للأزمة التركية-الأوروبية جذور أعمق تاريخيا ومضمونا مما تذكره تعليلات منع مسؤولين سياسيين من تركيا من الخطابة أمام تجمعات "مواطنين أتراك / أوروبيين" في بلدان أوروبية، ويشير إلى ذلك مسلسل حملات سياسية وإعلامية متعاقبة منذ سنوات، وتستهدف النهج السياسي المتبع في تركيا، داخليا وإقليميا، أما تعليل إجراءات الحظر الأخيرة بأسباب قانونية أو دستورية فهو سلاح ذو حدين، وتكشف الأجهزة القضائية ضعفه بغض النظر عن الموقف السياسي والثقافي من تركيا، كما تتضاءل أهمية الأهداف "المعلنة" من الحظر في نظر من يخشون أن يصبح سابقةً قانونية تُعتمد لأغراض سياسية في التضييق على الحقوق والحريات العامة، وفي مقدمتها حرية التعبير وحق التجمع والتظاهر.. هذا علاوة على ارتباط تصعيد الأزمة بأجواء الانتخابات في عدة دول أوروبية، وشعبوية أطروحات اليمين المتطرف على خلفية أزمات أوروبية متعاقبة منذ سنوات.
جوهر الأبعاد القانونية
بمعزل عن العوامل السياسية، وهي كثيرة، يظهر محددان رئيسيان للأرضية القانونية والدستورية للتعامل مع كلمات ساسة أتراك تلقى في بلد أوروبي بهدف الترويج للتصويت في انتخابات أو استفتاءات في تركيا. المحدد الأول هو أحد الأعمدة الأساسية لمنظومة القيم الحقوقية، أي حق التعبير والتجمع والتظاهر، والمحدد الثاني هو إمكانات التصرف المحدودة أو مجال الحركة المحدد دستوريا لتتخذ حكومة مركزية أوروبية قرارا بحظر دخول البلاد على شخص أجنبي لدواع أمنية عليا أو دواع سياسية.
لا يوجد مانع قانوني أو دستوري في معظم الدول الأوروبية يمكن الاستناد إليه في إجراءات الحظر المتخذة عام ٢٠١٧م تجاه المسؤولين الأتراك، ويشير إلى ذلك عدم اتخاذ إجراءات مشابهة في عامي الانتخابات التركية ٢٠٠٨ و٢٠١٤ لمنع ساسة أتراك بمن فيهم رجب الطيب إردوجان من زيارة بلدان أوروبية وإلقاء كلماتهم في تجمعات حاشدة، تشمل مقيمين بجواز سفر تركي، أو حملة الجنسيتين التركية الأصلية وجنسية بلد الإقامة الأوروبي، وساهمت تلك الكلمات في دعم مرشحي حزب العدالة والتنمية، حتى بلغت معدلات التأييد حوالي ٦٠ في المائة في المغترب الأوروبي مقابل ما يناهز ٥٠ في المائة في تركيا نفسها، وكثيرا ما اقترنت تلك الزيارات بمحادثات رسمية مع المسؤولين الأوروبيين.
ويتبين ضعف الأرضية القانونية / الدستورية للأزمة عبر مثال من ألمانيا، علما بتقارب ما يسري عليها وعلى البلدان الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
في تموز/ يوليو عام ٢٠١٦ منعت السلطات المحلية (في مدينة كولونيا بألمانيا) إنشاء اتصال شبكي مع نصب شاشة عملاقة ليلقي إردوجان كلمته عبرها، وصادقت المحكمة الإدارية المحلية على سلامة هذا القرار، ورفضت المحكمة الدستورية العليا اعتراضا تركيّاً على الحكم، ولكن التعليل في حيثيات الحكم يكشف الطابع القانوني للإشكالية، وهو أن المسؤولية عن ضمان حق التعبير والتجمع والتظاهر دستوريا تشمل المواطنين والمقيمين داخل الحدود، ولا تشمل بصورة مماثلة لطرف أجنبي، فكان الخطأ في تعليل الاعتراض من الجانب التركي، إذ ركّز على "انتهاك حرية التعبير" للخطيب الضيف، ولم يركز على أن الحكم القضائي بمنع "الشاشة العملاقة" آنذاك قد انتهك من حيث الأساس حقوقا أساسية على المواطنين والمقيمين.
من جهة أخرى أظهرت الحيثيات نفسها أن المحكمة العليا تجنبت تبنّي التعليل الذي ذكرته السلطات المحلية (رئاسة الشرطة في مدينة كولونيا) لحظر كلمة إردوجان عبر الشاشة العملاقة وهو "الخشية من خطر يهدد الأمن العام" ومن "خطاب تحريضي يسبب نشوب اعتداءات ما"، ويرى خبير القانون العام، بروفيسور نيلس بيترسن، أن هذا التعليل لا يصمد قضائيا، إذ يقوم على تكهنات وليس على أدلة قابلة لاعتماد القضاء عليها، ومن ذلك مثلا أن يدعو "الخطيب"، أجنبيا كان أم لم يكن، إلى استخدام العنف، وهو ما لم يحدث سابقا ولم يكن متوقعا من الساسة الأتراك بطبيعة الحال، هذا علاوة على أن تلك الفترة شهدت في كولونيا نفسها تجمعات مؤيدة وأخرى مضادة للسياسة التركية دون أن تنشب حوادث عنف تهدد سلامة الأمن العام.
ملابسات حظر سياسي دون رداء قانوني
بغض النظر عن الخلفيات السياسية للتعامل الأوروبي مع تركيا في الوقت الحاضر، يدرك المسؤولون أن التحرك "قانونيا" لا يقوم على أرضية مستقرة، ولا يكفي مجرد النأي بالنفس سياسيا على مستوى بعض الحكومات المركزية -كما في ألمانيا- إزاء إجراءات السلطات المحلية، فمثل هذه الإجراءات لا تتخذ محليا دون ما يوصف بالضوء الأخضر سياسيا، يضاف إلى ذلك ضعف التعليلات بحد ذاتها إلى درجة بعيدة، كالتعليل القائل (في هامبورج مؤخرا) بعدم إمكانية تأمين "مواقف السيارات بالعدد الكافي".
وتواجه السلطات قانونيا مشكلة حضور الساسة الأتراك بصفتهم الشخصية عير الرسمية غالبا، ويحق لأي تجمع قانوني داخل الحدود أن يستضيف شخصيات من بلدان أجنبية، فلا يبقى من سبيل لمنع "الكلمات الخطابية" سوى منع دخوله عبر الحدود أصلا، وهذا ما يعيد السلطة الحكومية المركزية إلى الواجهة، وهو بالذات ما فعلته السلطات الهولندية بدوافع سياسية على صلة بحرصها على الظهور في موضع "القوة" نظرا إلى أجواء الانتخابات العامة يوم ١٥/ ٣/ ٢٠١٧م، فكان حظرها لأكثر من وزير تركي من الدخول أو من الوصول إلى مكان التجمع التركي كما كان مع وزيرة شؤون المرأة، مخاطرة سياسية أكثر منها قانونية، فمن حق الدولة أن تمنع شخصا أجنبيا من دخول البلاد، ولكن لا تستطيع في هذه الحالة مواراة الدافع السياسي، ووجه المخاطرة هو توقع ردود أفعال أنقرة بعد أن وصل حجم العلاقات التجارية بين البلدين إلى ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل سنتين، فضلا عن التوتر المنتظر مع المسلمين داخل هولندا نفسها (أكثر من ٥ في المائة) ومنهم الأتراك ويناهز تعدادهم نصف مليون من أصل ١٧ مليون نسمة.
هذه التوقعات تسري أيضا على إمكانية استخدام الثغرة القانونية الأخيرة لدى الحكومات الأوروبية، وهي القبول باستقبال مسؤولين من تركيا في زيارة رسمية، مع حظر إلقاء كلمات سياسية في تجمعات تركية، فردود الفعل على إجراء من هذا القبيل لا تقف عند "الشكليات"، أي لا قيمة للتمييز شكليا بين الحضور رسميا أو الحضور بصفة شخصية. ولا يتقبل الخبراء الدستوريون اعتماد الحكومات المركزية على نصوص دستورية بقيت صياغتها فضفاضة عمدا (مثل المادة ٣٢ من الدستور الألماني) ليبقى مجال حرية كاف للتصرف السياسي تجاه دولة أجنبية عند الضرورة، فليس المقصود دستوريا استغلال ذلك بصورة تمس بالحقوق والحريات داخليا كما هو الحال مع حريات التعبير والتجمع والتظاهر.
جولة خاسرة أوروبيا
الأحزاب المعارضة، لا سيما اليمينية المتشددة، المعروفة بمواقفها السلبية من عضوية بلدانها في "الاتحاد الأوروبي" من حيث الأساس، تناقض نفسها وتطالب بموقف أوروبي موحد في التعامل مع تركيا، إنما تدرك أن ما لا يسهل تمريره قانونيا على مستوى الدول لا يسهل تمريره على مستوى أوروبي مشترك، فالقوانين الأوروبية المشتركة الملزمة لا تختلف من حيث الحقوق والحريات اختلافا كبيرا عما يسري محليا في كل دولة على حدة، مع بقاء ثغرة اختلاف التطبيق ضمن مجال الحركة المتوافر سياسيا، ولا يوجد في الأفق مؤشر لاتخاذ الدول الأوروبية في حقبة الأزمات الحالية، خطوة جادة لتوحيد مواقفها سياسيا وبالتالي التوصل إلى صيغة قانونية تضيق المجال على كلمات السياسيين من الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
سيان كيف نقلّب البعد القانوني والدستوري للأزمة الحالية بين تركيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي، فهي لا تخرج عن كونها أزمة سياسية بدوافع إثارتها وبمسارها. وفي وقت متأخر نسبيا بدأت تظهر أصوات إعلامية وسياسية تشير إلى أن إجراءات المنع والحظر تسبب نقيض ما استهدفته، وأنها تضاعف التأييد الشعبي داخل تركيا وخارجها لصالح التعديلات الدستورية نحو "نظام رئاسي"، وصحيح أن الأوروبيين يفسرون ذلك التأييد بمفعول "الخطاب الشعبوي" من جانب إردوجان وأنصاره، إنما يشهد الواقع بالمقابل الإصرار على خطاب تشكيكي تصعيدي في أوروبا تجاه تركيا في نطاق "جولات سياسية" متعاقبة منذ سنوات، ومن مظاهر هذه الجولات "شخصنة" الخلاف مع السياسة التركية بالحديث عن "تطلع إردوجان للسيطرة"، و"شعبوية إردوجان"، و"ملاحقة خصوم إردوجان" في تركيا، بل وصل ذلك في نطاق الأزمة الحالية إلى استخدام تعبير "وزير إردوجان" بديلا عن الصفة الرسمية لوزير العدل "التركي" أو وزير الخارجية "التركي" وغيرهما.
رغم ذلك يبقى التردد عن مزيد من تصعيد المواجهات هو سيد الموقف، ومن أسبابه الحاسمة مرحلة الضعف الحالية في مسيرة الاتحاد الأوروبي، فتصعيد الأزمة مع تركيا يعني إضافة المزيد من الأزمات بعد اليونان واليورو والعلاقات مع روسيا بسبب أوكرانيا، ثم أعباء تيارات اللجوء وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ومعالم التوتر المتزايدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وازدياد انتشار التطرف اليميني، وجميع ذلك دون ظهور مؤشرات لتحرك أوروبي مضاد وفعّال، مع اقتراب الذكرى السنوية الستين لمعاهدات روما التأسيسية لتلك المسيرة، في ٢٥/ ٣/ ١٩٥٧.
نبيل شبيب