قبل استفتاء إقليم كردستان العراق بعشرة أعوام تماما صدر في مجلس الشيوخ الأمريكي قرار يدعو إلى تقسيم العراق، فراوغ الرئيس الأمريكي بوش الابن آنذاك بأن القرار غير ملزم، وتلقفت ذلك بعض الجهات السياسية والإعلامية في بلادنا في محاولة ساذجة لتبرير استمرار التعامل التبعي مع "العدو" الأمريكي.. وللفت الأنظار عن أن مغزى مقولته لا يعدو حدود عدم التحرك الأمريكي المباشر لتنفيذ ما مهّدت له السياسات والممارسات الأمريكية بتوجيهه وتوجيه أسلافه عمدا، أما العمل الأخير التنفيذي -وهو من "المهام القذرة"- فيُترك لأتباع مناسبين ذاتيا لتلك المهام، ولكن تلك السياسات والممارسات الأمريكية "القذرة" أيضا هي التي مكّنتهم من السيطرة على صناعة القرار المحلي وفرضه بالإكراه.
منطلقات التمهيد للتقسيم
قرار تقسيم العراق قائم من البداية، ليس من جانب بوش الابن أو مجلس الشيوخ، وليس من جانب غالبية المحافظين أو غالبية الديمقراطيين، بل هو قرار آليات صناعة القرار الأمريكي، عبر مراكز القوى الثابتة نسبيا، بغض النظر عن تقلّب البنية الهيكلية لأجهزة الحكم، التشريعية والتنفيذية، ففي السياسات الخارجية جلّ ما يصنعه تبدّل التشكيلة الحاكمة عبر الانتخابات الرئاسية والنيابية، هو بعض التوجهات العامة والشعارات ثم أساليب التنفيذ ووسائله.
لا مبالغة في القول إنّ قرار التقسيم قائم من عهد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب على الأقل، وبدا كما لو أن عهد كلينتون أخّره على مدى ثماني سنوات، والواقع أنه لم يصنع شيئا مضادّا لما صنعته المرحلة التمهيدية الأولى في عهد سلفه حربا، بل على النقيض من ذلك، رسّخ ما تحقق قبله من خلال المرحلة التمهيدية الثانية في عهده، أي من خلال الحصار الإجرامي وما كان يسمّى تقسيم "المجال الجوي" للعراق، ليمكن إيجاد معطيات أخرى على أرض العراق نفسه، ثم رسّخ بوش الابن مسيرة التمهيد للتقسيم هذه عبر زرع بذور قواسم مشتركة للتماهي مع مشروع الهيمنة الإيراني كما كان في أفغانستان والعراق، تثبيتا لولادة محاور ظهرت معالمها مع نهاية عهده.
لقد بدأت معطيات القرار الأوّل للتقسيم مع نهاية الحرب الإيرانية العراقية، أي فور نهاية مهمّة "تحجيم المشروع الإيراني الوليد"، وكانت هذه المهمة مطلوبة من العراق في عهد صدام، وقد أصبح العراق بلدا قويّا عسكريا رغم الاستبداد، ومتقدّما على أكثر من صعيد علمي وتقني وصناعي وزراعي، بعد أن عبّأت الحرب الطاقات الشعبية وخففت قبضة الاستبداد الداخلي، حتى إذا انتهت المهمة تبدل المطلوب أمريكيا للعراق ومن العراق.. ولا علاقة لذلك باتجاه نظام الحكم، ولا بانتهاك حقوق الإنسان والأقليات أو صيانتها، بل ولا حتى مدى الارتباط التبعي أو غيابه تجاه الغرب وزعاماته.
السؤال الأهمّ من جميع ذلك:
هل ينسجم وضع عراق صدام، المتقدّم بقوته الذاتية وبدعم الغرب وأتباعه له أثناء الحرب مع إيران، مع المشروع الصهيوأمريكي إقليميا أم لا ينسجم؟
والسؤال الثاني:
أصبح متوقعا أن يشتدّ عود إيران بعد تلك الحرب وعبر معاودة السعي الأمريكي لدعم حلفاء إيران في العراق، وبالتالي ألا ينبغي من المنظور الأمريكي زرع مشكلات أخرى في وجه مشروع الهيمنة الإيراني الإقليمي لصالح مشروع الهيمنة الصهيوأمريكي؟
هذا بالذات ما بدأ يحصد الأمريكيون حصيلته في عهد أوباما وخلفه ترامب، ضمن معادلة استخدام مشروع الهيمنة الإيرانية إقليميا لتعطيل إرادة تحرر الشعوب ومن خلال ذلك تحرير الأنظمة أو ظهور غيرها، وبين وضع حدود لذلك المشروع بحيث لا يتفاقم خطره على المشروع الصهيوأمريكي المنافس له إقليميا.
تزييف مشروعية التقسيم
لقد كان زرع البذور الأولى للتقسيم في المرحلة الحربية التمهيدية الأولى، ولكن لم يكن ممكنا أن يؤدي إسقاط نظام صدام آنذاك تلقائيا إلى تقسيم العراق، ولا حتى للقضاء على أسباب قوّته على الأصعدة العلمية والتقنية والصناعية والزراعية، فامتدت الفترة التمهيدية الثانية بضع عشرة سنة، حصارا وحظرا جويا، وهنا أيضا بمشاركة دولية معادية وإقليمية متواطئة.
بذلك أصبح العراق داخليا في وضع يسمح بالانتقال إلى الخطوة التمهيدية الثالثة نحو قرار التقسيم، في عهد بوش الابن، بمشاركة محلية داخل حدوده من خلال من تمّ تجنيدهم للدخول إلى العاصمة العراقية على ظهر دبابات الاحتلال، وبمشاركة إقليمية من خلال تحويل سياسات بعض دول المنطقة من محور قضية فلسطين المركزية المصيرية، إلى محاور بذور مواجهات عدائية كانت خامدة نسبيا، فتجدد إشعال أوارها تدريجيا في عهد بوش الابن، ليشتد النزاع الطائفي بين شيعة وسنة، أو إيران والمنطقة العربية، وليشتد النزاع القومي بين أكراد وعرب إضافة إلى تغذيته بين أكراد وأتراك.. وليبدأ نشر الفوضى الهدامة بديلا عن التطلّع الشعبي إلى تحقيق هدف السيادة الكريم وهدف التحرر الكريم أيضا، وهو ما انعكس في الانتفاضات على جبهة قضية فلسطين المصيرية، كما انعكس من بعد على جبهة ثورات شعبية لإسقاط الاستبداد.
إن سياسة الاحتلال في عهد بوش الابن كانت من اللحظة الأولى وبتنفيذ مباشر من جانب الحاكم العسكري الأول بريمر سياسة ترسيخ معطيات التقسيم، لتصبح واقعا قائما على الأرض وإن لم ترتفع ثلاثة أعلام جديدة، ولم تُرَسّم حدود انفصالية رسميا، وكذلك لتأخذ عملية التمهيد الثالثة للتقسيم صيغة ممارسات محلية من جانب الفرقاء العراقيين، كما لو كان الاحتلال بريئا ممّا يجري، مع أنّهم كانوا من اللحظة الأولى ولا يزالون ساسة تابعين للاحتلال الأمريكي، وليس ساسة وطنيين عراقيين، ناهيك أن يكونوا ساسة وطنيين عربا ومسلمين، بل لا يمكن القول بانتماء "تشرذمي" قويم لهم على مستوى التقسيم المراد تنفيذه، بين شيعة وسنة وأكراد، فما يصنعون لا يخرج عن توجيه الضربات القاصمة للفئات الثلاث.
إنّ كل مشروع استعماري من حجم تقسيم دولة قائمة إلى دويلات ضعيفة، لا يتحقق على أرض الواقع، إذا اتبع الطريقة المباشرة التي حاولتها على سبيل المثال دولة فرنسا الاستعمارية من قبل في سورية عندما كان يراد أن تتحول إلى دويلات وأخفقت، فالإقدام المباشر على التقسيم يوجد قوّة مضادة للتقسيم.
هذا بالذات ما تجنّبته الولايات المتحدة الأمريكية في العراق شكليا، ومارست طريقة أخرى..
١- الحرب العدوانية.. بدعوى الاستقرار الإقليمي عقب احتلال الكويت، وهي الحرب التي أشعلت المنطقة إقليميا إلى يومنا هذا.
٢- الحصار الإجرامي.. بدعوى مكافحة الاستبداد المحلي ودعم الحريات والأقليات، وهو الحصار الذي نشر القهر في العراق بضعة عشر عاما واستهدف الإنسان العراقي بحياته مباشرة، وبسائر حقوقه الإنسانية.
٣- حرب الاحتلال.. لفرض واقع جديد بصورة مباشرة تحت عنوان الديمقراطية والفيدرالية وما شابه ذلك، وهي الحرب التي أوجدت احتلالا إيرانيا شريكا في العراق، وحولت العداوات والصدامات المحلية السابقة إلى مواجهات ضارية تجعل من البلاد الموحدة سجنا كبيرا ومن "الفيدرالية" معركة طاحنة وليس توافقا شعبيا.
٤- الانسحاب العسكري الجزئي.. مع استمرار دعم أنصار الانفصال لامتلاك القدرة "الذاتية" على التحرك لتحقيقه، وكذلك دعم من يرفضونه في الجنوب لامتلاك القدرة على فرض هيمنة طائفية تزيد من أسباب الرغبة في الانفصال.
٥- إعطاء صناعة القرار في العراق بعد ذلك الانسحاب صبغة شرعية مزيفة.. فبعد جميع مراحل التمهيد والمشاركة المباشرة في اتجاه التقسيم.. يعلن العدو الأمريكي "معارضته" ويدع من يتخذون القرار يدّعون الاستقلالية باسم "سيادة الدولة" وهي مخترقة للعظم أو باسم " حق تقرير المصير" وهو مربوط ربطا وثيقا بالعدو الأجنبي سياسيا وعسكريا.
تقسيم العراق كارثة كبرى
لم تكن قضية تقسيم العراق -وسواه- في الماضي وليست اليوم قضية شعوب تمزق بنفسها ما بينها من وشائج ومصالح وحقوق تمزيقا، بل كانت ولا تزال قضية ساسة شعبويين يُصنعون صنعا عبر معادلة الهيمنة والتبعية، ليقوموا بدور معين يخدم مسارها، ثم يُستغنى عنهم فيأتي سواهم أو يؤتى بسواهم لمتابعة الطريق. وعندما يتمرد بعضهم على هذه المعادلة يصبح هو والبلد الذي يدير أمره مستهدفا، كما كان مع صدام فاستُهدف مع العراق بالحرب والحصار والقتل، وكما هو الحال مع تركيا المستهدفة هذه الأيام، حتى أصبحت أحداث مسار تقسيم العراق وسورية بجوارها سببا أمنيا جوهريا يضطرها إلى الدخول في توافقات وتحالفات ملغومة وخطيرة مع إيران وروسيا.
إن تقسيم العراق لا يساهم من قريب ولا بعيد في حصول أي شعب من شعوب المنطقة على حقوقه وحرياته وفي مقدمتها السيادة والاستقلال لصنع قرارات وجوده ومستقبله بنفسه.. ولكنه مدخل لزيادة الكوارث الإقليمية اشتعالا.
لقد دخلت المنطقة بمجموعها أخطر مراحل تاريخها الحديث، ولن يقف شيء من هذه التطوّرات عند أبواب هذه الدولة أو تلك، كمصر أو السعودية أو الأردن أو سواها، ما لم تصل إلى السلطة أنظمة على مستوى المسؤولية الثقيلة الواقعة على عواتقها جميعا، فتنتزع نفسها من مختلف أشكال الارتباطات التبعية السياسية والأمنية والاقتصادية بالولايات المتحدة الأمريكية تخصيصا والقوى الدولية الأجنبية عموما.
لا يوجد في واقع الأنظمة الحالية وسياساتها الخرقاء بل الدموية الانتحارية الرعناء، ما يشير إلى قدرتها على تحقيق "السيادة" لنفسها ناهيك عن "الاستقلال والسيادة" للشعوب والأوطان، وهذا ما أدركته الشعوب فتحركت في ثوراتها الربيعية التغييرية التاريخية.
تأخرت ثمرات ثورات الربيع التغييرية، إنما لا يمكن اغتياله، وسيتجدد مساره ولا يستطيع أحد التنبّؤ متى وكيف وأين، ولكن سيضطر القوى الدولية اضطرارا إلى التعامل مع حركة عجلة التاريخ، وسيسحب من بين أيديها أسباب القوة الحقيقية التي تعتمد عليها في تنفيذ مخططات الهيمنة وهي تشرذمنا نحن ونزاعاتنا التافهة نحن وقصور عملنا وتعاوننا نحن، ثم في الدرجة الثانية تلك التبعية السياسية وغير السياسية من جانب من يمارسونها من كراسي التسلط المهترئة أو من خارج نطاقها.
نبيل شبيب