لا علاقة للجهل أو العجز بتعامل الدول الغربية مع إفرازات الأعاصير المضادة للثورات الشعبية في بعض البلدان كمصر وليبيا واليمن، فجرائم الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية معروفة، وليست الدول الغربية عاجزة عن فرض ما يسمونه "عقوبات" أو "مقاطعة"، على الأقل بوقف تقديم العون المباشر لأنظمة استبدادية وانقلابية، بما في ذلك تصدير السلاح لمن يستخدم السلاح داخل البلاد ضد الشعب.. كما هو الحال مثلا في التعامل الأمريكي مع الانقلابيين في مصر.
ولا جدوى من البحث عن "مبررات" تأويلية للقرار السياسي، فهو مدروس يصنعه تقدير "اعتبارات استراتيجية" أكبر من معايير المكاسب والخسائر الآنية، أما الاعتبارات الإنسانية فيتركز دورها على تبرير القرار للرأي العام وفق معطيات غربية محضة.
زيارة السيسي لألمانيا مثال نموذجي على صناعة القرار السياسي بعيدا عن مفردات الجدل الدائر في أوساط مصرية وعربية على خلفية ما شهدته وتشهده مصر بعد الانقلاب، وإذ هدأ هذا الجدل نسبيا، يدور الحديث في السطور التالية عن تلك الزيارة كمثال، من أجل استيعاب أفضل لصناعة القرار السياسي الغربي، الآن وما ينبغي انتظاره في التعامل مع ثورات أخرى في سورية وليبيا وتونس واليمن تخصيصا.
سياسة خارجية نمطية
تذكّر زيارة السيسي لبرلين يوم ٣ / ٦ / ٢٠١٥م، بمرور ٦٨ سنة على زيارة مشابهة بخطوطها العامة، شكلت في حينه مفصلا تاريخيا في الحياة السياسية الألمانية، فيوم ٢/ ٦ / ١٩٦٧م شهدت برلين الغربية مظاهرات طلابية حاشدة لمعارضة زيارة شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي لألمانيا الغربية (٢٧ / ٥ – ٤ / ٦ /١٩٦٧ م) وقد قتل في ذلك اليوم الطالب "بينو أونيزورج"، فكان مقتله برصاص أحد الشرطة الشرارة الأولى لاندلاع ما عرف بثورة الطلبة.
لم تشهد زيارة السيسي لألمانيا حركة احتجاج بحجم ما واجهته زيارة الشاه قبل ٦٨ سنة، ولا يتوقع أن تدخل التاريخ على نحو مماثل، إنما تذكّر بما يحكم السياسة الخارجية الألمانية منذ عقود.
رسميا توضع ملفات حقوق الإنسان في نطاق "الحديث الهادئ وراء الكواليس"، ويشار إلى توثيق العلاقات المصلحية الاقتصادية كوسيلة من وسائل التأثير.
لم يكن للاعتبارات الإنسانية أثر ولم يكن للمصالح الاقتصادية وزن كبير في قرار استقبال السيسي، ولهذا اكتفت المستشارة الألمانية ميركل بذكر أحكام الإعدام "الكثيرة جدا" حسب تعبيرها، ولكن لم تطرح مطالب واضحة بشأن "حقوق الإنسان والديمقراطية" عموما، بل لم تطالب في العلن حتى بوقف الأسلوب المتبع وغير المسبوق في تاريخ القضاء، ناهيك عن استئناف مسيرة الحياة الديمقراطية والانتخابات التي قطع الانقلاب العسكري مسارها المبدئي عقب إسقاط مبارك.
أين موضع "الاعتبارات الإنسانية" إذن؟
منذ زمن بعيد يمكن أن تتخذ السياسة الخارجية الألمانية قرارا كهذا رغم معارضة الرأي العام فتعلله بأن التواصل يخدم السعي لصالح حقوق الإنسان، ولكن يمكن أن تتخذ أيضا قرارا معاكسا بتجميد تبادل الزيارات مثلا مع بلد من البلدان فتعلله بسوء أوضاع حقوق الإنسان فيه.
ولا يسبب توثيق العلاقات مع نظام السيسي ما يجعل برلين تخشى على "خسارة" مصالح ما مع دول عربية أخرى مثلا، كما أن معارضة الرأي العام في قضية بعينها من قضايا السياسة الخارجية لا تبلغ مستوى التأثير الكبير على "أصوات الناخبين" داخليا، رغم توظيف الزيارة ومظاهرها الاستعراضية لأغراض داخلية في مصر مع الاستهانة المعتادة بموجة الاعتراضات والاحتجاجات الواسعة النطاق، على صعيد منظمات كبرى لحقوق الإنسان، ومن جانب أحزاب معارضة كالخضر واليسار، بل من جانب ساسة مقربين حزبيا للمستشارة الألمانية ميركل.
أما المصالح الاقتصادية الأهم عادة في موازنة الربح والخسارة، فليست كبيرة بالمنظور الألماني إلى العلاقة مع مصر، وسبق لبرلين التحول من علاقات مصلحية أكبر بكثير إلى سياسات المقاطعة والضغوط والعقوبات تجاه إيران مثلا، عندما أصبح العامل "الاستراتيجي" الأهم هو الحرص على منع صناعة سلاح نووي قد يشكل خطرا إقليميا على القوة النووية الإسرائيلية تحديدا.
أولوية مصالح إسرائيلية
قرار استقبال السيسي قرار سياسي يستند إلى موازنات استراتيجية بعيدة عن تكهناتنا حول حقوق الإنسان، وحقوق الشعوب، وما تعنيه ثورات الربيع العربي، لا سيما في مصر، بالنسبة إلى مستقبل المنطقة.
عندما نستبعد هذه التكهنات نلمس مفعول الثوابت الاستراتيجية، ومنها ما يرتبط بأهداف سياسية وأمنية مباشرة في الوقت الحاضر، كالتعامل مع موجات "الهجرة غير الشرعية" -كما توصف- عبر البحر الأبيض المتوسط إلى أوروبا، فأهم القرارات الأوروبية بصددها ما يستهدف التحرك عسكريا في المياه الإقليمية الليبية، وتعلم برلين أن السيسي -بحكم دوره فيما تواجهه ليبيا داخليا- يمكن أن يؤدي "خدمة" بالغة الأهمية للحصول على "موافقة ليبية"، حتى وإن صدرت عن حكومة لا تمثل الشرعية داخليا وفق المحكمة الدستورية.
أما في مسألة "مكافحة الإرهاب" فلوحظ "تضخيم" دور السيسي عندما ذكرت ميركل الوضع في سورية والعراق وحتى نيجيريا.. وهي تعلم أن الانقلاب العسكري في مصر لم يساهم في تهدئة الأوضاع -واستقرارها بالمعايير الغربية- لا محليا ولا إقليميا، بل يمكن القول بردود فعل على وقوع الانقلاب بعد الانتخابات في مصر، فكان ذلك لصالح تنامي حلقات الإرهاب محليا وإقليميا.
وأبعد من ذلك في نظر كثير من الناقدين للزيارة سياسيا وإعلاميا، التنويه بدور مصر كوسيط في العمل على ما يوصف بحل الدولتين في مسار قضية فلسطين والصراع الدائر، فبغض النظر عن سلبيات ذلك الدور في عهد مبارك أصبح شبه مستحيل في عهد السيسي وفق المعطيات الجديدة في التعامل مع غزة وسيناء وحماس على الأقل.
والأهم مما سبق الربط بين استقبال السيسي وتوثيق العلاقات الألمانية-الإسرائيلية في عهد ميركل لدرجة غير مسبوقة، فتثبيت حكم السيسي جزء من اقتناع ألماني-إسرائيلي مشترك بضرورة العودة في مصر إلى ما كان عليه الوضع في عهد مبارك، والجدير بالذكر هنا أن ميركل اصطحبت أكثر من نصف وزرائها بعد أسبوع واحد من اندلاع الثورة الشعبية في ميدان التحرير، للالتقاء مباشرة مع المسؤولين الإسرائيليين وتأكيد الجانب الاستراتيجي في العلاقات الثنائية، وللتصريح بأن أهم ما تراه في مجرى الأحداث في مصر هو ألا يتبدل مسار العلاقات المصرية-الإسرائيلية وفق ما كانت عليه في عهد مبارك.
باختصار:
ينبغي التخلي عن توقعات غير واقعية والانشغال بالبحث عن مبررات وهمية بشأن تعامل الغرب مع قضايا التحرر من احتلال أو استبداد، وينبغي الحرص على تقدير حقيقة الأبعاد الاستراتيجية للقرار السياسي الغربي، ليمكن بعد تشخيصه كما هو، العمل من أجل التعامل معه تعاملا واقعيا.
نبيل شبيب