للجهاد شروط ومواصفات في النصوص الشرعية، لا تبيح انتحال صفة المجاهد دون توافرها، وللقتال – وهو من أشكال الجهاد المتعددة – شروط وأحكام ومؤهلات وآداب، فلا يصح دون توافرها الحديث عن "مقاتل" أنه "مجاهد مقاتل". وفي السطور التالية خواطر تعبر عن فهم كاتبها لبعض ما ورد بهذا الصدد من نصوص في القرآن الكريم والحديث الصحيح، مع تجنب الإطالة باستقصائها، ومع تأكيد استحالة التجرؤ على الفتوى، فللفتوى شروطها ومؤهلاتها كما هو معلوم.
المنطلق
لا يدور الحديث هنا عن "القتال" عموما كما نعرفه عبر الواقع وعبر نصوص "القانون الدولي للحرب والسلام" بل ينحصر الحديث في محاولة الإجابة على السؤال عن أهم المؤهلات الضرورية للإذن بالقتال وفق معايير الإسلام.
وليس القرار بخوض القتال كأي قرار آخر في نطاق ممارسة المسلم لإسلامه، فهو يعني إمكانية هدر "الحياة البشرية"، وهي من الضرورات الخمس الكبرى التي تُعتبر مناط الإسلام نفسه، ونعلم بمدى تأكيد الإسلام تحريم قتل "النفس" التي حرم الله قتلها.. إلا بالحق، ولا يمكن القول باسم الإسلام عن إنسان إنه قتل إنسانا آخر بالحق إذا اتخذ القرار بذلك بعيدا عمّا يقرّره الإسلام الذي يستند إليه.
لقد قرر الإسلام أن القتال "كتب عليكم" وهو "كره لكم"..
وورد التشريع الأول للقتال بتعبير "الإذن به“، وفي سورة الحج:
تعداد "الشروط الأولية" للإذن به، ومحورها "الإيمان والتعرض للعدوان والظلم"..
وفيها تعداد "الشروط التالية" أي المواصفات التأهيلية التي تجعل الفئة المقاتلة قادرة على "تحقيق الهدف" دون انحراف عنه، وهذه المواصفات هي محور ما ينبغي أن يتحقق من خلال الجهاد/ القتال عند "التمكين في الأرض".. ولنرجع في ذلك إلى الآيات:
{إن الله يدافع عن الذين آمنوا…}
{أذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا…}
{الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق…}
{الذين إن مكّناهم في الأرض…}
حرية المعتقد
يلفت النظر أن يذكر الله تعالى وسط آيات الإذن بالقتال ما يتعلق بحرية المعتقد لتعليل دفع الناس بعضهم ببعض:
{ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا..}
وهنا لم يقتصر النص القرآني على ذكر "المساجد"، كما أنّ في نص العهد النبوي لنصارى نجران التعهد بدفاع المؤمنين "بأنفسهم وأموالهم" ضد من يتعرض بالاعتداء على حرية ممارسة النصارى لمعتقداتهم، متمثلة – وفق نص العهد النبوي – في رهبانهم وكنائسهم وصلبانهم.
يجب إذن أن نربط بين استخدامنا القتال "وسيلة" حتى تتحقق الغاية المشروعة بشروطها، وبين القاعدة الكبرى السارية المفعول من قبل ومن بعد:
{لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ}
إنّ "حق حرية المعتقد" الذي يعلو بمرتبته بين الضرورات الخمس على ما سواه، بما في ذلك حق الحياة، يتبين في سياق آيات أخرى، كما في سورة البقرة، فمن ذلك صيغة تشريع القتال:
{حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} {والفتنة أشد من القتل}.
{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}
{واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم….. فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم}
{وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين}
وتبقى بعد ذلك حالة رد الاعتداء بمثله:
{فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله}
مؤهلات أساسية
إن الشروط والمؤهلات الأساسية للمقاتل المجاهد في سبيل الله هي إجمالا:
الإيمان – المعرفة – سلامة الهدف – وجود ما يوجب وسيلة القتال – توافر القدرة على تطبيق غاية التمكين في الأرض.
وينبثق عن الإيمان بالله إخلاص القصد من القتال، فلا مجال لإعطاء الغاية الدنيوية أولوية على حق الحياة للإنسان.
وتشمل المعرفة معرفة المقاتل بالإسلام الذي يلتزم به، وواقع "الحالة" التي يريد استخدام وسيلة القتال في التعامل معها، والجهة التي يقاتل تحت رايتها، والجهة التي يقاتلها، وكيفية استخدام وسيلة القتال.
وتعني "سلامة الهدف" التمييز الدقيق بين استخدام القتال "وسيلة" لهدف مشروع، وبين تحويله إلى "هدف" إذ يؤدي آنذاك إلى هدر حياة بشرية بغير حق.
ويتصل بما سبق وجود ما يوجب استخدام "وسيلة القتال".. فالحقوق، مثل "الحقوق المادية المعيشية" من طعام وشراب ودواء وسكن، لا تبيح هدر "حق الحياة" الأعلى مرتبة منها، إذا أمكن تحصيلها دون ذلك.
أما القدرة الذاتية على النهوض بالتكاليف المترتبة على التمكين في الأرض، فتبدو – أي هذه القدرة الذاتية – من الأمور النسبية، فيأتي ذكر التكاليف بعناوينها الرئيسية:
إقامة الصلاة.. محور علاقة المخلوق بالخالق
إيتاء الزكاة.. محور علاقة الإنسان بمجتمعه
الأمر بالمعروف.. والمعروف من جوامع الكلم تعبيرا عن السعي لكل ما فيه خير وفائدة.
والنهي عن المنكر.. والمنكر من جوامع الكلم تعبيرا عن العمل لدفع كل ما فيه شر وضرر.
مؤهلات إضافية
ما سبق يمثل الأسس والمنطلقات والشروط.. أي ما لا غنى عنه من مؤهلات اعتبار المقاتل مقاتلا مجاهدا في سبيل الله، إنما نجد في كثير من النصوص مؤهلات "إضافية" ولا يستهان بأهميتها أيضا.. ولا بد من الإيجاز، فيكفي التنويه بما تذكرنا به من كتب الحديث والسيرة عبر قصة "هل شققت عن قلبه"، وقصة التبرؤ من قتال جزئي جرى أثناء فتح مكة سلما، فضلا عن نصوص الوصايا المعروفة لقادة الجيوش في العهد النبوي والخلافة الراشدة.
وجميع ما سبق – وهو موجز غاية الإيجاز – لا يغني في إسلامنا، وفي عالمنا وعصرنا وواقعنا الراهن عن "الوعي الفردي".. فكل نفس بما كسبت رهينة.. ولا يغني أحد عن أحد شيئا يوم الحساب.. ولا يعذر الجهل من يستضعفهم قادتهم فيتبعوهم دون علم ووعي بما يصنعون أفرادا وجماعة..
إن غياب الوعي بواقع المسلمين الذين يتعامل الفرد المسلم معه، يمكن أن يؤدي إلى الانسياق الخطير وراء أساليب مخادعة تستخدم شعارات وعناوين ومظاهر ومسميات مغرية.
وإن غياب الوعي بالواقع الذي يتحرك المقاتل على أرضيته، يمكن أن يسبب عبر القتال نقيض الهدف المشروع منه، فيحمل الفرد نفسه المسؤولية عن ذلك.
وإن غياب الوعي بشروط القتال ومؤهلاته وحدود استخدامه، يمكن أن يجعل وسيلة القتال.. وسيلة إلى تحقيق أهداف أخرى غير الهدف المشروع الموجب لتلك الوسيلة.
وإن غياب الوعي بالإسلام نفسه يمكن أن يجعل من وسيلة "القتال المشروع" قتلا غير مشروع.
نبيل شبيب