تحليل – استهداف الإرادة الشعبية

عمّ نشر الإحساس بالقنوط والعمل لكسر الإرادة الشعبية على امتداد المنطقة العربية والإسلامية، وصحيح ما يقال عن استحالة ذلك، ولكن يأتي "المستحيل" عبر تحويل الإرادة الشعبية من قوّة كامنة تعبّر عن نفسها بالآلام على المستوى الفردي، إلى إرادة فاعلة محرّكة تصنع الحدث، لتكتب بالتالي التاريخ، عبر جهد متواصل مرحلة بعد مرحلة للحفاظ على الثوابت الأصيلة وتحقيق الأهداف العزيزة.

 

الاطمئنان الخادع

من يتأمّل فيما تعبّر عنه الأصوات الغاضبة على المستوى الشعبي أثناء متابعة مجرى الأحداث الدامية، يدرك أنّ أسباب الغضب والألم تشمل ما يصنعه رصد مواقف الذلّ المتجلّية في إدانات كلامية أحيانا، وسياسات عشوائية استسلامية غالبا، على مستوى أولئك الذين يتصدّرون كراسي الزعامة الشكلية، وهم لا يعطون الزعامة حقّها على مختلف المستويات.

وكثير من التساؤلات يصدر عمّن ينبغي في الأصل أن تصدر الأجوبة عنهم، فهم من يصفون أنفسهم بالنخب، وهم من يعتبرون دور النخب أشبه بدور الخطّ الدفاعي في أيّ أمّة من الأمم، وإلاّ فمن أين تأتي الأجوبة إذن؟ ومن يتولّى مهمّة تحويل الغضب إلى قوّة محرّكة، وترشيد تلك القوّة لتحقق الغرض المطلوب دون أن تنزلق التطوّرات باتجاه حروب أهلية أو صدامات دموية؟

قد يكون لدى الأنظمة القائمة بعض الاطمئنان المخادع، استنادا إلى تجاربها العديدة على المستوى "القمعي" وهي تحوّل المظاهرات في الجامعات والمساجد، إلى صياح بين جدرانها تحاصره المدرّعات والآليات والشرطة المجهّزة بخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والرشاشات، أو كأنّها تصدّق ما تردّده وسائل الإعلام الخاضعة لها، وألسنة المنتفعين من خلالها، أنّ الشعوب مستسلمة للمهرجانات وفنونها وسوى ذلك من وسائل متّبعة منذ عشرات السنين، للفصل ما بين الشعوب والأحداث المأساوية على مستوى قضاياها المصيرية.

إنّ "انفجار الغضب الشعبي" يكتسب هذه التسمية فيما شهده التاريخ من أحداث، لأنّه يأتي مفاجئا دون سابق إنذار، ويجرف ما في طريقه بسبب الحيلولة من قبل دون القيادات المخلصة الواعية ودون الشعوب، ولئن كانت توجد مؤشّرات له فجميع هذه المؤشرات ظهرت للعيان فيما تشهده بلادنا في الوقت الحاضر (أول ما نشر المقال في ٢٠٠٤م).

المرحلة الراهنة تتميّز أوّل ما تتميّز في اتّباع وسائل العدوان الدموي العلني من جهة، واستعراض العجز الرسمي المخزي من جهة أخرى، لقتل الإرادة الشعبية، والحيلولة بذلك دون وقوع انفجار شعبي، لا يجهل من يراقبون الأوضاع في بلادنا، من خارج حدودها وداخل حدودها، أنّه واقع لا محالة، آجلا أو عاجلا.

ليست المعادلة الحقيقية التي يتحدّثون عنها معادلة العنف والعنف المضادّ، إنّما هي معادلة عنف إجرامي إرهابي يولّد مقاومة شعبية تتنامى وتزداد قدرة وخبرة، ويزداد تعداد من يبرز من داخل صفوفها ليتولّى دور القيادة، ويضاعف إمكاناتها في طريق تحقيق أهدافها.

 

تجاوز "النخب"

في التاريخ الإسلامي صور لا نحتاج إلى التفصيل في الاستشهاد بها، إنّما لا ينبغي تغييبها عن الأذهان في هذه المرحلة بالذات، فغزوة الخندق، لم تكن ذروة "حصار" القلّة المؤمنة الأولى، بل كانت الباب إلى فتح مكّة وما بعدها، وغزوة مؤتة لم تكن "النهاية" في مواجهة الدولتين الكبريين آنذاك، بل كانت بداية الطريق إلى اليرموك والقادسية، ومن عايش اجتياح المغول للمنطقة، لم يكن يتصوّر "لحظة الاجتياح" أنّ بداية نهاية المغول ستكون في عين جالوت، ومن بكى على دماء المسلمين في الأقصى إبّان الغزو الصلبيبي، لم يكن قادرا على التنبّؤ بحطين وتحرير القدس من بعد..

إنّما يبقى القاسم المشترك بين جميع ذلك، هو "الإرادة مع العقيدة" فبقاؤها حيّة في جيل الصحابة في مؤتة، أتى بالحصيلة قبل أن يرحل جيل الصحابة، ومواتها في مطلع الحروب الصليبية، أخّر التحرير لعدّة أجيال، وعند مقارنة الإمكانات ما بين هاتين الحقبتين من التاريخ، ندرك أنّ "صناعة الإمكانات" ترتبط بالإرادة أيضا، فالفارق الضخم بين إمكانات المسلمين من جهة والروم والفرس من جهة أخرى، أيام غزوة مؤتة، كان أكبر بكثير من فارق الإمكانات بين جيوش المغول والصليبيين، وجيوش الدول الإسلامية التي كانت قائمة آنذاك.

في حسم القضايا المصيرية، لا يلعب فارق الإمكانات -وحده- الدور الرئيسي، إنّما تلعب الدور الأكبر على الدوام، مواصفات الإنسان الذي يتصدّى لأداء مهمّة التحرير، وكيف يجري توظيف الإمكانات القليلة لتحقيق أهداف كبيرة.

وذاك ما لا ينبغي أن يبقى غائبا عن "النخب" التي تتطلّع إلى قيادة الشعوب على الطريق الصحيح، وهو ما يستحيل تحقيقه ما دامت تعيش على ما كانت عليه في العقود الماضية، سواء من حيث التعصّب الأعمى للتصوّرات المتباينة والتنظيمات التقليدية، أو من حيث ترهّل القيادات، أو من حيث التحرّك بردود الأفعال من دون التخطيط والتنظيم والتنسيق والتعاون.

الإرادة الشعبية لا تنكسر، هذا ما يسري على الشعوب عامّة ويسري على الشعوب العربية والإسلامية، ولئن كانت أدوات حصارها وكبتها في الوقت الحاضر تبدو تحت وقع المآسي وأحداثها، وكأنّها قد حقّقت الغرض منها، فإنّ التأمّل في بعض مظاهر التعبير عن الإرادة الشعبية بمعزل عن توجيه الحكومات والمعارضة والنخب -إلاّ ما رحم ربّي- يؤكّد أنّ إرهاصات التغيير الكبير قد بدأت، ونرصد في هذا المجال أنّ القسط الأكبر من التحرّك في الجامعات التي يتحرّك طلابها، أصبح وليد جهودهم هم، وليس وليد جهود خارجة عن إطارهم، كذلك فالقسط الأعظم من ظاهرة انتشار الإقبال على المساجد أو الإقبال على الحجاب أو ظهور المرأة المسلمة في ميادين كانت محرومة منها من قبل، لم تعد ظاهرة من صنع حركة من الحركات أو تنظيم من التنظيمات، بل باتت في كثير من المواقع تتجاوز بحجمها وفعّاليتها قدرات ما يوجد من حركات وتنظيمات.

والأمل كبير في أن يسفر هذا المخاض عن حركة واعية، منظّمة، قادرة على تحقيق الإنجازات الكبرى المطلوبة منها، وهو أمل قائم على رصد مستوى الوعي داخل إرهاصات التغيير الجاري، وليس -للأسف- داخل نطاق من يُفترض بهم من مواقعهم في السلطة، أو مواقعهم في "النخبة"، أن يكونوا على مستوى استشراف المستقبل، وإدرات تبعات المسؤولية الملقاة -حتى الآن- على عاتقهم، ليعملوا على النهوض بها، بدلا من انتظار انتزاعها منهم انتزاعا.

نبيل شبيب