تحت المجهر – المشروع الإسلامي ومشروع سورية المشترك

أصبح الحديث عن "المشروع الإسلامي" في سورية موضوعا شائكا، وكثير مما نشر في هذا الإطار انطوى على أطروحات جرى تفسيرها أنها من قبيل التغطية على النوايا، واستمر من قبل ذلك ومن بعده رفض من يرفضون وجود "مشروع إسلامي" من حيث الأساس.
الموضوع شائك ويرجى -رغم ذلك.. ورغم صعوبة البيان في سطور معدودة- أن يتبين فيما يلي:
١- طرح "مشروع سورية المشترك" ضروري، على أساس "وثيقة وطنية" تحدد القواسم المشتركة بين المكونات الشعبية والميدانية والسياسية والفكرية، وعلى أساس "عقد وطني لقواعد التعامل بين أطراف مختلفة"، ولأنها "مختلفة" لا يعني ما سبق ذوبان أي طرف ورؤاه، فهذا غير ممكن واقعا، ويسبّب زرع ألغام الصدام لاحقا.
٢- الطرح "المرحلي" من جانب إسلاميين باسم "مشروع وطني" مثلا،مع التمسك بطرح "مشروع إسلامي" مستقبلي، لا يوجد أرضية قائمة على الثقة المتبادلة، الضرورية لمسيرة مشتركة "الآن" بين مكونات شعب واحد في وطن مشترك، على أساس "مشروع سورية المشترك".
٣- لا يكون المشروع الإسلامي "إسلاميا".. إلا إذا كان في الوقت نفسه "وطنيا وقوميا وإنسانيا وحضاريا"، ليس من باب إضافات عليه، بل من باب ما تتضمنه الرؤية الإسلامية شرعا.
٤- فوضى المصطلحات -"الموجهة" أحيانا- نشرت الإحساس بتناقضات غير موجودة في الأساس ما بين الإسلامي وبين المنطلقات الأخرى المذكورة.
٥- "الإسلام" -كسواه- لا يُحكم عليه من خلال تصرفات "البشر"، سواء رفعوا رايته بصدق أو انحرفوا بها، والانحرافات من "ذرائع" العداء، ويوجد قسط كبير من العداء المستحكم الناجم عن فوضى المصطلحات وقد يزول عند المنصفين بالتوضيح، إنما يوجد ‎قسط آخر متعمّد، لا يزول،وإن اتضحت سلامة المطلوب تحت عنوان "مشروع إسلامي".
٦- في جميع الأحوال لا ينبغي الركون إلى ما انتشر من تصوير لكلمة "إسلامي" وكأنها تنطوي على معاداة "الآخر" في الوطن أو القوم أو الإنسانية أو الحضارة، ويسيء لنا كثيرا أن ننساق وراء ذلك في "خطابنا الإسلامي"،وكأنما "سرقت" الأوصاف الإيجابية المذكورة نهائيا من الإسلاميين، مع أنها من أصول ما نزل به الإسلام، عندما كانت البشرية في ظلمات الطبقية والتمييز وهيمنة شرعة الغاب، وكانت تفتقر إلى تلك المعاني والقيم وربطها بقاعدة "لتعارفوا"، افتقارا واسع النطاق، نظرية وتطبيقا.. وافتقارُها إلى ذلك الآن كبير أيضا.
فوضى الخصومات
لأن الموضوع شائك، ولأن "الفوضى الهدامة" واسعة الانتشار في بلادنا حاليا، أصبحت تتردد بين كثير من الإسلاميين في أروقة المؤتمرات والحوارات والتواصل الدعوةإلى تجنب طرح "مشروع إسلامي" الآن بشأن مستقبل سورية بعد إسقاط البقية الباقية من النظام الاستبدادي وطرد ميليشيات أسياده،وشاع تصنيف من يدعو إلى ذلك بأنه من الفئةالواقعية الواعية للمعطيات الآنية وحدود إمكاناتنا فيها، والتي تشير أيضا إلى عدم نضوج "طرح إسلامي" متكامل في صيغة "مشروع" أصلا، وهذا صحيح، كما تشير إلى تجارب حديثة خطيرة كالتي شهدتها مصر مثلا، وهذا لا يمثل حجة مقنعة، فما حدث هو من صنع "العداء".. بغض النظر عن وجود مشروع إسلامي متكامل أو غيابه.
بالمقابل يوجد من يرفضون هذه الدعوة، ولكن من زاوية الإشارة إلى وجود قطاع كبير من صنّاع القرار الميداني، ممن يطرحون عبر مكاتبهمالسياسية وما يتبناه عامة المقاتلين، سلسلة من الشعارات "الإسلامية"، لا تقترن بطرح "مشروع بناء دولة"، ولكنها تبدو لديهم في موضع خطوط حمراء، مثل "الحكم لله وحده"، "تطبيق الشريعة"، وما شابه ذلك.. وليس هذا التعليل سليما، فلا "يُحتكم" إلى حمل السلاح ولا إلى حمل القلم، بل يحتكم إلى ثوابت النصوص الشرعية قرآنا وسنة، أما الاجتهادات القديمة والحديثة فيستفاد منها ولا تلزم. 
وتوجد في المشهد العام الحالي أطراف عديدة ذات منطلقات علمانية، لا تتردد عن طرح ما لديها، وذاك حقها، وليس من حقها أن تشير -من قبل الثورة وأثناءها- بأصابع الاتهام إلى ما تصنعه فئات "إرهابية" باسم الإسلام كداعش، لتجعل منهذريعة لمخاوف تلك الأطراف، رغم علمها بموقف "الإسلاميين" الحاسم في رفض هؤلاء وأمثالهم.. وتلتقي هذه الأطراف العلمانية بوضوح مع قوى إقليمية ودولية عديدة، تعبر عن مخاوف مشابهة، ومنها من يواري وراء "المخاوف" عداء مستحكما.
ليست مشكلة "المشروع الإسلامي" في الطرح وعنوانه.. ولكن في الفهم الذاتي المشترك لما لدينا، ثم القدرة على التعامل مع مخاوف تزول بالبيان، وعداء لا يفيد معه البيان.

أين الخلل.. وكيف يزول؟
ما لم يتمكن الإسلاميون من "إزالة الخلل الذاتي" لن يزول الخلل في علاقاتهم بسواهم، محليا وخارجيا.
إن دعوة "إسلاميين" إلى "مشروع وطني بديل" يسري حتى نهاية ما يسمى مرحلة انتقالية، دعوة تنطوي على مغالطة وخطورة لا يستهان بها.
المغالطة كامنة في أنها "تنتقص" من حقيقة المشروع الإسلامي نفسه عندما تتحدث عن "حلول وسطية"..
والخطورة كامنة في نشر انطباع خاطئ بوجود تناقض بين كلمتي "إسلامي" و"وطني".. 
من شأن هذا وذاك أن يتحول إلى عقبة في وجه "الهدف" من الدعوة المذكورة نفسها ‎أي هدف "التفاهم مع الآخر".
إن الزعم القائل بوجود تناقض، يعني تصوير التعهد بالحريات لكل مواطن، كأنه "أمر مستورد"، وتصوير القبول بتداول السلطة وسوى ذلك من قواعد العمل السياسي، وكأنه "أمر اضطراري".. فكيف تتوطد الثقة المتبادلة الضرورية بين أطراف "الدولة المشتركة لشعب واحد في وطن مشترك"؟  
سيان ما هو الوصف الذي يطلقه الإسلاميون على المشروع الذي يريدون.. المهم هو مضمون الطرح ومصداقيته، وليس العنوان!

المشروع الإسلامي المطلوب
إن الطريق الطبيعي هو طرح "المشروع الإسلامي الوطني" كما هو.. الآن، وكما يراد له أن يبقى ويستمر.. مع التوافق على "قواعد للتعامل" في فترة الثورة وما بعدها، مع من يطرح مشاريع أخرى، ليمكن تحقيق مسيرة مشتركة على "بينة" ووفق المصلحة العليا المشتركة.
المشروع الإسلامي المطلوب يتضمن تلقائيا مسألة "الحريات" لأنها قضية ثابتة راسخة في أساس "التصور ‎الإسلامي" وليست أمرا مستوردا.. وإلاّ فنحن نتناقض مع ما نردده من مثل كلمة الفاروق "متى استعبدتم الناس.." ونحن نعلم أنه أعلنها بشأن "مواطن قبطي" في الدولة المشتركة، وطرح من خلالها المساواة أو التكافؤ في الحقوق بين سائر من يتبع لتلك الدولة!..
هذا مستند يعتمد ليكون بندا ثابتا، وليس مستوردا ولا تجميليا ولا مؤقتا، في أي مشروع "إسلامي" وطني أصيل؟
ودون تفصيل يمكن أن نقول مثل ذلك وزيادة عن شمول "حق العدالة" للجميع، فجميع ما ورد بصدده ورد بشأن "الناس" أو "الإنسان" أو "ابن آدم" وليس بشأن "المسلم.." حصرا!  
وكذلك سائر الحقوق الأخرى، المعنوية والمادية، كالمساواة "كأسنان المشط"، وتحريم الأخذ بنهج "ليس علينا في الأميين سبيل" وتحريم حظر عطاء الله بسبب الانتماء العقدي "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا".. كذلك لا ينبغي في مشروع "إسلامي" الإيحاء الخاطئ بأن "الاحتكام إلى إرادة الشعب" بمجموع مكوناتهيتناقض مع "احتكام المسلم للشريعة" فهذا وذاك أمران متلازمان متكاملان، دون تناقض، فمن احتكام المسلم للشريعة أن يحتكم فكرا وممارسة لما تقتضيه القاعدة الربانية: "لا إكراه في الدين". 
"المشروع الإسلامي" مشروع وطني أصيل يضمن الحريات والحقوق ويأبى الإكراه، وإننا نشوّه ما نطرح بأنفسنا عندما نزعم أننا نستعير "الحريات والحقوق وحظر الإكراه" لمجرد إرضاء "الآخر" أو التوافق معه!

موطن القصور.. وضرورة استدراكه
يسري شبيه ما سبق على الدوائر الأوسع من الدائرة الوطنية، أي تجاه "المنطلق القومي" القويم حيثما تغيب فتن العصبية والعنصرية، وتجاه "المنطلق الحضاري الإنساني" القويم حيثما يغيب تمكين القوة المادية من الهيمنة على حساب الإنسان نفسه.
ليست مشكلتنا في "العنوان" هل يكون مشروعا إسلاميا أم وطنيا أم مدنيا أم سوى ذلك من الأوصاف.. فمن يتحدث بهذا اللسان ينفي عن الطرح الإسلامي حرصه -وهو حرص ملزم عقديا- على كل إنسان وعلى كل مصلحة مشروعة في الوطن المشترك، وعلى مستوى العلاقات البشرية، أي الإقليمية والعالمية.
لهذا لا ينبغي أن نحصر حقيقة قصورنا "الإسلامي" في مسألة اختيار "ألفاظ" و"شعارات" فالواقع أنه القصور عن طرح متوازن متكامل ومعاصر.. لأن الإسلام وضع مقاصد كبرى وأفسح المجال للاجتهاد ولهذا فهو يصلح لكل زمان ومكان.
هو قصورنا الواجب استدراكهلطرح "مشروع بناء الدولة والمجتمع" من منطلقات إسلامية طرحا يتبين فيه العدو والصديق، الموافق والمعترض، الذات والآخر، انعدامَ وجود تناقض بين النصوص الشرعية القطعية الواضحةوبين "الفطرة البشرية" -كما أرادها خالق البشر- إذ تقوم على قيم الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، ‎وتعبير "الفطرة البشرية" أسلوب من أساليب تعميم هذه القيم على "جنس الإنسان".
جميع ما ورد في النصوص الشرعية بشأن "ممارسة السلطة وما يتفرع عنها" شامل لجنس الإنسان دون "تمييز" عنصري أو عقدي.. ولا سياسي أو اجتماعي.. ولا فئوي أو انتمائي.. وهذا مما لا يتبدل بين عصر وعصر ومكان ومكان وحال وحال.
لهذا يستحيل أن نصل إلى صياغة فاعلة مؤثرة.. لما نسميه "المشروع الإسلامي"، في قضية "سورية الوطن" اليوم، في لحظة التغيير التاريخي الراهنة، ولا مجال للوصول إلى ذلك من قبل ومن بعد، إلا عندما يظهر من خلال "المضمون" لكل منصف أنه "مشروع إسلامي.. وطني وقومي، حضاري وإنساني" بالضرورة، وآنذاك سيظهر ذلك أيضا لكل خصم "ينافسنا" في دائرتنا المشتركة، ولكل عدو وإن عاند واستكبر، مثلما يصنع الآن.. مع "غياب" وجود "مشروع" متكامل أصلا، فلا جدوى من وضع ذلك العدو في حسابات "رؤانا" الآن، بل يجب وضعه في "استراتيجيات" التعامل معه، الآن ومستقبلا.

نبيل شبيب