ملاحظات أولى لرؤية أوسع نطاقا من واقعنا المؤلم بكل معيار إنساني وحضاري:
١- لقد أسقطت الحداثة الإلحادية مشاعل التنويريين في أوروبا ضد استبداد كنسي باسم الدين، فأصبحت أغلالا على حد تعبير فوكو فيلسوف ما بعد الحداثة، وهذا ما يراه ويعايشه بعض من يعيشون في المغتربات في "كنف" الحضارة الغربية، ولا ينكرون فضل الميزات الكبيرة لجوانب عديدة فيها..
٢- وقوّضت الواقعية النفعية روح إنجازات صناع هذه الحضارة الأوائل وقيمها التنويرية الحضارية، منذ وضع الفيلسوف الأمريكي ويليام جيمس أسس تلك الواقعية النفعية (البراجماتية) في مطلع القرن الميلادي العشرين، فأعطى المصلحة المادية الذاتية الأولوية على ما سواها.. وهذا ما يعاني من عواقبه ضحايا المآسي البشرية العديدة من مجاعات وفقر ولجوء وتشريد وضحايا هيمنة شرعة الغاب على سياسات القرار الدولي.
٣- لم يعد الإنسان في محور الغاية من العطاء الحضاري كما أراده إيراسموس الهولندي، بل انتشر "تقديس" نسبة النمو المادي الاقتصادي سيان كيف يتحقق، فهو القاعدة الذهبية (أو المقدسة) في تعامل صندوق النقد الدولي والمصرف المالي والعالمي مع ظاهرة الفقر والبؤس والتخلف، وليس مع "الإنسان" نفسه.. الفقير والبائس والمحروم"، وهذا ما أطلق ضده حكماء "نادي روما" صرخة مدوية قبل نصف قرن، بقيت دون صدى ولا جدوى، بل أصبحت قنابل هيروشيما وناجازاكي بداية زعامة الهيمنة الأمريكية عالميا.. وأصبح النفط والدولار أعلى مقاما وشأنا من الدم البشري، ومن الكرامة الإنسانية كما يشهد سقوط بغداد وسجن أبو غريب كمثال من أمثلة عديدة..
٤- سؤال:
ما الذي جعل صموئيل هينينجتون إذن يرفض عام ١٩٩٣م رؤية فوكوياما باستقرار السيادة للديمقراطية الرأسمالية الغربية فيما اعتبره نهاية التاريخ، ويطلق -أي هينينجتون- صيحته التحذيرية من "صراع حضاري" منذرا بإمكانية زعزعة مواقع الغرب (ويعني الغرب بزعامته الأمريكية) زاعما أن القوة المضادة للجبهة الحضارية المنافسة أو المعادية الأهم -في نظره- ستكون من صنع فلسفة كونفوشيوس في الصين أو من صنع الإسلام في أرضه المجزأة المبعثرة؟
صحيح أن كثيرا من الأصوات في ميادين الفكر والعلم والسياسة رفضت نظرية الصدام الحضاري، ولكن على النقيض من ذلك تبنتها بصمت واتخذت إجراءات عملية وفق مقتضياتها مراكز القوى الاقتصادية المالية ومراكز القوى العسكرية، وأبرز ما كان ذلك في تطوير ميثاق حلف شمال الأطلسي وما يوصف بالكتاب الأبيض لوزارات الدفاع الغربية، ثم سلسلة الحروب العدوانية المتتالية، على إيقاعات "مكافحة الأصولية" ثم "مكافحة الإرهاب" مع الممارسة الأمريكية في الدرجة الأولى لتلك الحروب العدوانية وتغطيتها من خلال الممارسة الغربية عموما لربط "الإرهاب ومكافحته" بالإسلام وبتطرفه عبر أسلوب تعميمي يتجاوز من يتطرفون باسمه زورا.
. . .
ملاحظات أخرى حول ماهية الحضارة التي يخشى أهلها من سقوطها:
١- جميع الحضارات المتعاقبة في التاريخ كانت تنطلق من منظومة قيم ذاتية، إنما تأخذ بعضها مما سبقها وتتابع طريق الإنجازات التقنية والمادية، في مسلسل بشري متتابع من قبل اكتشاف النار وحتى اختراع آلة الطباعة.. ولا تغلق الأبواب أمام الاستفادة البشرية من عطاء تقني ومادي، وهذا ما بدأت به الحضارة الإسلامية كما بدأت به الحضارة الغربية أيضا في عصر التنوير..
٢- لقد تحولت الحضارة الغربية على أرض الواقع إلى حضارة احتكارية، على النقيض من الحضارات السابقة، ويعبر عن ذلك حظر أحدث التقنيات المدنية الحساسة عن (الآخر) حتى في ميدان التعليم الجامعي، بل في ميدان إنتاج مادي "إنساني" كصناعة الأدوية المتطورة مثلا، كما يعبر عن ذلك احتكار التقنيات العسكرية المتطورة، تحت عنوان حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل دون وقف إنتاجها الذاتي وتخزينها واستخدامها وتطويرها من جانب الدول المسيطرة عليها.
٣- لا يوجد في واقع عالمنا المعاصر مبرر جادّ من حيث موازين القوى المادية والتقنية يبيح الخوف من أن يتحول الزمام الحضاري إلى جهة أخرى، لا سيما ما اعتبره هينينجتون "جبهة إسلامية".. ولكن توجد مخاوف كبيرة من منظومة قيم بديلة، بعد أن انحرفت الحضارة الغربية عن منظومتها الأولى من عصر التنوير، فشوّهتها وقوّضتها الحداثة الإلحادية والواقعية النفعية (البراجماتية الأمريكية).
٤- لتحذير هينينجتون ما يبرره إذن، كما أن تنفيذ ما رآه من تحرك "وقائي حضاري" وجد طريقه إلى الواقع عبر سلسلة حروب مدمّرة وجهود لا تزال مستمرة لنشر الفوضى "الخلاقة" الهدامة، وهذا ما يمكن وصفه بجولة صراع اليائسين من نصر "حضاري قيمي" ويستحيل أن يتحقق أيضا لجبهة ترمز إليها هيروشيما وفييتنام وأفغانستان والشاشان والعراق وفلسطين وجوانتانامو وأبو غريب والسجون السرية ومسلسلات ظاهرة القتل العشوائي ومسلسلات فضائح الاعتداء الجنسي على الأطفال والنساء والناشئة.. والقائمة طويلة للغاية، وذلك كله تجاه جبهة سبق إغراقها في هذه الإفرازات غير الحضارية، ولكن لا تزال تملك جزئيا على الأقل بعض بذور "منظومة قيم" لحضارة إنسانية أخرى.
. . .
المغزى:
١- إن كل كلمة.. وفكرة.. وخطوة.. وموقف.. وإجراء.. وتواصل.. وإنجاز مادي.. محوره منظومة القيم الإنسانية الحضارية المحاصرة والمستهدفة منذ أكثر من مائة سنة، هو تحرك في الاتجاه الصحيح.. الهادف والواعد.. وإن كل تقصير أو تراجع أو تهوين أو تثبيط على هذا الصعيد يعني السقوط في تضليل حملات مضادة لم تنقطع للتشكيك في أن محور طريق التغيير هو المحور الذي يدور حول عطائه القيمي أولا..
٢- أما الإنجاز التغييري بالقوة، فيمكن أن يتحقق جزئيا من قلب العدم كما كان مع الثورات الشعبية للربيع العربي، ولكن يمكن أن يتراجع سريعا إلى موقع الحصار والاستهداف، إذا فقد في مساره مفعول منظومة القيم وهي بمثابة الروح بين جنبيه.. لهذا كانت جهود التحرك المضاد للتغيير تستهدف في الدرجة الأولى هذه الروح مع البناء على ما كان من جهود تدميرية سابقة في حملات غزو (غير عسكري) متعددة متتالية شاملة، لمنظومة القيم ولإنسانية الإنسان في بلادنا وعالمنا وعصرنا.
٣- إن منظومة القيم وإنسانية الإنسان هما محور ما شكونا منه خلال أعوام متتالية من مسار الثورات الشعبية، بدءا بافتقاد العمل المؤسساتي المخطط الهادف البعيد المدى، لحسابات العشوائية والمحسوبية والمحاصصة والأنانيات الفردية والحزبية والانتمائية، انتهاء بانتهاك جميع الخطوط الحمراء لأي عمل ثوري تغييري، إلى درجة الاقتتال بين فصائل على جبهات يتلقى فيها الضحايا من "الشعب الثائر" البراميل المتفجرة الهمجية والصواريخ الفتاكة المتطورة.
. . .
يا أيها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات والشباب والصبايا والناشئون والناشئات من جيل التغيير.. ويا جميع من سبقهم على الطريق ويحرص فعلا على أن يتابعوه من بعده:
إن مستقبل التغيير رهن بمتابعة طريق فتحت بوابته ثورات الربيع العربي في لحظة تاريخية تشهد بذور مسيرة دورة حضارية جديدة
إن جولة "الصراع الحضاري" ما زالت تدور، والطرف الأضعف فيها هو طرف اليائسين من استمرار هيمنة حضارتهم المنحرفة، والجبهة الأقوى هي جبهة التغيير الحضاري التاريخي الإنساني، وهنا يسري مفعول القلة المنتصرة في مواجهة القوة المتفوقة.. شريطة ألا ييأس جيل التغيير، وهم صانعو النقلة الحضارية المقبلة، ولا تتخاذل أقدامهم، ولا يغفلوا عن تطوير إمكاناتهم وتخصصاتهم وعطاءاتهم في جميع الميادين، بدءا بالإدارة الحديثة دون إغفال منظومة القيم، مرورا بالتنسيق والتشبيك دون إغفال منظومة القيم، انتهاء بالعطاء المادي والتقني دون إغفال منظومة القيم أيضا.
نبيل شبيب