تحليل – السوري.. المشرد والمنفي والمهاجر والمغترب

شتات فلسطيني منذ سبعة عقود وبدايات شتات سوري منذ خمسة عقود بل منذ موجات الهجرة من بلاد الشام وسواها إلى أصقاع الأرض كالأمريكتين، وشتات في كل مكان من مواطن أخرى، ومعايشة ذلك جميعه تفرض السؤال عن عمل هادف كي نصعد من قاع المنحدر إلى مسار النهوض، بما يشمل إعادة الأوطان إلى أهلها ومنع تكرار النكبات والمآسي بمكر عدو ظاهر أو خفي وبسبب قصور ذاتي لم يعد خفيا على أحد.

 

الإنسان فوق السياسة والهوية

لا يستقيم الحديث عن "السوري" في المهجر والمنفى دون وضعه في إطاره الأعمّ لأهلنا من "بني آدم" من أفغانستان والصومال، ومن الفيليبين والسودان، ومن فلسطين والشاشان، ومن العراق والبلقان.. وغيرهم، فجميعهم شركاء الواقع والمصير المستقبلي، ونناقض أنفسنا بعد أن تعاملنا مع كل حالة على حدة تعاملا تفتيتيا صادرا عن موبقات حقبة "غسيل الدماغ الجماعي" في تاريخنا الحديث، أي وفق قاعدة "فرّق تسُد"، وليدة حملات استعمارية، قديمة، وحديثة تنهل حتى الآن من عصارة "سايكس بيكو" في مصانع التقسيم والتجزئة والتفتيت وأنظمة متورّمة استبدادا وفسادا.

من أخطر المغالطات في الحصيلة أننا وضعنا قضية التشريد الإنسانية الكبرى المشتركة في أقفاص ضيقة بعناوين مغرية:

– منها عنوان "الحفاظ على هوية ذاتية"، وقد صنعتها ظروف تستغلّها أنظمة محلية وقوى دولية فتمزق بذريعتها علاقاتنا ومصالحنا الكبرى المشتركة شرّ تمزيق..

– ومنها عنوان "شرعية دولية" وقد أصبحت مزيفة متورّمة أشبه بالعصا الغليظة لتهديد "المتمردين" على ما تفرضه هيمنة صنعتها "شرعة الغاب" وليس ما تقرره معايير الشرعية الدولية الأصيلة.

. . .

لنتوقف موضوعيا خارج نطاق غوث مادي محدود نوعا وكما وتوقيتا، يبقي نسبة من المشردين على قيد الحياة، ولنتأمل فيما كان في عقود ماضية، وسنجد أنّ العمل وفق العناوين المذكورة وأشباهها لم يحقق هدفا كبيرا واحدا بمعيار إعادة المشردين إلى قراهم ومدنهم وأحيائهم وبيوتهم، وإعادة حقوقهم الكبرى المسلوبة ظلما وعدوانا، ومنها حرية صناعة القرار للنهوض بأنفسهم وأسرهم وشعوبهم مجددا، ولكن نشهد بالأرقام والوقائع كيف بات التشريد عبئا متوارثا من الأجداد إلى الأحفاد، جيلا بعد جيل.

كيف نعلل لأنفسنا ولأهلينا في المنافي والشتات إذن استمرار تشبثنا بصيغة عمل لا تجدي؟

ألا ينبغي تحديد جوهر القضية والعمل بموجبه دون "كليشيهات" نرددها ولا نسبر غورها ولا نستخلص دروس "التقويم والتطوير" بعد رصد مفعولها على أرض الواقع؟

 

خطوط عريضة

أولا.. المشرد إنسان مضطهد محروم من حقوقه الأصيلة وحرياته الأساسية.. وهذا فوق أي وصف فرعي آخر يشير إلى "مسقط رأسه" أو لون "وثيقة إقامة أو سفر".

ثانيا.. التشريد هو هوية المشرد الأخطر والأهم، قد فرضت بالإكراه الذي لا يزول بتعويضات ومعيشة مرفهة، فلا بديل عن انتهاء صفة "التشريد" نفسها، موطنا وجنسية وحقوقا وحرية وعدالة وكرامة وأمنا.

ثالثا.. مما يترتب على ذلك:

كل فرد يعمل منفردا أو في منظمة في أي ميدان له علاقة بالمشردين أو المهجرين أو اللاجئين ممن يعيش في الشتات والمنافي والمغتربات.. هو فرد عامل "إنسان" قبل أن يكون "موظفا أو متطوعا"، ولهذا:

– هو مؤتمن على جوهر "قضية الإنسان" فلا يساهم في تمييعها أو تغييبها وراء مهمة فرعية (وإن كانت جليلة مشرفة) باسم عمل مدني/ أهلي، أو رسمي محلي في مكان الإقامة..

– هو مؤتمن على جوهر "قضية الإنسان" فلا يشارك في اغتيالها عبر ترويض المحروم من حياته الأصلية على القبول ببديل مختزل، وإن شمل مأوى آمنا ودواء وطعاما، أي "حقوقا معيشية"، نعرفها من عالم "حقوق الحيوان" أيضا، ويجب تأمينها للإنسان أيضا، ولكن دون وضعها فوق "حقوق إنسانية" أكبر وأجل، وهي الحياة الأصلية المغتصبة ظلما وعدوانا وهذا جوهر ما يعنيه الوجود في التشريد والمنافي.

. . .

ليس تحقيق ما سبق سهلا.. فبين أيدينا إشكاليات تصنع قيودا متشابكة، مرئية وخفية، ذاتية وخارجية، وللتبسيط يمكن التنويه بمثال "التمويل وشروطه"، وهو أظهر للعيان.. ثم بمثال تفاصيل "مناهج التأهيل التقليدي" ونوعية مضامينها وغاياتها، وهذا ما لا يظهر للعيان بسهولة، ويحتاج إلى نظرة تحليلية "تفكيكية" لمكامن ارتباطه بمنظومة حضارية قائمة، نرى ميزاتها الكبرى لا سيما المادية والتقنية، وإن بقي معظمها محتكرا، ولكن نرى أيضا بالمنظور الإنساني الجامع للأسرة البشرية مساوئها الكبرى لا سيما الإنسانية والحقوقية.

 

المشردون عن سورية

نعود على ضوء ما سبق إلى حالة التشريد الأبرز من سواها حاليا وهي قضية التشريد السوري، فنجد ما يثير القلق من مفعول مباشر وغير مباشر لمقولات اجتهادية وتوجيهية انتشرت مؤخرا، وبعضها بروح أقرب للعنصرية، ومن الأمثلة دون حصر:

السوري متفوق على غيره من المشردين وقادر على التنافس مع أهل البلد المضيف..

أنت "سوري" وتلك هويتك ولا ينبغي أن تتأثر وتذوب..

أنت امرأة سورية وهذه فرصة لتستفيدي من تجربة المرأة المتحررة في الغرب..

البلد الفلاني سخيّ العطاء فاعمل للاستقرار فيه..

كثير من المشردين السوريين انشغلوا بمعيشتهم عن قضية وطنهم..

يضاف إلى ذلك ما هو إيجابي في الأصل ولكن يطرح غالبا دون رؤية شاملة للمشكلة، ومثاله:

على السوري الاستفادة من فرص التأهيل العلمي والمهني.

. . .

نحتاج لضبط المسيرة إلى "بوصلة" توجه المشردين والمنفيين والمقيمين المستقرين والمهددين بتشريد بعد تشريد، وتوجه أيضا كل من يبذل جهدا على صعيدهم وفي أوساطهم وأوساط أفواج سابقة من المشردين. وليس تحديد هذه "البوصلة" أو الآلية لرؤية مشتركة سهلا مع غياب دراسات ميدانية وتخصصية مرجوّة، إنما يحسن ذكر بعض المعالم الأساسية اجتهادا قابلا للتصحيح والتطوير:

١- حياة المشرد السوري قضية إنسانية كبرى تجمعه مع سواه من أمثاله، ومع قضايا الإنسان المستقر في موطنه أيضا، وهذا ما يسري على النساء والرجال، والناشئين والمسنين، وعلى المتخصصين والمتأهلين وغير المتأهلين.. والمطلوب هو "التكامل" أما التركيز على فئات محددة لاختلاف مواصفات ومعطيات تفصيلية، فيرتبط بمتطلبات تنظيم العمل إجرائيا فحسب.

٢- لم يحرم المشرد من "أحجار بيته" بل من "الحياة" في بيته وموطنه وبيئته.. فالقضية في جوهرها قضية إنسانية جامعة لما سواها، لا سيما الجانب المادي من "إفرازات التشريد"، أما "التشريد" فهو بحد ذاته القضية، ولا ينتهي بحل مشكلات "المعيشة" دون إزالة المسببات الأولى، على مستوى أمراضنا في الموطن الأصلي وعلى مستوى أمراض العلاقات البشرية والدولية المعقدة.

٣- إذا كانت الأولوية في أداء الواجبات تفرض اضطراريا العمل على صعيد احتياجات معيشية بمعنى "ضرورات حياة كريمة"، فلا يعفي ذلك من العمل الموازي والأهم على صعيد الضرورات الحقوقية الكبرى، من عدالة وكرامة وحرية وأمن وما يتفرع عنها.

٤- على صعيد المشرد نفسه يسري أن التواصل الإيجابي مع "الآخر" واجب وضرورة، من حيث الأساس، أي في حالة التشريد ودونها، في نطاق الانتماء الواحد، وفي الميادين العابرة للانتماءات مهما كان شأن معاييرها التعددية الذاتية.

٥- هوية المشرد لا تتحدد من خلال وثيقة رسمية، فهذه وسيلة تتطلبها احتياجات معيشية وتفرضها حقوق مشروعة، لا يُستغنى عنها ولا عن المطالبة بها، ولا توجد مشروعية لحرمان أحد منها، إنما تتحدد هوية المشرد كسواه من خلال مواصفاته "الإنسانية" وقدرته على حمل رسالته "الحضارية" الشاملة لموطنه الأصلي ولجنس الإنسان، ومحورها مقومات منظومة قيم إيجابية فاعلة في فكره وسلوكه، ومؤهلات وكفاءات فاعلة في حياته العملية، بمعايير ما يخدم أهداف النهوض الحضاري والرقي الإنساني، ولا يستثني الطموحات الذاتية المشروعة.

٦- لا نغفل في جميع ما سبق عن القيم التي تنطلق من تحقيق الأهداف الدنيوية والغايات العقدية الأخروية معا دون تناقض بينها.

نبيل شبيب