ملاحظة من الواقع..
علاوة على حاجة غوطة دمشق إلى الإغاثة، تحتاج أيضا إلى خطوات عملية تغييرية، سياسية وثورية وفكرية، ملتزمة بالثورة وقابلة للتطبيق، وهذا وذاك يمثل الواجب الأكبر بكثير من واجبنا الإضافي الذي يؤديه بعضنا أو كثير منا في العالم الافتراضي، رغم أنه لا يصل بما ينتشر فيه من تعبير صادق عن الآلام إلى مفاصل صناعة القرار لوقف النزيف ومتابعة الطريق.
ولا ينفصل وضع دمشق كما نعلم عن وضع الغوطة، وقضية معركة دمشق الحاسمة، بمنظورها الثوري التغييري تحتاج إلى رؤية شاملة وخطة مشتركة وخطوات مدروسة متكاملة وهو ما يتطلب تجاوز حدود المنطقة إلى كامل الأرض السورية ويتجاوز حدود الفصائل الثورية المحلية إلى التعاون الوثيق بين نخبة رئيسية مما لا يعد ولا يحصى من فصائل ثورية وكيانات سياسية واجتهادات فكرية.
بين جبهة الإجرام.. وجبهات الثورة
ومثال "الغوطة" غيض من فيض، نرى فيه مثلا:
أولا: إن تصعيد الإجرام الأسدي في الغوطة لا يشغل المجرمين عن العمل لاستكمال مفعوله الشيطاني بما يمارسون من إجرام في الجنوب وفي الشمال وحيثما وصلت وسائل إجرامهم، ويعتمدون في تخطيط ذلك وتنفيذه -كما نعلم- على صنّاع القرارات العسكرية الحقيقيين في طهران وموسكو، الذين يديرون "استراتيجيا" حرب الإبادة القمعية عبر صنائعهم في سورية.
ثانيا: تصعيد الإجرام الأسدي في الغوطة يرافقه ما يعمل الأسديون لتوظيفه سياسيا وإعلاميا رغم إفلاسهم السياسي والإعلامي، ويربطون بين ما يطرحونه من تضليل وبين ما يواجهونه على أرض الواقع، سواء على صعيد التعامل مع شعب سورية، بما يشمل من "يواليهم" ومن يأبى استمرار إجرامهم، أو على صعيد توظيف طرحهم لأغراض "سياسية" خارج سورية، حيثما تحركت المساعي المعروفة تحت عنوان "مفاوضات" أو عنوان "إعادة إنتاج النظام" أو عنوان "أولوية الحرب ضد الإرهاب".
بالمقابل.. أي بالمنظور الثوري:
١- لا يصح أن نفصل بين جانب وآخر من جوانب العمل المطلوب من أجل الغوطة ودمشق، ضمن رؤية شاملة لمسار الثورة التغييرية، وضمن واقع لم نرتفع بمستوانا فيه، سياسيا وإعلاميا وفكريا، إلى مستوى القدرة "معا"على التعامل مع المعطيات والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية.
٢- لا تتحقق انتصارات "ثورية مناطقية" مستدامة، بمعزل عن بعضها بعضا، فلا ينبغي التعامل مع الغوطة ودمشق بمعزل عن التعامل مع الأوضاع والإمكانات المتوافرة للتفاعل في كافة المناطق الأخرى.
٣- لا ينبغي السقوط في فصل جهود من يستطيع العمل في "الداخل" ويعمل، عن جهود من يستطيع العمل في "الخارج" ويعمل.
٤- لا ينبغي أن يتحول السياسيون والثوار والمفكرون والمغيثون والممولون إلى جبهات متعددة وهم يتحدثون جميعا عن ثورة شعبية "واحدة".
أما علمتنا جراح سنوات الثورة أنه قد أن الأوان أن نعلم.. وأن نلتزم تطبيقيا بما نعلم:
بين يدي صناعة المستقبل من هو "داخل الثورة" ومن هو "خارج الثورة"، وتتفاوت الدرجات بين محسن ومسيء من خلال عمله، ولا يصح أي تقسيم آخر في الانتساب إلى ثورة شعب سورية.. ولا يفلح عمل انفرادي تحت أي عنوان.
وهذا ما يسري على الثورات الشعبية العربية الأخرى أيضا وعلى العلاقة بين الثوار جميعا، رغم فواصل الحدود والمسافات.
هل يجب التفكير أثناء الحريق؟
الغوطة ودمشق اليوم، كالقلمون وحمص بالأمس، بل حتى كحماة وأخواتها قبل عقود، تفرض علينا منطلقات "واقعية" نلتزم بها، وأهدافا مرحلية مشتركة تجمعنا، وقواعد أساسية في "إدارة المعركة" تضبطنا، وتواصلا دائما يخدم الثورة من خلالنا، مع الاستفادة من "الهيكليات" القائمة وإخضاعها لتلك المنطلقات والأهداف والقواعد وشبكات التواصل، جميع ذلك لا يحصل -وإن بدأ قد لا ينجح- دون تفكير وتفاعل وتدبير وتواصل وتوجيه ووعي عميق.
بالمقابل:
نعلم من خلال التجربة العملية بوجود من يقول: الغوطة ودمشق في حاجة إلى "سلاح" و"غذاء" و"دواء".. وليس إلى "تنظير".
لا يغفل إلا جاهل عن ضرورة القول دوما إننا نحتاج في الغوطة ودمشق وسواهما إلى السلاح والغذاء والدواء، ويجب استمرار السعي ومضاعفته لتلبية هذه الاحتياجات المصيرية تلبية أكبر.. ولكن لا يوجد تناقض أصلا بين هذا وسواه، إنما أصبحت كلمة "كفى تنظيرا" هي الجواب الجاهز، أو "الشماعة الجاهزة" للرد على أيّ طرح لحل مشكلة، أو فكرة للخروج من أزمة، أو رؤية لجمع كلمة.. أو حتى لنصيحة في مواجهة أخطاء، هذا مع أننا أصبحنا ندور في دوامة أو متاهة لا نهاية لها، ونستشعر الألم المضاعف فيها، مرة بعد أخرى، وهو يحمل لنا عنوان الغوطة اليوم مثلما حمل عنوان باب عمرو وسواه من قبل.
الغوطة وجميع سورية، في حاجة إلى ما يسمى "تنظير".. بمعنى التفكير المنهجي الواعي من أجل التلاقي على الرؤية والأهداف وقواعد التعامل والإدارة، وكذلك لبيان الكيفية التطبيقية الممكنة للشفافية والمحاسبة، وتقويم الأخطاء والتعامل مع المتجاوزين.
نحن في حاجة أثناء الحريق، ورغم الألم من لهيب الحريق، أن نفكر كيف نواجه "الحريق الآن" وكيف نعمل لإيجاد شروط تخفف من احتمالات العجز عن مواجهة ما يشابهه من بعد، وقد بات يتكرر كثيرا، وتتكرر معه ردود أفعالنا الوقتية المتفرقة، واستهلاك إمكاناتنا المحدودة.
إننا في حاجة إلى بصيص ضوء يبين معالم المخرج مما نحن فيه، ونحن حاليا في نفق، خطير للغاية بنتائجه المحتملة، وأثمانها الباهظة، إذا طال بقاؤنا فيه، مع الامتناع عن السؤال "كيف" نخرج منه.. ناهيك عن الجواب.
بين "التنظير".. والواقع
نعلم من خلال التجربة العملية بوجود من يقول: لن نحصل على سلاح، إن انطلقنا من منطلقات أخرى غير التي سبق تثبيتها لفصيلنا، عنوانا وتطبيقا وتصريحات وممارسات.
لا بد من الكلام المباشر "نسبيا" لبيان بعض ما يفترض أن مسار الثورة قد أوضحه عبر أعوام مضت، وثبته، ولكن لا نزال كما نحن، يدفع شعبنا كما دفع من قبل الثمن مرارا وتكرارا، أضعافا مضاعفة.. ولا تزال خشيتنا مستمرة، من انقطاع تسليح وتمويل، ولا تزال شكوانا مستمرة أيضا، من "الحدود والشروط" -الكمية والنوعية- المرتبطة بالتسليح والتمويل:
١- ما هي حصيلة ما مضى؟
رغم التزام كل فصيل على حدة باتجاه وراية مما يتوافق مع اقتناع قياداته ومع الممولين وجهات سياسية إقليمية ودولية.. لم يصل قط "السلاح الحاسم" كالمضادات للطيران مثلا، ولا الغوث الحاسم حتى لمن هم في خيام التشريد خارج الحدود، ولا الدعم السياسي الحاسم، المستقل عن إرادة هيمنة دولية باتت تجمع بين "الحرب على الإرهاب" كما تراها و"الحرب على الإسلام" وإن أعطتها عناوين أخرى.
فأين نصنّف "الخشية" من انقطاع ما لا يمنع موتا وعذابا ولا يحقق نصرا ولا غوثا ولا يأتينا بتفهم وثقة؟
٢- ما هي هوية الثورة "الشعبية"؟
عدم وصول الكفاية.. رغم تلبية "شروط وإملاءات" يسري علينا جميعا.. أي أن الخلل المشهود في معادلة "كونوا كذا واصنعوا كذا.. لندعمكم" تشمل الجميع، من الجهاديين، أو السلفيين، أو "المعتدلين"، ومن يحمل أسماء "فصائل ثورية وإسلامية" أو "الجيش الحر" أو "مجالس عسكرية" أو حتى "وزارة دفاع في حكومة مؤقتة".. هذا مثلما يسري خلل المعادلة أيضا على العاملين في إغاثة معيشية وإدارة سياسية أو ما يوصف بمراكر بحوث ودراسات ووسائل إعلام وتوعية.
هل المطلوب مجرد المحافظة على "رمق حياة" لعمل العاملين وجهاد الثوار في انتظار مفعول طاحونة "الإبادة" للشعب؟
٣- ما ثمن "مراعاة" ارتباطات وشروط "المانحين!"؟
إلى جانب عدم تحصيل السلاح وسواه -بالمستوى الكافي- لا يزال كل فريق في الثورة بكل أجنحتها، يحتفظ برؤيته وتوجهه وعلاقاته الخارجية، على حساب وجود "ثورة واحدة" تجمعنا، وفعاليات ثورية تتكامل فيها الإنجازات وتحقق التعاون في مواجهة الهجمات، وقد أصبحت من كل صوب ونوع.
هل تحولت "المساعدات المدروسة" من دعم الثورة إلى تفكيك مفاصلها؟
٤- أين الخلل.. وكيف نصحح ما سببه حتى الآن؟
يجب أن تنبثق منطلقاتنا عن واقع نعيشه.. وهو سورية، كيلا نبني على سراب..
يجب أن تنبثق الأهداف من متطلبات المرحلة الثورية الآنية.. وهي حاليا إسقاط بقايا النظام وأعوانه، كيلا نتطلع إلى أوهام..
يجب أن تنبثق قواعد تعاملنا من رفض الإقصاء فيما بيننا ورفض الإملاء والاحتواء من خارج نطاقنا.. لنتقارب ونتحكم "معا" في مسار الثورة ولا يتحكم أحد به على حساب كلمة "معا" الثورية..
يجب تأجيل العمل من أجل الرؤى الذاتية المتعددة لبناء مستقبلنا، إلى ما يوصف بالمرحلة الانتقالية وما بعدها، أي إلى أن توجد شروط التنافس على الإرادة الشعبية بصددها، وليس هذا ممكنا قبل بلوغ هدف المرحلة الحالية: تحرير الإرادة الشعبية، وليس ممكنا إذا ارتهن كل فريق بإحدى الجهات خارجية على حساب الوحدة الثورية والإرادة الشعبية.
تكرار ذكر هذه البدهيات ضروري.. حتى تتحول من "أفكار" تنظيرية إلى تطبيقات عملية.
٥- من يملك مفتاح إصلاح الخلل؟
لن يصل الثوار إلى إصلاح مسار الثورة كما ينبغي دون السياسيين، ولا السياسيون دون المفكرين المنظرين، ولا هؤلاء وأولئك إلى شيء دون الثوار، ولا من هم داخل الثورة من أهل الداخل دون أهل الخارج ولا العكس..
الجميع مسؤول عن العمل لتلاقي الجميع.
من يبدأ؟..
لتتحول أولا "لغة" خطابنا في العالم الافتراضي وعالم الواقع، نحو إصلاح المسار، في مواقفنا وبياناتنا وتحليلاتنا وتعليقاتنا..
هذا ما يملكه كل منا على حدة، وهذا ما يحاسب كل فرد على مسؤوليته عنه.
من أجل سورية.. والثورة
الغوطة ودمشق في القلب من مسار الثورة، وهذا ما يفرض أكثر من سواه أن تكون معركة الغوطة ودمشق معركة الثورة.. كلها، وجميع ما سبق شرط لتحقيق ذلك، إنما لا ينفي الموقع المتميز للغوطة ودمشق، أن ما يجري في حلب أو درعا وفي إدلب أو الرقة، لا يمكن فصله أيضا عبر التعامل معه بشكل مستقل عن مسار الثورة، فكل ما يحصل في أي بقعة من بقاع سورية، وكل ما يجري في أي "فندق بخمسة نجوم" حول التعامل مع مسار الثورة، هو بمجراه ونتائجه جزء من عناصر تساهم في الوصول إلى الهدف أو عرقلته، وهذا ما يفرض العمل على الجميع في إصلاح مسار الثورة، ومن المعالم لذلك كأمثلة:
١- نشأت مبادرات عديدة لضخ دماء جديدة في عروق الثورة، ولن تصنع ذلك ما لم تتجاوز أساليب "التعدد" إلى أسلوب "التواصل وجمع الجهود".
٢- قيمة العمل الثوري التغييري في "نوعيته"، فليست "ضخامة" فريق ثوري أو سياسي أو فكري محدودة بمعيار كمي: عدد أفراده وحجم تجهيزاته، بل هي مشروطة أيضا بنوعية ما يرى ويصنع.. وكل فريق لا يعمل مع الآخر، بل يعمل على "احتواء" سواه، يزيد التشرذم تشرذما وينصب عراقيل إضافية في مسار الثورة.
٣- كل من هو مؤهل للقيادة، سواء وجد فيها أو تطلع إليها أو لم يفعل، يحمل مسؤولية أكبر من سواه، هذا عندما يدرك معيار تأهله للقيادة ويتصرف وفق ذلك: ليس "النجاح" نجاحه في توظيف إمكانات بين يديه لفرض نفسه على سواه، بل هو بظهور أهليته المرتبطة بما "يرتضيه" سواه، ويشمل ذلك أن يجتمع "معه" على شؤون القيادة -وليس وراءه- عدد كاف من أصحاب الخبرة العملية والأهلية القيادية، وقد لا تكون لقيادته قيمة، إذا كان يقود عددا كبيرا من "الإمعات"، ويستبعد من "يخشى" منافستهم في القيادة، فهو آنذاك يقود نفسه إلى "منصب ومكسب" بدلا من الانقياد إلى تغليب مصلحة الثورة ومصلحة الشعب والوطن على "ذاته"، وهذه المصلحة هي التي تفرض في الثورة وبعد الثورة "القيادة الجماعية للمؤهلات" وليس القيادة الفردية، ولم يعد يوجد في واقعنا ولا في عالمنا مكان قيادي انفرادي يشغله عالم علامة أو قائد فذّ أسطوري.
. . .
نسأل الله حسن الخاتمة.. والخروج من الدنيا الفانية برضوان رباني في جنة نعيم لا يفنى.
نبيل شبيب