ــــــــــ
رغم احتجاجات شعبية لا سيما من جانب من يشتغلون بالإعلام أصدر ماكرون يوم ١٥ / ٤ / ٢٠٢١م، اعتمادا على حزبه وعلى دعم من يوصفون باليمين المتطرف (أكثر منه!) ما يوصف بقانون “الأمن الشامل” بعد سلسلة من قوانين أخرى تحدّ من الحريات وتستهدف مسلمي فرنسا من جهة والتضييق على الصحافة من جهة أخرى. وتأتي هذه الخطوة قبل أيام معدودة من اليوم العالمي لحرية الصحافة، ويعود تاريخه إلى مؤتمر عقدته منظمة اليونيسكو العالمية في ويندهوك عاصمة نامبيا، واعتُمد فيه الثالث من أيار/ مايو ليكون يوما عالميا لحرية الصحافة، تأكيدا على مطالب المؤتمر يوم ٣ / ٥ / ١٩٩١م حول تطوير صحافة حرة ومستقلة وتعددية.
ودأبت احتفالات منظمات دولية مستقلة عن الحكومات، على اتخاذ ذلك اليوم العالمي مناسبة للإشادة غالبا والانتقاد جزئيا بالحريات الصحفية في الغرب، وللتنديد دوما بما يسود في العالم غير الديمقراطي، أي غير الغربي، من امتهان للحرية الصحفية، كما هو الحال مع سواها من الحريات والحقوق الإنسانية.
لا غبار على ذلك من حيث الأساس؛ لا سيما وأن معظم التعليلات الواردة للتنديد صحيح، ولكن من المغالطات القول إن مصادرة الحريات في هذه الدولة أو تلك، يعود فقط إلى عدم الأخذ بالنظم والمناهج الغربية، فالواقع أن من الأسباب الجوهرية عدم تطبيق القيم الموجودة في الأصل في صميم الحضارات والثقافات غير الغربية أيضا، فهي تؤكد كرامة الإنسان وحرياته وحقوقه، ولا تغني القيم في الغرب عنها إنما المطلوب عدم انتهاكها والعودة إلى الأخذ بها، ولا ينفي ذلك وجود تقاطع بين كثير منها وبين ما يتحدث الغرب عنه من “قيم” بشأن الحريات والحقوق، ويريد أن تكون دون سواها هي القيم الإنسانية المشتركة.
سؤال آخر: ما هو واقع تطبيق القيم الغربية بصدد الحريات الإعلامية في الغرب نفسه؟
واقع العمل الإعلامي في أنحاء العالم لا يتمثل في لونين، الأبيض في ظل حضارة غربية يسمّونها هم “حضارة الإنسان الأبيض” أو “الحضارة المادية” ولون أسود في إطار ما يسمى العالم الثالث أو البلدان النامية عموما.
إن الدراسات والبحوث التي تجري في البلدان الغربية عن أوضاع الإعلام فيها، تكشف باستمرار عن وسائل “متطورة” في انتهاك الحريات، فعندما يملك أفراد معدودون أو شركات عملاقة معدودة، أكثر من سبعين في المائة من وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، لا يمكن القول إن وضع الإعلام في الدول الغربية ينطبق على الوضع المثالي الذي تتحدث عنه الشعارات المرفوعة بأسلوب احتكاري لقيم الحرية والحقوق الإنسانية وأسس الحضارة والثقافة العالمية.
صحيح أن الأمور “نسبية”، وأن ممارسة الحريات في الغرب أوسع نطاقا منها في سواه، ولكن لا تخلو تلك الحربات من تزييف واسع النطاق، يصلح وصفه بنوع من “الاستبداد الذكي” الذي يدافع فيه المتضرر عن سبب الضرر، إذ تعود القيود المفروضة إلى هيمنة القوى المالية، وبالتالي احتكار الإعلام وما فيه من “تربية وتوعية وتوجيه”، تصوّر النموذج الغربي أنه الأفضل عالميا دون جدال، ولا بديل له على الإطلاق، وهو ما يسهل إقناع العامة به نتيجة غياب نماذج أخرى على مستوى التطبيق في الحقبة الراهنة من حياة البشرية، ومن هنا فإن المتضررين من احتكار الكلمة الإعلامية واقعيا، العاجزين عن الوصول بآرائهم إلى موقع مؤثر إعلاميا، يدافعون عن هذا الوضع رغم سلبياته.
ثم إن القوانين السارية المفعول في الغرب لا تترك الحرية الصحفية ولا سواها من الحريات هكذا مطلقة دون قيود، كما يصور ذلك بعض المستغربين أو تصوره حملات تندد بأوضاع الاستبداد المنتشرة في “العالم الثالث”، والشواهد على ذلك أصبحت معروفة، وتتصدر القائمة فرنسا في عهد ماكرون خاصة، والولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترامب خاصة، ومن ذلك في فرنسا فرض عقوبات قضائية على من يجري “بحوثا علمية” – ناهيك عن نشـر مقال إعلامي – للنظر بأسلوب منهجي جامعي في “زعم من يزعم” بعدم صحة ما يتردد عن “حجم المحرقة النازية لليهود”، وهو ما يمنع التجرؤ على ذلك أصلا.
المشكلة أعمق من ذلك، ولا تنعكس في تنديد سنوي أو إشادة تعميمية، فليس مجهولا أن الحرية الإعلامية مفقودة في معظم ما يسمى الدول النامية، ولكن لا تجد حلا لها عبر المطالبة بما يوجد في الغرب، حيث الحرية “نسبية” ويزداد فرض القيود المرئية وغير المرئية عليها بصورة متصاعدة بمفعول السيطرة المادية.
سيان ما يصنع أو لا يصنع الغرب ينبغي أن ننتزع أنفسنا في البلدان الإسلامية بالذات، من حلقة مفرغة، لننظر بأنفسنا ومن منطلقاتنا الإسلامية مباشرة في قضايانا المتعلقة بالحرية الصحفية وسواها من الحريات والحقوق الإنسانية، التي أقرها الإسلام، للناس كافة، لتحرير العباد من عبادة بعضهم بعضا، ومن الخضوع لبعضهم بعضا، وهذا من قبل أن تُرفع شعارات في اتجاه “الحريات المطلقة” في الغرب بمئات السنين، بل لم ترفع في الغرب تلك الشعارات إلا بعد الاحتكاك المباشر بالحضارة الإسلامية وأخذ بعض ما فيها ووضعه في قالب غربي “حديث” لم يتخلص من جذور عنصرية ومادية عتيقة من عهد الرومان والإغريق، فكان لا بد أن ينحرف بأهدافه وتطبيقاته العملية مع مرور الزمن.
لا يوجد في تعاليم الإسلام من “الضوابط” لحرية الإعلام بقدر ما يوجد في الغرب حاليا من “قيود السيطرة المادية” على مختلف ميادين النشاط الإنساني، ومنها الإعلامي. ويرتبط خروجنا من حلقة المقارنات بلا جدوى بصيغة طرحنا لقضية الحريات والحقوق الإنسانية، وضرورة أن تكون المطالبة بها وفق ضوابط الحق والعدل والكرامة الإنسانية، لكل إنسان، لأن الإسلام يفرض هذا المنطلق الإنساني فرضا، سيان هل وجد العالم الغربي ووجدت مدنيته أم لا.
إن الانفتاح على العالم مطلوب دون الانفصام عما هو بين أيدينا، ودون الأخذ ببعض ما لدى سوانا، بخيره وشره، أو بعجره وبجره، وما ثبت صلاحه جزئيا ، وثبت فساده أيضا، بينما نحتاج إلى انفتاح يستند إلى أرضية راسخة من الثقة بالنفس، والاعتزاز بالهوية الذاتية، ومن المنهجية القويمة في تقدير ما لدينا على حقيقته، والنظر فيما لدى سوانا على حقيقته، ثم التعامل مع الآخر من منطلق العطاء لا التسول، ووفق مبدأ التبادل على أسس سليمة متوازنة لا التقليد الأعمى.
إن أزمة الحريات في بلادنا هي أزمة مستعصية مع أنفسنا أولا، ولا تجد حلولا لها دون أن نسمي الأشياء بمسمياتها، والأمثلة كثيرة..
بدءا بوصف الانقلابات العسكرية ثورات شعبية، والاستبداد الحزبي بدول ديمقراطية..
مرورا بأنظمة أحكام الطوارئ المزمنة، واعتبارها دستورية..
وانتهاء بانتخابات واستفتاءات مزورة مزيفة صورية ثم ما يفرض من سيطرة على جميع “السلطات” بأسلوب إصدار المراسيم الرئاسية والملكية..
وكذلك بدءا بما يسمونه “قنوات” للعمل السياسي أو الإعلامي لا تنفتح إلا بالمقدار الذي لا يمثل خطرأ على “هيمنة” سلطة استبدادية قائمة..
مرورا بالاتهامات والأحكام المسبقة تجاه كل من يدعو إلى الحكم بالإسلام بدعوى أنه يريد “الهيمنة” بعد أن أصبحت الهيمنة الفعلية ثابتة بالبرهان الحي على الاتجاهات الأخرى بحكم التطبيق العملي لا الأحكام المسبقة..
وانتهاء بتصوير كل انفراج محدود ومؤقت في ميادين الحريات والحقوق وكأنه “منحة” يملك الحاكم أن يعطيها أو يمنعها، متى يشاء، كيف يشاء، ولمن يشاء.
إن أزمة الحريات هي العنصر الحاسم في وجود كثير من الأزمات الكبرى الأخرى القائمة في بلادنا، ويجب أن نتعامل معها على هذا الأساس، لأن هذا واقعها المشهود، وليس لأن الغربيين يزعمون ذلك أو لا يزعمونه، وينشرون مواقف مزيفة عن تأييد للحريات والحقوق، وهم بمعاييرهم الازداوجية يدعمون – من أجل خدمة مصالحهم الأنانية ومطامعهم العدوانية – مختلف أشكال الاستبداد، على مختلف المستويات الدولية والإقليمية والوطنية، وفي مختلف الميادين السياسية والاقتصادية والفكرية والاجتماعية.
إن ما نقدمه من خلال العودة بقضية الحريات والحقوق في بلادنا إلى جذورها، هو جزء لا ينفصل من الرسالة التي نحملها للبشرية بأبعادها الإنسانية الشاملة، فالإسلام يكرم الإنسان.. جنس الإنسان، من وراء اختلاف الألسنة والألوان والمراكز الاجتماعية والإمكانات المادية، والإسلام يقرر الحريات الأساسية كحريات أصيلة، وليس كحريات “مكتسبة” كما جعلتها ثقافة الغرب بوضعها في قالب “جولات صراع دائم” للعامل، والمرأة، والمسنين، والفقراء، وسواهم من الفئات الأضعف في المجتمع، فمن يملك القوة يحصل على ما يريد من حريات وحقوق وزيادة على حساب سواه، ومن لا يملك القوة بمختلف أشكالها يمكن أن يحرم من حرياته وحقوقه ولا يكاد يملك السبيل لمجرد التعبير عن ذلك أصلا.
الطرح الإسلامي لقضية الحقوق والحريات لا يقبل التشدد والتنطع، لأن الإسلام يرفض التشدد والتنطع، ولا يقبل التسييب والتحلل لأن الإسلام لا يقبل التسييب والتحلل، وهو بهذا التوازن وما يقوم عليه من ترسيخ لقيم الحق والعدالة، يكتسب صفة العالمية لصلاحه لسائر البشر، بمن فيهم من لا ينتسب إلى الإسلام عقيدة ومنهجا، وهذا ما لا غنى عن بيانه وتأكيده في مختلف المواقف الإسلامية، وعلى صعيد الأنشطة الإسلامية، وفي المناهج التربيوية وفي المؤسسات الإسلامية، وفي وسائل الإعلام الإسلامية، وهو الطرح الذي يمكن أن يستوعب سواه مما استمد روحه ومضامينه من الغرب، ولا يبالي أن الغرب يوجه للحريات الإنسانية وعالميتها الضربات المباشرة، من خلال مزاعمه حول احتكار القيم مع التطورات التقنية، والمبادئ مع الصناعات المادية، ولا يتردد عن ابتزاز سواه لفرض تصوراته كشرط من شروط التعاون في ميادين أخرى، وعبر مساعيه لمحو الهوية الأخرى كمقدمة للتعامل على قدم المساواة، وهذا رغم الشواهد اليومية داخل الغرب، على أن ما يطرحه من قيم نظريا لم ينجح في إزالة الفروق العنصرية والاجتماعية في مجتمعاته نفسها ناهيك عن تصور إمكانية إزالتها عبر عولمة تلك التصورات وفرضها على الآخرين.
نبيل شبيب