تحليل – المجتمع الدولي المعتقل

ليست فوضى المصطلحات مشكلة “أكاديمية” تخص الدراسات والبحوث وبطون الكتب، فما يستخدم من تلك المصطلحات على ألسنة السياسيين والمفكرين والإعلاميين يساهم بصورة مباشرة في صناعة فوضى المعرفة والتوعية، وفوضى المواقف والسياسات، ويرسخ العجز عن التحرك التغييري الواجب للخروج من حضيض خطير على أكثر من مستوى فكري وسياسي وأمني، في عالمنا وعصرنا، لا سيما في بلادنا العربية والإسلامية، التي تعايش حقبة تاريخية يصح وصفها بحقبة جولة حاسمة في معركة وجود ونهوض.

 

مجتمع دولي.. مجرم!

من مظاهر فوضى المصطلحات البالغة الخطورة ما انتشر من استخدامات لكلمات متقاربة من حيث المقصود بها، مثل المجتمع الدولي، والأسرة الدولية، والعدالة الدولية. ليس لهذه الكلمات مضمون اصطلاحي ثابت، أي لا يوجد ما يحدد المقصود بكل منها تحديدا دقيقا قائما على تعريف محكم واضح الصياغة، يتلاقى عليه أهل الاختصاص في فرع علمي، أو معظمهم، أو كثير منهم.

رغم ذلك لا ينقطع في مواقفنا وكتاباتنا الحديث عن “مجتمع دولي”، في وصف بضع دول تهيمن بالقوة على صناعة القرار الدولي. ولا يسري هذا فقط على “الأتباع” أفرادا ودولا، بل يسري أيضا على معظم الذين يكيلون “الشتائم” لذلك “المجتمع الدولي” المزعوم، إذ لا يحمل مسؤوليته تجاه ضحايا الحروب، بل يعطي الأولوية لمصالح الأقوياء ومطامعهم على حساب المستضعفين والضحايا في مختلف الميادين، بل يتحرك بإجرامه المباشر فيقتل ويعتدي ويدمر، وقليلا ما يصنع سوى ذلك.

إنه “مجتمع دولي” عدواني إجرامي استبدادي إذن!

ألا يظهر حجم الخلل في مثل هذه العبارة؟

ألا تعني كلمة المجتمع الدولي لغويا في الأصل تمثيل دول العالم مجتمعة فيما يُتخذ من قرارات وإجراءات ويُصنع من سياسات وواقع جديد على الأرض؟

كيف نتحدث إذن عن “مجتمع دولي” بمثل تلك العبارات، كما لو أننا نعيش خارج إطاره مع أكثر من عشرين دولة عربية فيها 450 مليون إنسان من البشر، أو مع أكثر من 50 دولة إسلامية فيها ما يناهز المليار وربع المليار من البشر، أو مع أكثر من 150 دولة نامية فيها ما لا يقل عن ثلثي البشرية.. أي كما لو أننا نعيش على كوكب آخر وليس على كوكب هذا المجتمع الدولي المزعوم، و/ أو كأننا لسنا من “البشر” الذين ينتمون إليه؟

 

حصيلة أخطر من تناقض الكلمات

ما يقال عن كلمة المجتمع الدولي يقال عما أصبح مرادفا لها مثل “الأسرة الدولية” بل حتى “الشرعية الدولية”، و”العدالة الدولية”.. فهل لهذا كله وجود بالمعنى الأصلي للكلمات، عندما ننظر فيما يحدث في بلادنا من أقصاها إلى أقصاها، لا سيما تلك المتعرضة لألوان من العدوان العسكري والسياسي وغيره من جانب “قوى دولية”، كما هو الحال في سورية وفلسطين والعراق وغيره!

هل يمكن أن نتحدث عما يجري الآن، بمشاركة روسية أمريكية واقعيا، ونقول هذه “عدالة” المجتمع الدولي و”شرعية” الأسرة الدولية؟

الأصح هو تسمية الأشياء بمسمياتها، في المواقف والكتابات وليس في “الإحساس” والشكاوى فحسب، فنحن في الواقع القائم وأحداثه أمام شرعة الغاب المهيمنة دوليا، ومن ذلك هيمنتها على “المجتمع الدولي” و”الأسرة الدولية” و”الشرعية الدولية” و”العدالة الدولية” فأصبح جميع ذلك من ضحاياها، كما هو الحال مع كثير من البلدان والدول “الصغيرة”.

 

كيف نتخلص من ازدواجيتنا في إدانة الازدواجية

الكلام موجه إلى “نخبنا” الفكرية والسياسية والجامعية تخصيصا.. فهم من يؤثرون سلبا علينا عند استخدام تلك العبارات في مواقفهم وكتاباتهم فيوجهون بذلك “سهامهم” إلى قلب وعينا السياسي وغير السياسي.. ثم يعجبون مما يسمونه “موات الجماهير” في التفاعل مع الأحداث!

إن ما تصنعه دول معدودة مهيمنة عبر مجلس الأمن الدولي وسواه من أجهزة عالمية، وفق ما نشأ من تركيبة دولية حافلة بالخلل وليدة ما “صنعته القوة العسكرية” في الحرب العالمية الثانية، لا يختلف في جوهره ولا في مظهره، عما تصنعه مجموعة ضباط في هيئة اصطنعها انقلاب عسكري بالقوة في دولة من الدول، فسيطرت وهي من بضعة أفراد على صناعة القرار، وإن أطلقوا على أنفسهم مجلس ثورة أو حكومة دولة أو سوى ذلك من الأوصاف.

ولكن أقلاما عتيدة ومواقف سياسية رسمية وغير رسمية عديدة، تنطلق من شبيه ذلك في حديثها عن مجلس الأمن الدولي مثلا، فتدين مواقفه تصرفا وامتناعا عن التصرف على صعيد قضايا فلسطين وأخواتها، وتصفها غالبا بالازدواجية والانحياز والغطرسة والهيمنة وغير ذلك من النعوت والأوصاف، بل تقول بوضوح إنه ينطلق من معايير القوة وجبروتها وليس من معايير الحق والعدالة والمواثيق الدولية.. ثم لا تتردّد تلك الأقلام والمواقف نفسها عن وصف ذلك كله بأنه قرارات المجتمع الدولي، ومواقف المجتمع الدولي، وسياسات المجتمع الدولي.. فكيف يراد لنا أن نفهم ونعي ونتحرك على أرض الواقع وفق تلك التناقضات؟!

إن المجتمع الدولي بما تعنيه الكلمة لغويا وما يمكن أن تعنيه اصطلاحيا بمفهوم علوم السياسة والقانون الدولي.. معطل ومعتقل.

وإن الأسرة الدولية بما تعنيه الكلمة لغويا وما يمكن أن تعنيه اصطلاحيا بمفهوم علوم السياسة والقانون الدولي.. ممزقة ومشردة.

وإن ما يصدر من قرارات وتصرفات ويصنع من سياسات ووقائع بميزان القوة ويوضع له عنوان المجتمع الدولي والأسرة الدولية والشرعية الدولية والعدالة الدولية وما شابه ذلك، لا يزيد ولا ينقص عن كونه صوراً عدوانية متعددة الأشكال، من منتجات هيمنة القوة عالميا.

 

إذا كنا ندرك ذلك، فيجب أن ندرك أيضا خطورة الانزلاق المستمر إلى وصف القوى المهيمنة في نصوص شكاوانا بما لا تستحقه من أوصاف تنسبها إلى “أسرة دولية”، فهي أوصاف لا تنطبق عليها مضمونا، ولا شكليا، ولا بما يترتب عليها من نتائج.. ولكن تترتب على كلماتنا نحن نتائج خطيرة على حسابنا نحن.

نعلم أن “الشكوى” لا تبدل الأوضاع الجائرة، ولكن يجب أن نعلم أيضا أن فوضى المصطلحات في مضامين “الشكوى” تبدل وعينا المعرفي، أي وعي الشعوب، وهي التي يُعتمد عليها، وعلى تنامي وعيها وازدياد قدراتها على التعبير عن إرادتها لصناعة التغيير على كل صعيد، بما يشمل الوضع العالمي أيضا.

الفارق كبير للغاية بين أن “نحرّض” من خلال فوضى المصطلحات على ألسنتنا وبأقلامنا “الشعوب” ضد “المجتمع الدولي.. والأسرة البشرية.. والعدالة.. والشرعية..” وما شابه ذلك، بسبب المظالم الكبرى الظاهرة للعيان في واقع بلادنا وعالمنا وعصرنا، وبين أن نحرّض الشعوب على التحرك ضد “استلاب” هذه المعاني وتزويرها وتوظيفها في خدمة قوة أقلية غاشمة مهيمنة، هي التي تدوس بعدوانيتها على مجتمع دولي يضم أكثر من ٢٠٠ دولة وليس بضع دول، وتدوس على أسرة بشرية تجمع أكثر من ٦ مليارات إنسان، وليس قلة قليلة من فئات مادية مسيطرة، وتدوس على عدالة مغيّبة في المنظومة الدولية الحالية بمجموعها، وتدوس على شرعية موجودة في أوراق المواثيق وليس في قرارات هيئات ومنظمات تنفيذية كمجلس الأمن الدولي.

يجب أن يظهر في صياغة مواقفنا السياسية وغير السياسية وكتاباتنا الفكرية والإعلامية أننا لا ندين ما يصنع مجتمع دولي مزعوم.. أو أسرة دولية موهومة.. أو شرعية دولية مرتهنة.. بل ندين ما تصنع شرعة الغاب، أي موازين هيمنة القوة فوق معايير الحق والعدل والمثل والقيم، ونريد أن تعود لهذه المعايير مكانة الهيمنة على العلاقات البشرية والدولية، لاستعادة وجود المجتمع الدولي ووجود الأسرة البشرية ووجود الشرعية القانونية الدولية.

نبيل شبيب