الزمن، يمكن أن يؤدّي إلى مزيد من الكوارث الكبرى.
نبيل شبيب