لا تكتسب الثورة قيمتها الحضارية دون أن يكون التغيير المستهدف من خلالها تغييرا حضاريا، ولا يتحقق ذلك دون أن ينطوي العمل الثوري على عناصر الإخلاص والمعرفة والوعي.
لا يوجد بعد الإيمان ما يعلو على عنصر الإخلاص، في كل قضية شخصية وعامة، وكل عمل صغير وكبير، وكل قول، فما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد.
الإخلاص هو في مقدمة ما يدفع أصحاب قضية الكرامة والتحرّر من الاستبداد القمعي الهمجي، إلى التضحية بأنفسهم وما يملكون، وهم يعلمون الثمن الذي يسدّدون في هذه الحياة الدنيا، من أجل أجيال المستقبل، وسلامة الوطن، ونهضة الأمّة.. وهذا ما قدّم عليه الثوار الأبرار الأحرار الأبطال في ربيع الثورات العربية أمثلة فوق ما كان يتصوّر كثير من البشر ويتوقعونه.
وما يزال مصير هذه الثورات -رغم إخلاص المخلصين- مفتوحا على احتمالات عديدة، منها ما يعبّر عنه بعضنا بكلمة "سرقة ثمرات الثورة" و"الالتفاف على الثورة".. وما شابه ذلك.
إذا كان الإخلاص بعد الإيمان القدم التي يمشي بها الثوار إلى الجنة على طريق الشهادة.. فإنّ المعرفة هي القدم الثانية، ولا بد منهما معا على طريق طلب إحدى الحسنيين، الشهادة أو النصر.
كل إنجاز من الإنجازات الصغيرة والكبيرة يتحقق بحسب توافر القوة الدافعة إليه إخلاصا والمعرفة المنيرة للطريق إليه وفق متطلباته وشروطه العملية.
قد يكون المهندس "المثقف" المخلص الراغب في إنقاذ حياة جريح بين يديه، سببا في وفاته إن لعب دور الطبيب أو المسعف دون معرفة بما ينبغي أن يصنعه تطبيبا أو إسعافا، فالمعرفة المفروضة نسبية، يقرّرها ويحدّدها ويوجبها ذلك الإنجاز نفسه، وما يتطّلب تحقيقه على أرض الواقع، وهذا في مقدّمة ما يحتاج إليه الثوار المخلصون، في الميادين التي يتحرّك كل منهم فيها، فلا بد أن يكونوا على معرفة كافية بالمعطيات القائمة بين أيديهم، وما يحتاجون إليه ليتحقق من خلال تحركهم الهدف الذي يتطلعون إلى تحقيقه، وهم يظهرون أسمى أشكال البطولة من أجله، وتتضاعف مسؤوليتهم بصدد تلك المعرفة، بقدر ما يكون لهم من تأثير يحرّك سواهم معهم، نتيجة الثقة بهم، وبدعوتهم وقيادتهم.
ومع تأكيد حق إبداء الرأي والمشورة لا يسيء إلى العمل لتحقيق هدف المخلصين أمر قدر تحرك خبير عسكري مخلص في ميدان سياسي وخبير سياسي مخلص في ميدان عسكري، بل يتناقض الإخلاص مع مثل هذا التداخل، فالمعرفة والدراية والخبرة عناصر أساسية لصواب العمل مع تحقيق شرط الإخلاص فيه.
ولا بدّ من التنويه بهذا الصدد أنّ كثيرا ممّا يصدر عن أطراف لا تتحرّك في الميدان مباشرة، بل خارج نطاقه، سواء كانوا داخل الحدود أو خارجها، فيتخذ ما يقولون صيغة نصائح أو مطالب، دون معرفة كافية بالمعطيات الميدانية، وقد يسببون بذلك ألوانا من الرزايا عبر توجيهات ما واقتراحات ما، لا سيّما إذا كانت لهم كلمة مسموعة، نتيجة صفة سياسية يحملونها، أو مكانة عقدية وفكرية يعرفون بها، أو قدرة على صياغة كلمة يتقنونها، فيتصرّف من يثقون بهم وبإخلاصهم وفق ما يقولون.. ثم يجدون في الحصيلة غير ما يرجون.
وهنا تعظم المسؤولية بقدر ما تعنيه الكلمة من مدلول وتأثير، على الناس، وأرواحهم، وقضاياهم، لا سيما إذا كانت من مستوى ثورة.. وكرامة.. وتحرّر.. وعدالة.. ووطن.. ومستقبل، وما شابه ذلك ممّا يكثر الحديث عنه، تارة عن علم ومعرفة كافيين.. وأخرى دون ذلك.
هنا يتأكّد موضع العنصر الثالث الحاسم فيما تعنيه لفظة "الصواب" في الكلمة المعروفة لفضيل بين عياض: إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا صوابا.
إن الصواب هو ما يقوم على المعرفة والوعي معا، المعرفة بالمعلومات الصحيحة، والوعي بكيفية التعامل معها، فكأنّ المعلومات أحجارا مناسبة.. وكافية لتشييد بناء متين، ولا يتحقق تشييده دون الوعي بكيفية وضع كل حجر في موقعه، وتقدير تأثيره على سواه في هيكل البناء المطلوب.
إن انتصار الثورة التغييرية رهن بعد صدق الإيمان بما يتوافر من إخلاص ومعرفة ووعي، ولا ريب في وجود مزيد من العناصر لتحقيق هدف جليل، كاقتلاع الاستبداد من جذوره وضمان سلامة ما يقوم على أنقاضه ويحول دون تكراره بصورة أخرى.
من ذلك الصبر والمصابرة، إنّما يكون ذلك من حصيلة الإخلاص وما يصنعه من طاقة جبّارة في الصدور التي تتحدّى الطغيان.
من ذلك الإصرار والمثابرة والسداد، عبر تسديد الضربات وتكاملها مرحلة بعد مرحلة، إنّما يكون ذلك من حصيلة المعرفة بطريق الثورة التغييرية ومتطلباته، وطاقات الثوار والإمكانات الشعبية التي يعتمدون عليها.
من ذلك الحكمة والحنكة والدراية والتجربة وما ينبثق عنها جميعا من مواقف وسياسات وتصرفات، لمضاعفة الأنصار وتحييد الخصوم وإكراه الاستبداد المستهدف على التراجع حتى يسقط راغما، إنّما يكون ذلك من حصيلة الوعي.
ولا يزال مسار الثورات الشعبية التغييرية يشهد على أنّ الشعوب الثائرة، تقوّض رغم المحن ما كان يُنشر عنها من مقولات تستهين بقدرتها على صناعة التغيير الجذري التاريخي، فيقال إنها "فاجأت" العالم بذلك، وما فاجأت إلاّ من كان يروّج لتلك المقولات يأسا وتيئيسا..
وإنّنا لنشهد باستمرار من جيل التغيير عطاء لا ينضب، من معين الإخلاص والمعرفة والوعي، وهذا ما صنع به بطولاته مع تضحيات جسيمة، وسيحقق به إنجازاته رغم ما يواجهه من قمع همجي داخلي، وإجرام خارجي، وسيمضي بإذن الله وعونه، على طريق التغيير.. فلا عودة قيد أنملة عن الهدف الذي انطلقت الثورات لتحقيقه: إسقاط الاستبداد بقضّه وقضيضه، ودناءة جرائمه وهمجيته، وبنيته القمعية برؤوسه وفروعه، لإنجاز التغيير الجذري التاريخي، في واقع المنطقة وواقع العالم المعاصر، وتشييد صرح حضاري مشرق، الإيمان وقوده، والإنسان محوره، والإنجاز بعد الإنجاز رسالته للأمة وللأسرة البشرية جمعاء.
نبيل شبيب